" بالنسبة لي رأيت منذ البداية أن نصوصي يمكن أن تكون جواز سفر للوصول إلى جزيرة القارئ دون أن تحتاج إلى تأشيرةّ" محمد العتروس. محمد العتروس فنان، حكايته مع الثقافة نهر ينساب بدعة وأمان، يعرفه الشيوخ والولدان، وبفخر يُشار إليه بالبَنان، هنا في بركان، وهناك، وفي كل مكان. أديب مغربي شهير، يحار المرء في وصفه، يكشف في كل مرة عن قدرة عجيبة في نصرة الثقافة، وتشجيع المبدعين.. في " الثقافة" هو ألوان لا لون واحد، و كالنهر يهب " كنز الربيع" ولا يسأل، الضفتيْن، مقابلا. هو "عراب" العمل الجمعوي في بركان، ويحق لهذه المدينة المنسية أن تفخر به، وأن تقرّ عينُها بابنٍ بار آل على نفسه أن ينتشلها من الخمول إلى جِنان الفكر عبر إلحافها بالعمل الثقافي الهادف تنويراً، ومعرفة... محمد العتروس كاتب "يلوك الكلام"، فيصوغه ديباجة أنيقة في قصص شائقة، ترجمت أعمالُه إلى الفرنسية والإسبانية والإنجليزية...له من الإصدارات: "هذا القادم "1994 ،و"رائحة رجل يحترق" 1998،و"هلوسات" 2002 ،و"عناقيد الحزن" 2002 ، و"قطط تلوك الكلام" 2009، و"ذاك الوجه" 2010 ، و"أوراق الرماد" 2010 ، و"ماروكان" 2012 ، و"غالبا ما" 2015،و"وامرأة تقرع باب الله" 2015، ثم " الأعمال الكاملة" 2018. سألته في حوار لي معه عن بداياته باعتباره من الأدباء الشباب الأوائل الذين " لاكوا الكلام" حسب تعبيره في إحدى قصصه الجميلة، وفي جوابه اعتبر كل البدايات جميلة رغم المعاناة والحاجة إلى دعم وتوجيه، ورغم التهميش، وهي جميلة أيضاً مهما تكن تضمر أثراً لجرح، ومن الجروح التي تأبى أن تندمل هو الإعاقة الجغرافية على حد تعبيره، ويقصد بها الإعاقة الجغرافية (الانتماء لجغرافية المغرب غير النافع). وجمال البدايات هو نوع من نوستالجيا وحنين لفترة من فترات حياة مرت وانقضت.. يقول عن بداياته " أتذكر ذاك الطفل والشاب الذي كنته يجري بين أزقة المدينة الصغيرة، وينطلق بحرية في الحقول، ويبحث في المكتبات على قلتها عن كتاب يشفي غليله ويجيب عن بعض الأسئلة الوجودية والعاطفية والفلسفية والروحية. أتذكره يقرفص في حلقات السوق ليستمع للحلايقي يقص حكاية سيدنا علي وما فعله بالأعداء، ويلازم جدته لتحكي له حكاية وينام في حضن أمه وهي تغني له بالأمازيغية التي لم يتقنها يوما ولكنه يعشقها أبداً. أتذكره يكتب قصصاً ويرسلها للمنابر الأدبية ويقتطع من مصروف جيبه أو مما يوفره من بيع النخالة ليشتري المجلة والجريدة أو ليقتني تذكرة سينما. أتذكره ينشر نصه الأول فيطير فرحاً ويدخل عالم الكبار والمشاهير في وسطه الضيق ثم في مدينته. أتذكر أمه تدس في جيبه قيمة طبع كتابه الأول ثم تقبله حين تذيع إذاعة الجزائر قصصه بين الحين والحين وتقدم مسرحيته للأطفال في التلفزيون... " (الكلام مقتطف من حوار لي معه عام 2016)... ثم إن الكلام عن محمد العتروس لن يستقيم أبداً دون استحضار انخراطه الإيجابي في الجمعيات لتكريس الفعل الثقافي الهادف ، هو بشهادة الكل "عراب نُصرة الثقافة" في بركان خاصة، واسمه علامة فارقة في العمل الجمعوي،أسدى خدماتٍ جلى للعمل الثقافي، اشتغل بصبر وأناة؛ وقدرته العجيبة على العمل المستمر لافتة ( بركان تشهد على ملتقيات كل عام من توقيع " جمعية الشرق للتنمية والتواصل " حول ملتقى السرد،وملتقى بركان للقصيد، والاحتفاء بأدب الشباب ،وتكريمات، وخرجات أدبية استكشافية،و...) وهو لا يدعي أنه وحده في هذا البناء الإيجابي ، بل مجرد لبنة من لبنات الفريق الذي يشتغل معه، وكل ما يُقدم سواء منه أو منهم هو إنجاز حقه أن يُسجل ليس لهم إنما لبركان، وللأجيال القادمة . وفي كل الحالات ما يُقدم لمدينة بركان مُستمد من قدرة هذا الرجل العجيبة على العمل المستمر دون صراخ.. يقول في هذا الشأن : "إذا كان من مزية لعملنا، فهو العمل الجماعي المتكامل المؤسس على الكفاءة والمصداقية والجدة والفاعلية والتشاركية. كنا في نهاية 2008 قد أسسنا جمعية "أبركان للثقافة والتراث" ورأينا أننا يجب جمع شمل مثقفي وجمعويي مدينة أبركان بدون إقصاء أي طرف، فكان في مكتبها اليمين واليسار والوسط والأعلى والأدنى، وكنا نعتقد أنه باستهدافنا للنخبة فقد تجاوزنا عقبات الانتماءات والولاءات على اعتبار أن الميثاق الذي يربطنا هو ميثاق مصلحة المدينة والثقافة والمثقفين. لكن لم تفهم رسالتنا وفشل المشروع...في المقابل استفدنا من الدرس. المشكل كان في أننا لم نستطع أن نخلق جيلا لا يحمل معيقات الأجيال السابقة ويستفيد من إنجازاته. لهذا أسسنا إطاراً جديداً سميناه "جمعية الشرق للتنمية والتواصل" و"منتدى إبداع أبركان"، وركزنا في البداية على الورشات التكوينية في العمل الجمعوي والثقافي وفي الإبداع والقراءة وانفتحنا على الشباب. وقد أتى أكله على ما أظن...". حضور الشباب إلى جانب محمد العتروس أوضح من أن ينكره أحد، وتجربته في احتضانهم ناجحة تماماً.حضرتُ أكثر من مرة إلى بركان سواء كنتُ مدعواً، أو لا ، و رأيتُ من فريقه أكثر مما سمعت..هم يبلون بلاء حسناً، تخالهم خلية من النحل ، أثناء انخراطهم في العمل لا يتكلمون كثيراً، يشتغلون فقط وبحماسة نادرة.. الكلام استنفذوه" قبلاً " في اجتماعاتهم، والدور الآن على العمل(هكذا يؤمنون) .. في كل لقاء يحرص العتروس/ القائد على إدماج الشباب بحملهم على الانخراط في العمل الثقافي إلى جانبه مُشجعاً، وناصحاً.. كل ذلك عبر تواصل يحرص فيه أن يفكر معهم لا عنهم حتى يكونوا لافتين من أجل بركان.. يكتب محمد العتروس القصة القصيرة والقصيرة جداً، بل ويعتبره بعضُ النقاد من بين الأوائل الذين كتبوا قصة قصيرة جداً بهذا الاسم في الجهة الشرقية ، ومجموعاته القصصية فيها نزوع لافت جداً لقصرٍ في نصوصها، فباستثناء بعض القصص منها " القاع" و" قطط تلوك الكلام " وغيرهما فأغلبها لا تتعدى الصفحة الواحدة، وفي مجموع "ماروكان" قصصٌ قصيرة من الحجم القصير، وكذلك في " غالبا ما " ، وفي كل مجموعاته تقريباً؛ ولعل حرصه على النَّفس القصير في الحكي هو نوع من التكتيك في بث رسائلَ للقارئ دون أن يغرقه في التفاصيل؛ حتى الوصف في قصصه قليل لكنه دال من عدة نواح حين يختم قصصه مثلاً في " غالباً ما" بلازمة تتكرر في كل النصوص إنما ليؤكد أن لوكه للكلام من أجل ذلك، فلا داعي للإسهاب في رسائلَ يمكن أن تبعث على شكل "بيستاج"، لذيذة ومفهومة مع حرصه على إلحافها بإطلالة مغربية ساخرة كما في أضمومته " ماروكان"، هذه المجوعة القصصية بديعة حد الوجع، يحكي فيها عن مواقفَ تحصل للمغربي في بلده، وفي المهجر بعد أن يجد نفسه فيها مندساً ومتورطاً وفي وضعيات شتى، يبدأها العتروس ب "ماروكان"رقم-1- إلى غاية "ماروكان" -11- كاشفاً في السلسة كلها عن " القبح" في كل صوره وتجلياته يتعرض لها المغربي / الماروكان، إلى حد نعدم فيها أثناء العد، صورةً جميلة واحدة ، لكن بالمقابل الصور القبيحة فيها كثيرة ومتنوعة. وكأني بمحمد العتروس يؤمن بمقولة إن الفن ليس تعبيراً لشيء جميل، إنما هو تعبير جميل لشيء ما، غالباً ما يكون قبيحاً..وإلا ما دور الفن؟ ! ثم لماذا يكشف القاص في محكي “ماروكان” فقط عن ” القبح” بكل صوره، أو ليست في حياته كوى تُجمل بعض هذه الصور القبيحة؟ ! هذا سؤال طرحته على محمد العتروس في حواري الطويل معه سنة 2016 ، واعتبر، في جوابه عنه، أن هذا الشكل كان اختياراً فنياً من بين عدد من الاختيارات الأخرى ،أما " القبح" السابح في المجموعة فمرده أن ذلك قليل أمام كومةٍ من فظائع " ماروكان"،وجواب الرجل ،حقيقة، ذكرني بما قاله أحدُهم حين استنكر أن يتحدث أو يتغنى عن غزال مشوي ، وفي زوادته خبزٌ حافٍ.. لذلك ما كان يجب أن يكشفه هنا "ماروكان" العتروس أكبر وأفظع مما هو كائن، لهذا أظن أن ما تضمره النصوص أكبر مما تصرح به... احتفى العتروس أيضاً في قصصه كما في مجموعة ” امرأة تقرع باب الله" بالتشكيل، والرسم، والفلسفة و بعوالمَ مستقاة من حياة رسامين عالميين إلى حد اعتبار "امرأة تقرع باب الله" "كوكتيلاً " منسجماً كما لو كنا أمام لوحة فنية سوريالية تماماً، وهي حقاً أضمومة قصصية مختلفة عما سبقها من مجموعات قصصية لكنها امتداد بشكل أو بآخر لها جميعاً استفادت من التراكمات السابقة، ثم إن فكرة الاشتغال على اللوحة باعتبارها تيمة كانت حاضرة لديه منذ زمن بعيد، وبعض نصوصه السابقة إرهاص لهذا الاشتغال. المسألة أنه في كل مرحلة من مراحل كتاباته كان شغوفاً باشتغاله على شيء ما، (حالة معينة، أو تيمة معينة، أو صيغ جمالية معينة).. فكانت "امرأة تقرع باب الله" التي اشتغل فيها على اللوحة والفلسفة بل وتتصدر نصوصَ “امرأة تقرع باب الله” رسوماتٌ لفنانين مشاهيرَ حرص على إثباتها على أساس،كما يصرح،أن اللوحة كانت سبباً أساسياً في ولادة النص. ولولا اللوحة لما كان النص. طبعاً النص ليس ترجمة أو توصيفاً للوحة ولكنها محاولة قراءة ما بين اللون والحجم والعمق والشكل في اللوحة.(أنا أحاول أن أقول في القصة ما غفل الرسام عن قوله في اللوحة.) هذا ما يؤكده. أحببتُ في بعض قصص العتروس، في "ماروكان"،و"غالبا ما" ، وفي كل مجموعاته تقريباً نزوعَه لبسط قضايا الإنسان، والحديث عن ألمه باستخفاف مذهل. وهذه طريقة معروفة عند مجموعة من الروائيين الكبار... ويذكرني هذا بجملة من النماذج كبطل رواية "الغريب" ل ألبير كامو Albert Camus حين راح يمارس الجنس مع حبيبته عوض أن يحضر جنازة أمه، أو "زوربا" اليوناني zorba le greek الذي راح يرقص في الوقت الذي كان عليه أن يبكي لوفاة ابنه ... ولعل هذا النزوع طاغ في أعمال محمد العتروس لسبب فني محض مع جرعات زائدة في قالب الحكي ؛والمسألة، برأيه، شبيهة بما يحدث لنا حين ننظر إلى وجوهنا في المرآة،فنحن لا نكتشف مناطق الكمال بالأساس بل مناطق النقص لنملأها،"أريد أن نرى أنفسنا كما يرانا الله.. في المرآة." الطابع الغرائبي أيضاً لافت في كتابات العتروس، فالبطل في قصصه إما حشرة، أو قط، أو ذبابة.. بدايته تتَشكل بهذا المسخ، ثم شيئاً فشيئاً "يتحول"وفق مسار الأحداث، وصولاً إلى نتيجة معينة ومقصودة تماماً لذاتها. هذا النزوع يُعين على أن يقول ما يحب دون أن تُشوشَ على رسائله طابوهاتٌ مسكوتٌ عنها،" ذلك لأنك تستطيع أن تقول أي شيء لكن أن تقوله بشكل جميل.. هذا هو التحدي. الغرائبية وسيلة جمالية وبنائية ودلالية لممارسة طقس الحكي بشكل جميل محبب وقريب إلى القارئ، ولتسقط كل الطابوهات بعد ذلك.. تناول في قصصه قضايا الإنسان في صراعه مع الحياة كل شيء يكتب عنه العتروس داخل الدائرة وليس خارجها لذلك نجده يفرد قصصاً لِ ( ماسح الأحذية أزمة التعليم الجوع والفقر والمهانة عانت منه أسر مغربية ، الطفولة، الجنس المثلي، الخيانة ، الغربة، المغربي ،و...) البطل في قصص العتروس هو بدون اسم غالباً،يقدمه للقراء عن طرق الضمائر ولا يطلق أسماء على شخصياته في الأغلب، بل لا يهتم باسم البطل إطلاقاً، بقدر ما يلتفت لفعله،إلاّ ما جاء عرضاً كما هو الشأن في شخصية "العم النيكرو" في إحدى قصصه ؛ ويصبح الأمر عسيراً حين ننشغل بأسماء الشخصيات عند العتروس في قصصه ،وتبدو لي المسألة مقصودة ، ولغرض فني؛ هو يترك المجال مفتوحاً للقارئ ليطلق الاسم الذي يناسب البطل حسب الموقف وبالمقابل محمد العتروس يحتفي كثيراً بذكر أسماء كثيرة للأمكنة،كل قصصه ممهورة بأسماء لأماكنَ، في فرنسا مثلا ( يذكر شوارع فرنسا ويتغنى بها، وأماكن أخرى في المغرب أيضاً).. هل الرجل اقتنع بصيحة دعاة الرواية الجديدة( كما نجد عند الآن روب غرييه )الذين دعوا لقتل الشخصية، والاستغناء عنها، وتعويضها بالأشياء، والاعتناء بالمكان؟ !.. لكن أمراً لافتاً هنا لا بد من ذكره هو علاقة البطل بالمقهى في نصوص العتروس، هي علاقة وطيدة بحيث لا يكن أن تقرأ مجموعة قصصية للعتروس دون أن يكون هناك حديث ع المقهى ( يذكر المقهى بالاسم، ويترك الشخصية بدون اسم) .. وحين سألته عن العروة الوثقى بين البطل والمقهى في قصصه؟قال : "في بداية التسعينات كانت تشغلني وما زالت لحد الساعة مسألة حضور المقهى الطاغي في القصة المغربية بحيث يحضر المقهى في أغلب النصوص القصصية المغربية. اكتشفت مع الأيام أن حياة المغاربة والأدباء فقيرة إلى الدرجة التي يتلخص يومهم في المقهى العمل والبيت. وبين كل هذا فراغ مهول: لا قراءات مهمة، لا أسفار، لا فرح حقيقي، لا حزن حقيقي، لا مشاكل حياتية معقدة حقيقة. حتى مشاكلنا بسيطة بساطة المقهى؛ مقاعد وطاولة وسيجارة ومنفضة ونظرة إلى الخارج لرمق امرأة تمر، دون أن يمتلك شيئاً، لا السيجارة التي تستحيل إلى دخان، ولا المرأة التي تذهب إلى حال سبيلها، ولا القهوة التي تبرد أكثر من اللازم". اللغة تنساب انسياباً في كل نصوص العتروس، وفي مجموعة ” امرأة تقرع باب الله” تبدو لي مثل لوحة فنية زاهية،إطارها كلمات مورقة، وأساليب أخاذة مستقاة من من عدد من المشاتل. فالمطالعة والتواصل مع نصوص مؤسسة في الأدب القديم والحديث، هو ما ساعده على اكتساب طراوة هذه اللغات بصيغة الجمع. دون نسيان أهم مصدرين وهما: القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. *كاتب وقاص "ورقة ألقيتها في المعرض الجهوي للكتاب بالناظور يوم 21 دجنبر2018 احتفاءً بتكريم القاص محمد العتروس"