لا يحول فصل الشتاء دون وصول سكّان المناطق النائية إلى المناطق المجاورة، للتزود بالمؤونة وأدوات التدفئة فقط؛ بل تحول ثلوجه وبرده، أيضا، دون وصول مجموعة من أبناء هذه المناطق إلى مستويات دراسية تمكِّنُهُم من خوض غمار "مستقبل آخر". محمد وباسو شابان لم يُتمّا بعد عقدهما الثاني، تكالب عليهما برد إملشيل وضعف التكوين وغياب التدفئة وعدم تجهيز الداخليات ومصاريف التنقل.. ليجدَا نفسيهما خارج مقاعد دراسة نواحي إملشيل، وفي قلب مشاكل المنطقة التي تشكو البردَ وضعف فرص الشغل والعزلة. "العِلْمُ ليس هنا" "هنا لا يوجد العلم، هنا يوجد التهميش والإقصاء"، بهذه الكلمات أجمل بائع خضر شاب يقطن بإحدى القرى دائرة إملشيل حديثه عن وضعية منطقته وسبب تركه مقاعد الدراسة. محمد، بائع خضر يقطن بإحدى القرى التابعة لجماعة بوزمو الترابية بدائرة إملشيل، انقطع عن الدراسة في مستوى الباكالوريا، ويبرّر "قراره" هذا بكون "الدراسة شبه منعدمة بالمنطقة"، مذكّرا بأن الاستيقاظ في الساعة السابعة صباحا بإملشيل يعني: "أنك ستتجمّد من البرد، وستجد القسم مجمّدا". المستوى "الناقص" للأساتذة، وتلوّث الداخليات، وضعف مستوى الأكل المقدّم فيها، أيضا، أسباب شجّعت محمدا على مغادرة قسمه؛ لكن ما دفعه إلى طيّ صفحة التعلّم النظامي، هو: "البرد، وغياب التّدفئة بالأقسام". باسو، شاب من إحدى قرى إملشيل، لم يحالفه "حظ" محمد، فغادر مقاعد الدراسة في السنة الأولى من التعليم الإعدادي، ليمتهن الرعي "بدوام كامل"؛ لأنه المورد الأساسي لأسرته، ولأن أخاه الأكبر لا يستطيع أن يستمرّ، وحدَه، في الرعي. عقد العزم على ضرورة مساعدة الأخ الأكبر في أهم نشاط مُدرّ للدخل تمْتَهنه القرى التابعة لدائرة إملشيل، لم يكن فجائيا حسب باسو، بل نتج عن "مشاكل عديدة"؛ من بينها: "عدم توفّر مصاريف شراء الكُتُب، وصعوبة توفير مصاريف التنقل اليومي؛ لأن الإعدادية بعيدة بثمانية وثلاثين كيلومترا في طريق وعرة تحتاج عشرة دراهم كل يوم، وعدم تنظيف الداخليات وتنظيمها، وخوف الوالدين من اضطرار أبنائِهِم إلى الاكتراء والسكن الجماعي في سنّ مبكّرة وعدمِ قدرتهم على التكفّل بأنفسهم".. "مزيد من الإقصاء" خلُص المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، في تقريره السنوي الذي رفعه إلى الملك محمد السادس في سنة 2018، إلى أنّه: "في غياب إصلاح جريء وفعلي للمدرسة العمومية، تعاني الشرائح الفقيرة التي تستمرّ فيها من مزيد من الإقصاء ومن ضعف فرص الارتقاء الاجتماعي"، مضيفا أن هذه الوضعية تعني أن: "المدرسة سوف تساهم في إعادة إنتاج الفوارق، بل في تعميقها، بدل الحدّ منها". تقرير المجلس الاستشاري، نفسه، ذكّر ب"التقدم الكبير الذي تمّ في العقد الأخير على مستوى تنمية العالم القروي في مجالات مثل التربية، والتعليم، وفك العزلة"، ثم دعا إلى "توفير استقلالية أكبر للمؤسسات التعليمية بالمناطق الجبلية وتمكينها من وسائل عمل أكثر، وتوفير التدفئة بالمدارس، وضمان ربطها بشبكة الأنترنيت"، موضّحا أن "الفقر والهشاشة يتمركزان أساسا في المناطق القروية، ولا سيما في المناطق الجبلية والمناطق النائية"؛ وهو ما يرجع إلى استمرار "اتّسام البنيات التحتية بالضعف.. فضلا عن ضعف الولوج إلى الخدمات والبنيات التحتية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية"، حسب تعبير التقرير. "تزايد معدلات التكرار، والانقطاع عن الدراسة، وضعف استكمال الدراسة" مظهر أخرى لفتت، أيضا، انتباه التقرير السنوي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، الذي حذّر من "النتائج الاجتماعية الكارثية" المترتّبة عن هذه الظواهر، مثل: "انتشار الأمية، وتعزيز صفوف الشباب العاطلين، والانحراف". وذكرت الجمعية الحقوقية، في تقريرها الذي صدر في شهر أكتوبر من سنة 2018، أن نسبة التمدرس في الوسط القروي المغربي لم تتجاوز 40.6 في المائة، بينما وصلت نسبة التمدرس في الوسط الحضري إلى 86.3 في المائة؛ وهي المؤشّرات التي رأت الجمعية أنها "تخفي فوارق مهمة بين الجهات والأقاليم وداخلها". برد بأي حال عدت يا برد مشاكل التعليم والهدر المدرسي جزء من مشكل أكبر تعيشه هذه المنطقة الجبلية كلما دقَّ أبوابَها فصلُ الشتاء؛ وهو ما عبّر عنه العماري، شيخ جاوز السبعين من عمره يمتهن التجارة بإملشيل، بقوله: "لا يوجد -هنا أي- شيء حقيقة"، أو "ما كاين -هنا- والو نّيت". هذه المنطقة سبق أن سجّلت "رقما قياسيا" وصل إلى 10 درجات مئوية تحت الصفر حسب المديرية الوطنية للأرصاد الجوية؛ لكن، على الرغم من الصعوبات التي يواجهها سكان بلدة إملشيل، والتي كان آخرها في السنة الماضية "15 يوما قاسيا، حقيقَة، وصل فيهِنّ سمك الثلوج إلى 3 أو 4 أمتار في الطرقات، في ظل ارتفاع سعر حطب التدفئة؛ فمكثنا في بيوتنا لا نقوم بشيء"، بتعبير العماري، فإن الوضعية الأعوصَ تعيشُها ساكنة الدواوير البعيدة عن إملشيل، التي لم يَحضُرِ المُتَحَدّثَ وَصْفٌ يُوفِيهَا "قسوتَها" فاكتفى بقول: "الحالَةُ حَالَةُ الله". سكان الدواوير البعيدة عن إملشيل بعشرين كيلومترا، حسب الشيخ السبعيني، "لا عمل لهم في البرد إلا الرعي، وليس عندهم طريق، ولا إضاءة، ولا ماء في بيوتهم مما يضطرهم إلى اللجوء إلى الواد أو العين"، وهي وضعية أجمل "قتامتها" في قول: هؤلاء الناس لا عمل لهم "ولا أيّ شيء".