مقدمة: شكل تدشين مشروع القطار فائق السرعة بمدينة طنجة المغربية يوم 15 نونبر 2018 من طرف الملك محمد السادس ورئيس فرنسا ايمانويل ماكرون مناسبة لعودة موضوع العلاقات المغربية الفرنسية، ليحتل مساحة هامة في الجدل الدائر في شبكات التواصل الاجتماعي وفي تعليقات قراء المواقع الإلكترونية، إذ ذهبت الكثير من الآراء إلى أن هذا المشروع ليست له أي أهمية في سلم الأولويات الاقتصادية الوطنية، وأنه ليس إلا تعبيرا عن التبعية المغربية للمصالح الفرنسية، ومدخلا آخر لتوطيد الهيمنة الفرنسية على الاقتصاد المغربي. وفي الاتجاه نفسه، أنجزت قناة الحرة الفضائية برنامجا حواريا، شارك فيه مثقفون وسياسيون مغاربة من مشارب فكرية مختلفة، أمثال الناشط والمثقف الأمازيغي "أحمد عصيد"، والكاتب والمثقف "حسن أوريد"، والسياسية الإسلامية "أمينة ماء العينين"؛ ورغم اختلافهم الفكري إلا أنهم أجمعوا في مداخلاتهم على تأكيد علاقة التبعية التي تجمع المغرب بفرنسا، واستمرار وصاية هذه الأخيرة على قراراته السياسية والاقتصادية، من خلال احتلال النخب الفرانكفونية المتخرجة من المدارس الفرنسية لمراكز القرار في الدولة. ويمكن مشاهدة هذه الحلقة على موقع "يوتيوب"، بعنوان "المغرب وفرنسا تبعية أم استقلال؟". وعليه ستعيد هذه المقالة مناقشة ودراسة هذا الموضوع، محتفظة بنفس العنوان الذي اختارته قناة الحرة الأمريكية؛ لكنها ستسعى في الوقت نفسه إلى تقديم رؤية مغايرة، تهدف إلى خلخلة الصورة والانطباع اللذين رسختهما وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي عن المغرب كدولة فاقدة لكل سيادة واستقلال تجاه مستعمرتها السابقة. فهل يعتبر المغرب فعلا دولة ناقصة السيادة وخاضعة للوصاية الفرنسية؟ وهل التموقع الفرنسي كأول شريك اقتصادي للمغرب يتيح لفرنسا إمكانية التدخل في الشؤون الداخلية لتوجيه السياسات الاقتصادية والسياسية للبلاد؟. أولا: المجهود الوطني الرسمي للتحرر الاقتصادي من الهيمنة الفرنسية: رغم الإعلان الرسمي عن استقلال البلاد وإلغاء معاهدة الحماية في 2 مارس 1956، ظل المغرب تحت الوصاية الاقتصادية الفرنسية بحكم مجموعة من العوامل الموضوعية التي رسختها الإدارة الفرنسية في عهد الحماية، أهمها: رواج العملة الفرنسية والخضوع لوحدة جمركية مع فرنسا وهيمنة البنوك الفرنسية والرأسمال الفرنسي على الاقتصاد الوطني...فضلا عن أن المغرب كان ملزما إلى غاية سنة 1959 بتوجيه صادراته حصريا نحو فرنسا، واستيراد حاجياته بالمرور إجباريا عبر باريس، لأنها كانت المصدر الوحيد للعملة الصعبة. هذا الوضع الذي استمر بعد الاستقلال، أدركت معه الدولة أن استقلالها السياسي والإداري عن فرنسا سيبقى شكليا ما لم تحقق استقلالها الاقتصادي والمالي الذي يعد المدخل الحقيقي لاسترجاع السيادة الوطنية، والتحكم في إدارة موارد الدولة. من هنا شرعت الحكومات المغربية منذ البدايات الأولى للاستقلال في التخطيط لبناء اقتصاد وطني مستقل ومنفصل عن الأنظمة والهياكل الاقتصادية التي أوجدتها الحماية. إن إنجاز هذه المهمة لم يكن سهلا كما يتصوره البعض، إذ حرصت الحكومة الفرنسية من جانبها على وضع المغرب في إطار ما سمته "الترابط الوثيق والدائم ما أمكن بين البلدين على المستويين المالي والاقتصادي"، فقد جاء في ورقة توجيهية لوزارة الخارجية الفرنسية حول تدبير مفاوضات الاستقلال مع الحكومة المغربية ما يلي: "يجب أن نحصل على قبول المغاربة البقاء ضمن منطقة الفرنك الفرنسي من جهة، ومن جهة ثانية موافقتهم خلق وحدة جمركية بين البلدين حالما تسمح الظروف بذلك". فرنسا، ومع اعترافها باستقلال المملكة، كانت ترغب في استمرار وصايتها المالية والاقتصادية كما هو الحال في الفترة الاستعمارية التي كان فيها الاقتصاد المغربي مندمجا اندماجا كليا في كل من فرنسا واسبانيا، وكان متمما لاقتصاد البلدين دون أن يتوفر على أي شخصية اقتصادية أو إدارية؛ وهذا هو الوضع الذي كانت فرنسا تطمح في الإبقاء عليه تحت ذريعة ما سمته الترابط الاقتصادي. ولهذا فقد أضحى تحرير الاقتصاد المغربي من الهيمنة الفرنسية أحد الرهانات الأساسية للدولة المغربية في السنوات الأولى للاستقلال. وفي هذا المضمار يمكن اعتبار حكومة عبد الله إبراهيم (1959) أول حكومة مغربية رفعت هذا التحدي بتدشينها أولى فصول المواجهة والصدام بين المغرب وفرنسا، حينما قررت تأميم بنك المغرب وانتزاعه من القبضة الفرنسية والخروج من منطقة الفرنك الفرنسي بإنشاء الدرهم كعملة وطنية؛ فهذا البنك الذي كان يسمى "البنك المخزني" تأسس سنة 1906 بناء على "معاهدة الخزيرات"، وكان الرأسمال الفرنسي الخاص والعام يسيطر على حصة الأسد من أسهمه، وكان يملك امتيازا حصريا بإصدار النقود في المغرب يمتد إلى غاية 1966، ويعتبر أحد أدوات الهيمنة المالية الفرنسية التي كانت تجعل المغرب خاضعا تماما لسيطرة فرنسا. ولهذا رأت حكومة عبد الله إبراهيم منذ سنة 1959 في استرجاع هذا البنك من طرف الدولة مدخلا أساسيا للتحرر من الهيمنة الفرنسية. ومن أجل تحقيق ذلك خاض رئيس الحكومة و"عبد الرحيم بوعبيد"، وزير الاقتصاد والمالية آنذاك، مفاوضات عسيرة مع الحكومة الفرنسية وإدارة البنك من أجل القيام بالتأميم لصالح الدولة المغربية؛ الأمر الذي كانت ترفضه فرنسا في جميع مراحل التفاوض وتعنتت في الاستجابة له، وتحججها المستمر بأنها لا تتوفر على صفة تخولها الضغط على المساهمين الخواص للتخلي عن باقي الأسهم التي تملكها من خلال مؤسساتها العمومية.. إلا أن إصرار الحكومة المغربية وضغطها المتواصل توج في النهاية بتأسيس بنك المغرب في 1 يوليوز 1959؛ والذي اعتبر في وقته استقلالا ثانيا للمغرب، بينما اعتبرت فرنسا الأمر إجراء عدائيا من جانب المغرب، وخروجا عمليا من منطقة الفرنك الفرنسي، وإضرارا بمصالحها1. وبهذه الخطوة دشن المغرب استقلاله المالي والاقتصادي، منهيا ما سمته فرنسا "الترابط الاقتصادي" الذي كان يهدف إلى استتباع المغرب من خلال إبقائه ضمن منطقة الفرنك الفرنسي وخضوعه لنظام جمركي فرنسي في إطار خطة محكمة لضمان الامتيازات التجارية لفرنسا في المغرب. لقد تابعت الدولة المغربية مخططها الرامي إلى بناء أسس الاقتصاد الوطني المستقل عن فرنسا، إذ سارعت مباشرة بعد تأسيس بنك المغرب وإنشاء العملة وطنية إلى بناء أذرعها المالية والاقتصادية بهدف تمويل الاقتصاد الوطني الناشئ وإرساء دعائم النموذج التنموي المغربي؛ وذلك من خلال تأسيس "البنك الوطني للتنمية الاقتصادية" للتحكم في تمويل التصنيع، والبنك المغربي للتجارة الخارجية للتحكم في التجارة الخارجية، وصندوق الإيداع والتدبير..ثم إلغاء جميع الاتفاقيات التي كانت تحد من حريتها التجارية والمالية كعقد الجزيرة الخضراء 1906 ومعاهدة 1856 مع بريطانيا. وقد أسعف نجاح هذه الإجراءات في المضي قدما وبتدرج نحو تصفية ما تبقى من تركة الحماية والخروج نهائيا من جميع أشكال النفوذ الفرنسي الإداري والتقني والعسكري والأمني...كإنهاء تواجد القوات العسكرية الفرنسية من المغرب في 2 مارس 1961، واسترجاع الأراضي الفلاحية التي كان يملكها المعمرون الفرنسيون بعد أن ظل المشكل عالقا لمدة 8 سنوات بعد الاستقلال وتأسيس جيش وطني مستقل، وعدم الاعتماد على فرنسا فقط في تسليحه، والاستغناء عن الضباط الفرنسيين من الجهاز الأمني المغربي. وحول هذا الحدث نستشهد بقصة يرويها "سيناصر بلعربي"، مدير ديوان رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم: "إثر توقيع اتفاقية الجلاء بين الرئيس إيزنهاور والملك محمد الخامس، وبحضور محمد الغزاوي، مدير الأمن الوطني، سأل الملك الغزاوي مستغربا: هل مازال يوجد أجانب في الأمن؟ فرد الغزاوي بالنفي، بينما بقي عبد الله ابراهيم صامتا، وجاء يحكي لرفاقه في الحكومة هذه الواقعة، فجاءه بعضهم بلائحة تضم أسماء هؤلاء الأمنيين الفرنسيين كي يرفعها إلى الملك تأكيدا لموقفه. ولم يستطع عبد الله ابراهيم إيصال هذه اللائحة إلى الملك، واهتدى عبد الرحيم بوعبيد بصفته وزيرا للاقتصاد والمالية إلى أن يقطع عنهم الأجور الشهرية التي كانوا يتوصلون بها من خزينة الدولة، فاحتجت السفارة الفرنسية على هذا القرار وكان ذلك في حد ذاته تأكيدا لوجود هؤلاء الخبراء في الجهاز الأمني الوطني". إن هذا القرار نبه الفرنسيين إلى أن زمن الوصاية انتهى، وأن المغرب لم يعد في حاجة إلى استشارة أحد في تدبير شؤونه الداخلية الأمنية والإدارية، وأن أي إجراء فيه مصلحة وطنية فلن تتردد الحكومة في اتخاذه مهما كلف من ثمن2. خلاصة القول أن المغرب قطع منذ استقلاله مسارا طويلا وعاش مخاضا صعبا من أجل تحرير اقتصاده من الهيمنة الفرنسية واسترجاع سيادته الوطنية، كما استطاع اتخاذ إجراءات اقتصادية وتجارية وإدارية وأمنية مست المصالح الفرنسية القائمة والمتراكمة منذ عقود، كما أنهت الوضع الامتيازي الذي كانت تحظى به فرنسا في فترة الحماية وسعت إلى الحفاظ عليه بعد الاستقلال. اليوم، وبعد أن جرت الكثير من المياه تحت الجسر، وبعد أن نجح المغرب في إرساء مؤسساته السياسية والاقتصادية وصار حائزا لمقومات الدولة الحديثة كاملة السيادة، كيف يمكن قراءة علاقته بمستعمرته السابقة فرنسا في ظل تغير المعطيات السياسية والاقتصادية للبلدين؟ وهل لازالت فرنسا تمارس وصايتها على المغرب أم أن عمرو شب عن الطوق؟. ثانيا: مظاهر السيادة الوطنية في توجهات السياسة الخارجية للمغرب السيادة في أحد تعريفاتها الكلاسيكية تتمثل في "قدرة الدولة على إعطاء الأوامر مع عدم تلقيها لمثلها من أي سلطة أخرى"، وهذا يعني أن الدول ناقصة السيادة هي التي تتلقى الأوامر من الغير؛ فإلى أي حد ينطبق هذا المفهوم للسيادة على علاقة المغرب بفرنسا. بعبارة أخرى وفي ضوء ذات المفهوم، هل لازال المغرب يتلقى الأوامر من فرنسا؟ وهل لازالت فرنسا قادرة على توجيه السياسات العمومية المغربية لخدمة مصالحها؟. إن الجواب عن هذه الأسئلة الكبيرة يحتاج إلى دراسة مطولة، وبما أن المجال هنا لا يتسع لذلك، فإننا سنكتفي بتحليل بعض القرارات والتوجهات التي اتخذها المغرب على المستوى الخارجي في السنوات الأخيرة، والتي تشف عن الكثير من مظاهر الاستقلال والسيادة، سواء في علاقة المغرب بفرنسا أو بغيرها من الدول. 1. سياسة تنويع الشركاء الاقتصاديين وإعادة بناء الأحلاف. "المغرب حر في قراراته واختياراته وليس محمية تابعة لأحد"، هذا التصريح الذي صدر عن الملك محمد السادس في خطاب الرياض يوم 20 أبريل 2018 جاء بعد أيام قليلة من زيارة قام بها الملك إلى دولة روسيا، حيث التقى في مقابلة رسمية بالرئيس "فلاديمير بوتين". هذه الزيارة التي تميزت بتوقيع اتفاقيات مهيكلة في العديد من المجالات الحيوية، وإبرام شراكات متعددة، شكلت مناسبة لإعلان هذا التصريح الحاسم من طرف الملك وتوجيهه إلى كل من كان يشكك في استقلالية المغرب وسيادته من جهة، ومن جهة أخرى إلى حلفائه التقليديين الذين قد لا يروق لهم توجه المغرب إلى بناء تحالف مع دولة مثل روسيا، توجد في وضعية صراع وتنافس مع حلفاء المغرب التقليديين، كفرنسا أو السعودية أو أمريكا. هذا التصريح القوي للملك هو تعبير عن الموقع الذي بات يحتله المغرب في المنتظم الدولي كدولة كاملة السيادة من حقها التكيف مع التحولات الدولية واختيار حلفاء جدد من خارج منظومة الحلفاء التقليديين، تماشيا مع التحول الذي طرأ على بنية النظام الدولي الذي أصبح يسير نحو التعددية القطبية، ما أصبح يحتم على المغرب صياغة سياساته الخارجية على ضوء هذه المستجدات، بالعمل على نسج تحالفاته مع القوى الدولية الجديدة التي أصبح لها دور كبير ومؤثر في الساحة الاقتصادية والسياسية الدولية، حماية لمصالحه وتعزيزا لاستقلاليته. وبعد روسيا جاء الدور على الصين، حيث قام الملك محمد السادس أشهرا قليلة بعد زيارته إلى روسيا بتنظيم زيارة رسمية إلى دولة الصين من أجل تعزيز العلاقات السياسية بين البلدين، رغم ما تشكل الصين من منافس اقتصادي تجاري شرس يهدد المصالح الفرنسية والغربية بصفة عامة في العالم كله، وفي إفريقيا خاصة. وقد توجت هذه الزيارة أيضا بإعلان شراكة إستراتيجية بين المغرب والصين بعد توقيع قائدي البلدين 15 اتفاقية للتعاون الثنائي، ومذكرات تفاهم ذات الصلة بمجالات القضاء الاقتصاد والمالية والصناعة والثقافة والسياحة والطاقة والبنية التحتية والشؤون القنصلية. إن اتجاه بوصلة المغرب صوب الشرق الأسيوي ببرنامج عمل حقيقي وشراكات إستراتيجية شكل ضربة موجعة لجميع التصنيفات الكلاسيكية والمقولات الجاهزة التي يرددها بعض الفاعلين والمحللين السياسيين حول تبعية المغرب وولائه المطلق للأحلاف التقليدية، دون أن يبذلوا أي مجهود عقلي يواكب تحولات السياسة الخارجية للمغرب. لقد أربك هذا التوجه الجديد للسياسات الخارجية المغربية الكثير من المسلمات لدى النخب المثقفة والرأي العام، وأصبح يفرض وضع قراءات ودراسات جديدة للتوجهات الإستراتيجية التي لم تعد تبنى على الانتماءات الإيديولوجية أو الأحلاف التاريخية، بل الشيء الوحيد الذي أًصبح يحكم القرار السياسي الخارجي هو المصلحة الوطنية، يدور معها حيث دارت. يقول الفرنسي "شارل سان برو"، المدير العام لمرصد الدراسات الجيوسياسية بباريس، في شهادة شاهد من أهلها: "تعليقا على زيارة الملك محمد السادس إلى الصين، إن هذه الزيارة تشهد على دينامية تحركات المغرب الذي يعرف كيف يتأقلم ويحرص على أن يطلق مجموعة من المبادرات في آن واحد، ويعرف كيف يتفادى الضربات حتى يحافظ على استقلاليته...إن سياسة المغرب سياسة الاستقلال الوطني التي تقوم على الكرامة والجرأة". 2. الاختراق المغربي لإفريقيا أولى الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش اهتماما خاصا بالقارة الإفريقية، لما تشكله من امتداد طبيعي وجيوستراتيجي للمغرب. وقد نجح هذا الأخير رغم وجود منافسة قوية من عدة دول من داخل وخارج إفريقيا في إرساء عدد كبير من الشراكات مع العديد من البلدان الإفريقية، في إطار إستراتيجية "جنوب جنوب"، وعلى أساس قاعدة "رابح رابح". وأضحت المملكة أول مستثمر في غرب إفريقيا، والثاني على مستوى القارة. "لقد ازداد حجم الحضور الاقتصادي للمغرب في البلدان الإفريقية، إذ نجد على سبيل المثال أن الاستثمارات المغربية في منطقة غرب إفريقيا ( مالي، غينيا، الغابون، ساحل العاج) تشكل حوالي نصف الاستثمارات الأجنبية المباشرة هناك، وشملت مجالات التمويل والتأمين والاتصالات والبنية التحتية والإسكان والمعادن...ما أهل المغرب ليكون المستثمر الأول في غرب إفريقيا متقدما على دول قوية من بينها فرنسا"3. لقد ظل غرب إفريقيا في إطار تقسيم مناطق النفوذ الدولي مجالا محفوظا للدولة الفرنسية منذ العصر الكولونيالي، ولهذا فاختراق المغرب لهذا المجال شكل تهديدا مباشرا لمصالحها وإضعافا للهيمنة الاقتصادية الفرنسية على هذه المنطقة، خاصة أن المبدأ الذي ارتكزت عليه سياسة المغرب الإفريقية، وهو ( رابح رابح)، بدا وكأنه موجه ضمنيا ضد سياسات وعلاقات استغلالية غير متكافئة قادتها دول غربية، في مقدمتها فرنسا، سادت لعقود طويلة وأفضت إلى إفقار ممنهج للدول الإفريقية المنتجة للمواد الأولية، بينما ازدادت الدول الغربية غنى وتقدما باستغلالها لهذه المواد. إن التحركات المغربية في غرب إفريقيا برؤية جديدة تتجاوز منطق "المركز والهامش"، بتعبير سمير أمين، اعتبرت من طرف فرنسا تمردا على الأعراف السائدة وأدت إلى تشكل موقف عدائي لدى دوائر القرار في باريس، حيث تم تصريف هذا الموقف في مجموعة من ردود الفعل المسيئة إلى الدولة المغربية ورموزها، ما أدخل العلاقة بين البلدين في أزمة دبلوماسية كادت أن تفضي إلى القطيعة. إلا أن هذه الأزمة بحد ذاتها عكست استقلالية القرار السيادي المغربي وأظهرت للجميع أن الأولوية في أي تحالف هي للمصالح العليا للبلاد. وهذا ما سنراه في الفقرة الأخيرة من البحث. 3. التدبير السيادي للأزمة الدبلوماسية المغربية الفرنسية: أثناء الجولة التي كان يقوم بها الملك محمد السادس بإفريقيا ليوقع على اتفاقيات اقتصادية مهمة، جاء الرد الفرنسي سريعا من خلال عدة سلوكات عدائية صادرة عن جهات رسمية مختلفة، بهدف الضغط على المغرب وإحراجه أمام الرأي العام الوطني والدولي، أهمها: توجيه استدعاء من طرف القضاء الفرنسي لمدير المخابرات المغربية عبد اللطيف الحموشي خلال تواجده بباريس للاستماع إليه في قضية تعذيب. راج في وسائل الإعلام الدولية تصريح لسفير فرنسا في واشنطن يحمل عبارات غير لائقة في حق المغرب وصلت إلى حد وصفه بالعاهرة. خضع وزير الخارجية المغربي "صلاح الدين مزوار" لتفتيش مهين في مطار "شارل ديغول"، في خرق سافر للأعراف الدولية. وضع المغرب من طرف وزارة الخارجية الفرنسية في خانة الدول التي حذرت رعاياها من زيارتها باعتبارها مهددة أمنيا. في المقابل شكلت هذه السلوكات فرصة لينسف المغرب من خلالها كل الأطروحات التي تشكك في السيادة المغربية، متخذا إجراءات حازمة تعبر عن عدم استعداد المغرب للتفريط في كرامته حتى لو تعلق الأمر بدولة حليفة أسدت إلى المغرب الكثير من الخدمات دفاعا عن وحدته الترابية. لقد تعامل المغرب مع هذه الأزمة بالندية لا بالتبعية كمستعمرة سابقة لفرنسا، وتصدى لهذه الإساءات بحزمة من إجراءات صارمة أبانت عن قدرته على توظيف واستثمار نقاط القوة التي تملكها الدولة لتدبير هذه الأزمة والوصول إلى مخرجات تصب في المصلحة الوطنية. وتمثلت هذه الإجراءات في ما يلي: قيام الملك محمد السادس بإلغاء زيارة إلى باريس كان مقررا أن يدشن فيها انطلاق فعاليات "المغرب المعاصر في معهد العالم العربي". استدعاء المغرب للسفير الفرنسي بالرباط يوم 22.02.2014 تعبيرا عن احتجاج المملكة على اتهام مديرية التراب الوطني "بالتواطؤ على التعذيب". مع الإلحاح في طلب تفسيرات عاجلة حول هذه الخطوة. تجميد المغرب لكل أنواع التعاون القضائي والأمني مع فرنسا. وقد استمر هذا التوتر لمدة سنة كاملة إلى أن تمت المصالحة بين البلدين وطي صفحة الخلاف بزيارة "فالس" إلى الرباط في أبريل 2015 ونظيره المغربي "عبد الإله بنكيران" إلى باريس شهر مايو من نفس السنة، وذلك بعد رضوخ السلطات الفرنسية للمطالب المغربية مقابل المصالحة، وتجسد ذلك في: الاعتذار الرسمي الفرنسي لمدير المخابرات عبد اللطيف الحموشي بمنحه وسام الشرف الجمهوري. تعديل المعاهدة القضائية وفق ما كان يطالب به المغرب، وذلك عن طريق التزام القضاء الفرنسي بمراسلة القضاء المغربي وإعطائه جميع المعلومات كلما تعلق الأمر بدعوى قضائية لمواطن مغربي، ما يعني أن القضاء المغربي أصبح بإمكانه عمليا تعطيل أي ملاحقة إذا لم يوافق على حيثياتها. وهكذا فقد عكست هذه الأزمة العابرة قدرة المغرب ليس فقط على حماية مصالحه وسيادته وحفظ هيبته، بل قدرته على فرض رؤيته على دولة لها مكانتها في المنتظم الدولي. ما تقدم هو نزر قليل من معطيات واقعية ملموسة تكشف زيف الكثير من الادعاءات والأفكار التي يتم نشرها هذه الأيام في إطار مخططات التيئيس وتزييف الوعي للوصول إلى حالة من القلق في المزاج العام، وتوتير علاقة المجتمع بالدولة، هذه الأخيرة التي هي أساس كل اجتماع بشري وكل تنظيم اجتماعي، وانهيارها هو انهيار للمجتمع وتمزيق لوحدته الوطنية. لقد أضحى الخطاب الذي يلقى رواجا من طرف الجمهور في أيامنا هو الخطاب الذي يشكك في جميع مبادرات الدولة ويبخس كل إنجازاتها. إن محاولة "الانتقاص من السيادة المغربية" ليس إلا شعارا شعبويا يلجأ إليه الكثير من الفاعلين السياسيين والنخب المثقفة لتبرير عجزهم عن إنتاج وابتكار الحلول والبدائل المجتمعية الكفيلة بتجاوز المشاكل والمعضلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها الدولة والمجتمع. إن مسألة السيادة هي قضية معقدة، وإشكالاتها لا تخص المغرب لوحده، وليست وليدة العلاقات المغربية الفرنسية، بل هي مسألة كونية تعاني منها حتى الدول المتقدمة، لأسباب متعددة، منها ما هو مرتبط بالخضوع للقانون الدولي أو الالتزامات التي يفرضها الانتماء إلى التكتلات والتجمعات الاقتصادية الإقليمية والدولية، ومنها ما له صلة بالنظام الاقتصادي والتجاري والمالي العالمي القائم على العولمة. فجميع دول العالم صارت تتأثر سيادتها بهذه الأسباب، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة حسب وضعها السياسي والاقتصادي، فبريطانيا مثلا حينما قررت الخروج من الوحدة الأوروبية، كان "التحكم في الحدود" و"من يضع القانون"، "واستعادة السيادة"، هي الحجج والشعارات الأساسية التي استعملت في حملة الاستفتاء للدفاع عن الخروج من الاتحاد الأوروبي، على أساس فكرة عاطفية مفادها أن استعادة السيادة هو الحل لكل مشاكل أوروبا؛ ولهذا فقد صار مشروع الاتحاد الأوروبي مهددا بسبب إرادة الدول الأوروبية القومية استرجاع سيادتها ورفضها لآثار العولمة. وصعود اليمين القومي واليسار الراديكالي وظهور السترات الصفراء في أكثر من دولة أوروبية (كإسبانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا...) القاسم المشترك فيه هو استخدام مفهوم السيادة الغامض الفضفاض لتقديم وعود سياسية لحماية الهوية، والحدود، والضمانات والوظائف واستعادة السيطرة على القرارات الداخلية. مراجع: 1- إسماعيل بلا وعلي بنك المغرب الاستقلال الثاني للمملكة، مجلة زمان ص 23 و24 و25.العدد 54 أ[ريل 2018. 2- عبد اللطيف جبرو لماذا أقيلت حكومة عبد الله إبراهيم. مجلة زمان، العدد 46 و47 غشت، شتنبر 2017. 3- محمد طيفور مداخل اختراق المغرب لافريقيا موقع العربي الجديد مقال منشور بتاريخ 14 12 2016.