تتوزع سلطة القضاء في النظام القضائي الزجري، خصوصا في ضوء أدبيات المدرسة الجرمانية اللاتينية التي ينتمي إليها النظام القانوني المغربي، بين قضاء النيابة العامة وقضاء الحكم. ويتألف هذا الأخير بدوره، فضلا عن قضاء الحكم المحض، من قضاء التحقيق الذي يتميز بميزات خاصة في قانون المسطرة الجنائية. ومن أبرز تلك الميزات، هي المزج بين بعض صفات قضاء النيابة العامة من جهة، وقضاء الحكم المحض من جهة أخرى ؛ ذلك أن الماهية القانونية لقاضي التحقيق، تتبدى، أساسا، عند ممارسته لصلاحياته المسطرية، في اقتباسه دورَ النيابة العامة في البحث عن أدلة الجرائم ومرتكبيها، والإشراف على الشرطة القضائية بمختلف أنواعها في حدود ما تسمح له به تلك الصلاحيات، كما يمتح من قاضي الحكم خصيصة الاستقلالية في عمليتي البحث وتقدير الأدلة المستخلصة من حيث مدى كفايتها ومشروعيتها لتوجيه الاتهام بارتكاب جريمة من عدمه. من هنا، كان وَسمُ قاضي التحقيق في أوساط الفقه الجنائي الفرنسي ب "القاضي القوي" في المسطرة ؛ فلا هو مقيد بأوراق الدعوى المحالة عليه من قبل النيابة العامة، ولا بملتمساتها المختلفة، بَلْهَ ما أُنجز من أعمال ضبطية خلال مرحلة البحث التمهيدي. بل، أكثر من هذا، فإنه القاضي الوحيد الذي يجمع بين صفة "الآمر" الذي يُصدر أوامره طبقا للقانون، و"المنفذ" الساهر على تنفيذ تلك الأوامر في الآن ذاته، ما لم يأمر بتفويض تنفيذها إلى الشرطة القضائية أو النيابة العامة (المادتين 40 و189 م. ج). ولعل أجلى ما تتكشف عنه هذه القوة، هو الموقع المتقدم لقاضي التحقيق في المسطرة الجنائية، إذ منحه المشرع المغربي قوة عملية لمَّا نص في المادة 75 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي: "إذا حضر قاضي التحقيق بمكان وقوع الجناية أو الجنحة المتلبس بها، فإن الوكيل العام للملك أو وكيل الملك وضباط الشرطة القضائية يتخلون له عن القضية بقوة القانون. يقوم قاضي التحقيق في هذه الحالة بجميع أعمال ضباط الشرطة القضائية المنصوص عليها في هذا الباب، وله أن يأمر أيا من ضباط الشرطة القضائية بمتابعة العمليات". ومما تستلزمه مقتضيات هذه المادة، أمرين اثنين: أولهما: أن مناط وضع قاضي التحقيق يده على القضية في حالة التلبس، هو صفته ك "ضابط سام" للشرطة القضائية. وبالتالي، فلا يتوقف الأمر حينها على ملتمس من النيابة العامة بإجراء تحقيق فيها، خلافا للمقرر في الحالات العادية المنصوص عليها في المادة 83 من قانون المسطرة الجنائية ؛ ثانيهما: أن تخلي الوكيل العام للملك أو وكيل الملك أو ضباط الشرطة القضائية المختصين نوعيا بالبحث في القضية عن هذه الأخيرة، يكون بقوة القانون لفائدة قاضي التحقيق. وعليه، وإعمالا لدلالة مفهوم المخالفة، فلا تجوز مزاحمة قاضي التحقيق في أعمال البحث في الجريمة المتلبس بها ألبتة، سواء تعلق الأمر بجناية أو جنحة، وإلا كان ذلك موجبا للمساءلة التأديبية، اللّهم إذا أصدر أمره لأحد ضباط الشرطة القضائية بمتابعتها تحت إشرافه. بيد أن ما يثار من تساؤل في هذا الصدد، هو: هل هذا الوضع القانوني القوي –إن صح التعبير مجازا- يحول دون مساءلة قاضي التحقيق تأديبيا عن الإخلالات التي قد يرتكبها في عمله ؟ لا شك أن قاضي التحقيق، شأنه في ذلك شأن كل القضاة، يخضع للمساءلة التأديبية كلما أَخَلَّ: "(..) بواجباته المهنية أو بالشرف أو الوقار أو الكرامة (..)"، تطبيقا للمادة 96 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، التي جاءت عامة في بنائها لتشمل كل فئات القضاة، بغض النظر عن مهامهم الوظيفية المختلفة. وإذا كانت موجبات المساءلة التأديبية المبنية على القيم الثلاثة الأخيرة لا تثير كبير إشكال بخصوص قاضي التحقيق، فإن الأمر خلافه بالنسبة لواجباته المهنية التي تختلف، إلى حد ما، عن مثيلتها لدى باقي القضاة، إلا ما تعلق بواجب الحياد والتجرد والاستقلالية. فما هي حدود الواجبات المهنية المستوجبة لمساءلة قاضي التحقيق مهنيا ؟ لما كان من المتعذر، قانونا ومنطقا، مساءلة قاضي التحقيق عن الخرق الخطير لقانون الموضوع باعتباره قاضيا ل "الاتهام" لا يتولى سوى تطبيق قانون الشكل، ونظرا لتشعب القضايا المسطرية التي يُفضي الإخلال بها من طرفه إلى المساءلة المهنية، فإننا ننتخب للإجابة عن هذا التساؤل، بالدراسة والمناقشة، حالة كليةً هي الأكثر حدوثا في الواقع المهني المعاش، كان قد أحيل بمقتضاها –فيما مضى ولا زال- قضاة للتحقيق على التأديب بعلة الإخلال بواجباتهم المهنية، ملخصها: أن قاضي التحقيق قد أصدر أمرا بمتابعة شخصين متخاصمين وأحالهما معا على المحاكمة من أجل محاكمتهما، موجها الاتهام إلى كل واحد منهما بشكل يختلف عن اتهام الآخر ويناقضه، لدرجة أن ثبوت تهمة أحدهما تنفي بالتبع تهمة الثاني، مؤسسا ذلك بما استُجمِع لديه من وسائل الإثبات التي تعزز تلك الاتهامات وتبررها بالرغم من اختلافها، مما نُعي معه أمره هذا بعدم الحسم في ثبوت فعل أحد المتهمين ومتابعته فقط دون الآخر، فضلا عن التناقض الذي شاب حيثياته ومنطوقه. واستبطانا لما تحويه هذه الحالة "الأنموذج" من عناصر الجواب عن التساؤل الآنف، نورد بعض المفاتيح القانونية الكفيلة بتفكيكها في ضوئه، وهي كالتالي: أولها: أن المعلوم من قانون المسطرة الجنائية بالضرورة، وارتباطا بكيفية التعاطي مع وسائل الإثبات أثناء مرحلة التحقيق الإعدادي، فإن مناط دور قاضي التحقيق في تسطير متابعة ضد شخص ما، هو أن تكون هناك أدلة كافية تبرر تلك المتابعة، بحسب دلالة مفهوم مخالفة نص المادة 216 من ذات القانون في فقرتها الأولى، التي جاءت كالتالي: "يصدر قاضي التحقيق أمرا بعدم المتابعة إذا تبين له أن الأفعال لا تخضع للقانون الجنائي أو لم تعد خاضعة له، أو أنه ليست هناك أدلة كافية ضد المتهم، أو أن الفاعل ظل مجهولا". ثانيها: أنه، ونزولا عند هذا المقتضى، يتأدى مدلول كفاية الأدلة المُبَرِّرة للمتابعة، في عدم رُقِيِّه إلى درجة كفاية إثبات الجريمة ؛ فقد يكون الدليل مبررا للمتابعة، ولكنه غير كاف للإدانة التي تستوجب الاقتناع الصميم للمحكمة –أي قاضي الحكم وليس قاضي التحقيق- المبني على الجزم في إثبات العناصر التكوينية للجريمة موضوع المتابعة، وفق مقتضيات المادة 286 من القانون أعلاه، التي جاءت في سياق القسم الثالث منه، والموسوم ب: "شأن عقد الجلسات وصدور الأحكام"، حيث نصت على ما يلي: "يكون إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات، ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون فيها بخلاف ذلك، ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم، ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند 8 من المادة 365 الآتية بعده". ثالثها: أن مما قُضي تطبيقا لهذا المقتضى، كون: "وصف قاضي التحقيق للأدلة المعروضة عليه المتمثلة في الشهادة الطبية المعززة لتصريحات الضحية بأنها تعرضت للاعتداء من طرف زوجها المتهم الذي هو معها في نزاع بشأن رفضها المكوث مع والديه، وتأكيد هذا الأخير بأن سبب اتهامها له هو النزاع المذكور بأنها غير كافية لإثبات الجريمة، والحال أن الاقتناع الجازم بثبوتها ليس مطلوبا إلا بالنسبة للمحكمة، أما قاضي التحقيق فيكفي قيام أدلة تبرر المتابعة ولو لم تكن مقنعة للإدانة، يعد خروجا عن القاعدة المذكورة، مما كان معه القرار المطعون فيه فيما اعتمده فاسد التعليل المنزل منزلة انعدامه، والموجب للنقض والإبطال" (قرار محكمة النقض عدد 962-5، صادر بتاريخ 20-05-2009، في الملف عدد 19634-6-5-2007، نشرة قرارات المجلس الأعلى، الجزء 2، ص 125). وتكريسا لذات التوجه وتثبيته، ذهبت محكمة النقض في اجتهاد آخر إلى أنه: "لما كان قاضي التحقيق قد علل أمره بأن: "شهادة فاطمة غير منتجة في الدعوى باعتبارها خصما للمتهمين"، فإنه يكون قد زاغ عن وظيفة البحث عن الدليل وتوجيه الاتهام على أساسه، وتعداها إلى ما يدخل في سلطة قضاء الحكم من تقدير للقيمة الإثباتية لهذا الدليل، وتكون الغرفة الجنحية التي سايرته في ذلك بعلة أن: "شهادة الشاهدة فاطمة رغم انها أكدت مشاهدتها للمتهمين يسرقان خلايا النحل من الحوش، إلا أنها عادت وأكدت أن النزاع بين الطرفين يدور حول هذا الأخير، وهو ما يزكي ما انتهى إليه قاضي التحقيق"، قد حادت بدورها عن وظيفتها كدرجة ثانية لقضاء التحقيق، مما كان معه قرارها غير مؤسس ومعرضا للإبطال" (قرار عدد 51، صادر بتاريخ 13-01-2011، في الملف عدد 13310-6-9-2010، نشرة قرارات المجلس الأعلى، الجزء 8، ص 97). رابعها: أن هذا، وإن كان ثابتا، قانونا وقضاء، فلا سبيل لمعرفة مدى كفاية الأدلة من عدمها إلا بإعمال قاضي التحقيق لسلطته في تقدير ذلك، وأن من غير المشروع مساءلة هذا الأخير مهنيا عن جوهر تلك السلطة التي منحه إياها المشرع، إذ لا رقابة عليه بخصوصها إلا من طرف الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف -كدرجة ثانية لقضاء التحقيق- التي لها، حصرا، إما تأييد أمر قاضي التحقيق أو إلغائه أو تعديله في حال استئنافه (المادة 243 م. ج). بل، أكثر من هذا، فحتى محكمة النقض باعتبارها أعلى هيأة قضائية، لا يمكن بسط رقابتها على قيمة الحجج والأدلة التي أخذ بها قاضي التحقيق (المادة 518 م. ج). نستخلص مما سلف، أن الواجبات المهنية المستوجبة لمساءلة قاضي التحقيق من الناحية المهنية، وفق الحالة "الأنموذج" المعتمدة في هذه المطارحة أعلاه، تتأطر من خلال النقطتين التاليتين: أولاهما: أن دور قاضي التحقيق، ينحصر، فقط، في جمع الأدلة وتقييم مدى كفايتها وتبريرها للمتابعة، ثم الإحالة على المحكمة من أجل المحاكمة طبقا للقانون، ولو بدا ذلك متناقضا كالحالة موضوع المناقشة، فهو لا يبني مقرره على "الاقتناع الصميم" حتى نلزمه بالحسم في تقييم تلك الأدلة من حيث ثبوت الجريمة أو عدمه. ثانيتهما: أن المحكمة، وبما لها من سلطة واسعة في تقدير وسائل الإثبات، هي من تضطلع، حصرا، بصلاحية تقييم مدى ثبوت الجريمة من عدمه في ضوء ما استجمعه قاضي التحقيق من أدلة، والحكم بناء على اقتناعها الصميم إما بالإدانة أو البراءة، إلا إذا تسرب إلى قناعتها شك، فيتعين، حينها، تفسيره لفائدة المتهم (المادة 1 م. ج). وتحصيلا من هاتين النقطتين، فإن من غير المستساغ تحريك المسطرة التأديبية في مواجهة قاض للتحقيق لمجرد أنه مارس سلطته التقديرية في القول بكفاية الأدلة المبررة للمتابعة، وإحالة القضية على المحكمة للحسم في جوهرها وفق ما يخولها القانون، طالما أن لا سبيل للرقابة على تلك السلطة، سوى إعمال طرق الطعن في الأمر الصادر عنه بالاستئناف أمام الغرفة الجنحية، إذا لم يكن هناك مانع من القانون نفسه. هذا، وأن من غير المقبول، أيضا، دستورا وقانونا وكونا، مساءلة قاض للتحقيق تأديبيا على إعمال سلطته المذكورة في القول بكفاية الأدلة المبررة للمتابعة، والحال أن القضية التي بمناسبتها أثيرت تلك المساءلة –في الغالب الأعم- تكون لا زالت معروضة على قضاء الحكم للبت في موضوعها، وهو ما قد يؤثر، لا محالة ولا ريب، على مقرر هذا الأخير ؛ حيث تكون جهة التأديب ذاتها، والتي يخضع لها، أيضا، قاضي الحكم، قد أبرزت موقفها حول جوهر القضية ضمنا ومن حيث لا تدري، مما نكون معه أمام محاولة للتأثير على استقلالية السلطة القضائية، الواقعة تحت طائلة المنع المنصوص عليه في الفصل 109 من الدستور. *الكاتب العام ل "نادي قضاة المغرب"