لا شك أن الجهوية المتقدمة تعتبر أداة لا محيد عنها من أجل تحقيق الحكامة الترابية، ومن ثمة الانتقال بالتدبير الجهوي من التدبير البيروقراطي المرهون بالإدارة المركزية إلى التدبير التشاركي الذي يعتمد على النخب المحلية في صناعة القرارات، الأمر الذي يجعها تضطلع بأدوار إستراتيجية في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية على المستوى الترابي. ومرّت أربع سنوات على إقرار الجهوية المتقدمة، التي انطلقت سنة 2015، إلا أن حصيلتها مازالت تثير الكثير من التساؤلات، بسبب التأخر في تطبيق مخططات التنمية الجهوية، ما يعرقل عمل المجالس الجهوية في مجال جلب الاستثمارات وصناعة القرارات المحلية، علما أن العديد من الانتقادات توجه للإدارة المركزية حول احتكارها للاستثمار على الصعيد الترابي إلى حدود اليوم، ما مرده إلى كون إشكال توزيع السلطة بين المركز والجهات مازال مطروحا بشدة لدى الدولة. تحاول جريدة هسبريس الإلكترونية تقييم حصيلة الجهوية المتقدمة بالمغرب، ومدى مساهمتها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية على الصعيد الترابي، لاسيما في ظل النموذج التنموي الجديد المنشود؛ كما تشرّح أهم المطبّات التي تعرقل عمل المجالس الجهوية، من خلال طرح سؤال محوري على مجموعة من الأساتذة الجامعيين مفاده: أين وصل ورش الجهوية المتقدمة بالمغرب؟. أدمينو: صناعة الاستثمار بالجهات مرتبطة بممثلي الإدارة المركزية قال عبد الحفيظ أدمينو، أستاذ القانون الإداري في جامعة محمد الخامس بالرباط، إن "ورش الجهوية المتقدمة تأثر بسياقات عدة، منها السياق التشريعي المتمثل في التأخر الكبير للإطار المعياري، رغم الانتخابات التي جرت بالمجالس الجماعية، لكن الترسانة القانونية لم تُستكمل إلا في أواخر سنة 2016، الأمر الذي أثر نسبيا على تفعيل مجموعة من المقتضيات الواردة في القانون، من بينها الاختصاص الذي مُنح للمجالس الجهوية في إعداد برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالجهات". وأضاف أدمينو، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "عملية مواكبة وإعداد هذه البرامج تأثرت بسياسة اللاتركيز في الدولة، إذ رغم إعداد المجالس للمخططات الجهوية إلا أنها أصبحت بدون تأثير، على اعتبار أن معظم المشاريع التي تمت برمجتها على مستوى الجهات ذات ارتباط مباشر بتمثيليات الوزارات في الجهات، ما يجعلها لا تمتلك إلى حدود اليوم صلاحيات مهمة في ما يخص مواكبة المجالس الجهوية لمختلف المشاريع التي تهم القطاعات الحكومية". وأوضح أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي أن "مرسوم اللاتركيز الإداري كان مهما للغاية، لأنه يضع على الأقل الإطار القانوني لممارسة صلاحيات التمثيليات الجهوية التابعة للوزارات، المرتبطة أساسا بالتصديق ومواكبة المجالس الجهوية، لكن رغم الفراغ الذي وُجد من ذي قبل، حاولت الدولة بطبيعة الحال أن تلجأ إلى تقنية التعاقد المباشر مع الجهات من خلال اعتماد المخططات الجهوية للتنمية، ومن ثمة عملت على تنظيم لقاءات مشتركة حضرها رئيس الحكومة بهدف إبرام تعاقدات بين الجهات والدولة، بواسطة التمثيليات الوزارية الخاصة بمواكبة المشاريع التي بُرمجت في إطار المخططات". وأردف المتحدث: "تتدخل الدولة في شق الاستثمار بموجب الفصل 145 من الوثيقة الدستورية، إذ صادق مجلس المستشارين على القوانين المتعلقة بإحداث اللجان الجهوية للاستثمار والمراكز الجهوية للاستثمار، على اعتبار أن قرار الاستثمار لا يرتبط بالمجالس المنتخبة فقط، وإنما تتدخل الدولة أيضا من خلال مسؤولية المصالح المركزية في جلب الاستثمار وتسهيل مأمورية المستثمرين على المستوى الترابي. كما لا ننسى أن الجانب الأساسي الذي يميز المجالس الجهوية عن غيرها من الجماعات الترابية يكمن في اتخاذ التدابير التي يمكن أن تشجع على الاستثمار والمقاولة والمبادرة الاقتصادية بشكل عام". وأشار المتحدث إلى كون "القانون والممارسة يكرسان هيمنة ممثلي الإدارة المركزية على قرار الاستثمار على الصعيد الترابي، الأمر الذي قد يخلق نوعا من الاتّكالية بين مجلس الجهة والمجالس الجهوية للإدارة المركزية، وبالتالي لن تعود الجهة مجالا لاستقطاب الاستثمارات بقدر ما ستكون ربما مجالا لتنفيذ الاستثمارات التي جُلبت من قبل الإدارة المركزية أو ممثليها على المستوى الترابي، وقد يؤثر على هذا الاختصاص بالنسبة للمجالس الجهوية". خمري: تفعيل الجهوية رهين بتوزيع السلطة بين الفاعل المركزي والجهوي من جهته، أوضح سعيد خمري، أستاذ العلوم السياسية والتواصل السياسي في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية، أن "الجهوية المتقدمة مازالت ورشا مفتوحا انطلق تدعيمه المؤسساتي من خلال دستور 2011، لكن بصدور القوانين التنظيمية كان هنالك سعي من قبل المُشرع من أجل ترجمة تلك الأهداف المتوخاة من مأسسة الجهوية المتقدمة، بحيث كان هنالك تعثر في إخراج هذه النصوص التنظيمية، وبالتالي إيجاد الوسائل المالية اللازمة لتفعيل الجهوية المتقدمة". واعتبر خمري، في تصريح لهسبريس، أن "الجهوية المتقدمة من الناحية الدستورية والقانونية والمؤسساتية طفرة نوعية في مسار اللامركزية الإدارية بالمغرب، ولا شك أن صدور الميثاق الوطني للاتمركز الإداري من شأنه أن يعطي دفعة أخرى لهذا الورش، باعتباره مسلسلا ومسارا (processus) يحتمل بعض التعثرات في الطريق بين المد والجزر، لكنه لا يرتبط فقط بالوضع المؤسساتي والقانوني والتشريعي، وإن كان هذا الجانب يكتسي أهمية كبرى، بل يتوقف على مدى جاهزية النخب المحلية والجهوية". وشدد رئيس المركز الديمقراطي المغربي للدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية على أن تفعيل ورش الجهوية المتقدمة رهين ب"وجود إرادة حقيقية للفاعلين السياسيين بمختلف مستوياتهم، سواء الفاعل الترابي أم المركزي، ذلك أن التفعيل يلزمه النص القانوني ومختلف الجوانب المؤسساتية والتنظيمية والهيكلية، لأنها مسائل ضرورية ومؤطرة لا غنى عنها، إلا أن العنصر المتعلق بالفاعل السياسي ومدى توفر الإرادة السياسية له تأثير أيضا على تنفيذ العملية". وختم صاحب كتاب "روح الدستور..الإصلاح: السلطة والشرعية بالمغرب" تصريحه بالقول: "الأمر لا يتعلق بتوفر الإرادة فحسب، وإنما بضرورة الشروع في تطبيق هذه الإرادة على أرض الواقع بغية تفعيل ورش الجهوية المتقدمة، وهي مسألة ليست هيّنة لأنها لا تتعلق بمجرد قرارات، بل بمسألة إعادة النظر في توزيع السلطة بين الدولة والجهات، لما لها من ارتباط من بالمسار السياسي والديمقراطي في ظل الظروف الجيو استراتيجية والإقليمية المتوترة، ما يجعل الفاعلين السياسيين في حالة تردد بخصوص العلاقة بين المركز والجهات". عايش: مشروع الجهوية بالمغرب يحتاج إلى إعادة التفكير والصياغة كريم عايش، عضو مركز الرباط للدراسات الإستراتيجية، قال إن "الجهوية تعد من الملفات الإدارية والاقتصادية التي أُسيل حولها الكثير من المداد، إذ اختلف حولها فقهاء القانون والاقتصاد المغاربة؛ ففي كل مرة يتم التسطير على أنها من التدابير الترابية المهمة التي ستسهم في تطور المغرب والرقي به إلى مصاف الدول المتقدمة، لأنها اعتمدت هذا النوع من التدبير، ولعل تجربة المقاطعات الألمانية خير الأمثلة التي تم تبنيها من تدعيم هذا المشروع". وأضاف عايش، في تصريح للجريدة، أن "انطلاق التنصيص على الجهوية في النصوص القانونية، من خلال دستور سنة 1992، أشر على منعطف جديد في إطار تطوير آليات سياسة اللامركزية، على اعتبار أن دسترة الجهوية سيُمكن من تدعيم هذا التوجه وإيلائه الأهمية البالغة"، وزاد: "ومن ثمة نستطيع القول إن الأوراش القانونية والتنظيمية التي اعتمدت مكنت من التخفيف من ضغط مركزية القرارات والمساطر، بمنح المراكز الإقليمية والمندوبيات استقلالية أكبر في تدبير الأمور الإدارية والقانونية للمواطنين، وبذلك يكون الشعار الشهير تقريب الإدارة من المواطنين عنوان المرحلة". وأوضح الباحث في العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس بالرباط أن "المقترح المغربي للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية المُقدم سنة 2007 عجل بالرفع من أهمية الجهوية وتطوير تصورها، وبالتالي دسترتها في النسخة الجديدة لدستور 2011، بعد تمكينها من صلاحيات واسعة تمكن من مباشرة العديد من الملفات على صعيد مركز الجهة، بواسطة مجالس جهوية منتخبة تعمل مع مؤسسات جهوية للرقابة والحكامة لتقوية الأداء المحلي في التعاطي مع الشأن العام"، وزاد: "الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المتوخاة منها مازالت تعاني من صعوبات من أجل بلورتها، وذلك بسبب كثرة النصوص القانونية التي تعنى بالشأن المحلي، وأيضا كثرة المصالح التي تتدخل في تسيير الشأن العام الجهوي بسبب ضعف التكوين القانوني والتدبيري للمنتخبين، ثم هيمنة سلطة الوصاية، دون إغفال عدم توازن السياسة الاجتماعية ومطابقتها للحاجيات الجهوية بسبب غياب إحصائيات دقيقة وإستراتيجية محلية واضحة". ونبّه المتحدث إلى كون "فشل النموذج التنموي بالمغرب وإعادة تأطير المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وإعادة هيكلة المراكز الجهوية للاستثمار، عبارة عن مؤشرات قوية تدل على أن مشروع الجهوية بالمغرب يحتاج إلى إعادة التفكير والصياغة، فضلا عن استقرار التقطيع الجهوي وتطابق كل التقطيعات الاقتصادية والإدارية والعسكرية حتى تصبح الجهة وحدة متكاملة، ويمكن بعدها إحداث مدونة الجهة على غرار المدونات الأخرى، التي مكنت من الحد من التأويلات وكثرة النصوص القانونية المبعثرة بين الجريدة الرسمية والمراسيم الوزارية والقرارات المركزية، حتى يتمكن الجميع من رؤية واضحة لهذا المشروع وتمكين الجهات من دستور إداري وقانوني يؤسس لممارسة واضحة المعالم، تتمكن الحكومة والمؤسسات السيادية من تقييمها وكشف نقائصها، ومن ثمّ تطعيمها وتطويرها".