يقدّم العدد الأخير من "مجلة أمل" المغربية "جوانب من تاريخ البادية"، ويبحث ضمنه مجموعة من الأكاديميين المغاربة في دور البادية، وخصائصها، وتحوّلاتها في عهد الحماية بالمناطق المستعمَرة الإسبانية والفرنسية. في هذا العدد، يبحث محمد حبيدة، المؤرّخ المغربي، في الزراعة والأغذية في المغرب قبل الاستعمار؛ لأن المغاربة، حسب تعبيره، كانوا يعيشون محكومين باقتصاد الكفاف وقسوة البيئة قبل البنيات الحديثة التي أدخلها الاستعمار الأوروبي في القرن العشرين، وهو ما ارتهنت معه الزراعة بما تجود به السماء من أمطار، وما يستخدمه الفلاح من تقنيّات قديمة، ما جعل الإنتاج ضعيفا والطعام قليلا؛ وهو ما دفع الناس إلى الاقتيات على الحبوب والقطاني والخضر والفواكه الطريّة والجافّة وزُيوت الزيتون والأركان في الأوقات العادية، والنباتات البريّة في أوقات القحط والمجاعة. ويوضّح حبيدة أن اللحم كان "مادة احتفالية" بمغربِ ما قبل الاستعمار، تتّصِلُ بالمناسبات العائلية أو الدينية؛ وهو ما تظهره المعطيات المتناثرة داخل المصادر التاريخية المعروفة مثل كتب النوازل والتراجم والمناقب وكتب الفلاحة والطَّبِيخِ وكتب رحلات الأوروبيين الذين زاروا المغرب قبل الاستعمار، وهو ما يجعل من هيمنة الطعام النباتي على موائد المغاربة "نظاما نباتيا عفويا" بعيدا عن أي تصوُّر طبي أو بيئي أو أخلاقي، وفق تعبيره. ويبحث إسماعيل العلوي، عن جامعة محمد الخامس بالرباط، في دور البادية والأرياف في تاريخ المغرب؛ الذي تطلّب تكوينه ما يقرب من 2000 سنة، ووصل إلى الشكل الذي يعرف عليه اليوم نتيجة موازين القوى التي سادت منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومنتصف القرن العشرين، بقرار من المستعمر الفرنسي، وهو البلد ذو المناخ الناشز لتمَيُّزه بتقبُّل الأمطار في الفصل البارد، إضافة إلى تبدُّده بين المناخ الجاف والمناخ الرطب نسبيا، مع الإشارة إلى أن وجود سلاسل جبلية يغيّر من هذه الصورة العامة، إضافة إلى ما تعرفه المنطقة والبلاد من فترات شحّ الأمطار، والجفاف أحيانا الذي يمكن أن يدوم أكثر من موسم زراعي، وترتّبت عنه مجاعات ومصائب كثيرة في الماضي؛ وهو ما يوضّحه معطى تاريخي يقول إن البلاد عرفت 42 فترة جفاف منذ مطلع الفتح الإسلامي في القرنين 7 و8 إلى غاية القرن 20؛ وهو ما يعني أنه لم يَسْلَم أي جيل لمدة 1000 سنة من تحمّل آثار الجفاف وعواقبه المعيشية والوبائية.. ويشير الكاتب إلى أن هذا المناخ أثّر على طريقة عيش السكان، وأرغم مُعظَمَهم على اختيار طرق عيش تفرض عدم الاستقرار وتعتمد الترحال أو شبه الارتحال أو الانتجاع في الجمول، مع التركيز على تربية المواشي، وهي الساكنة التي كانت أغلبيتها من البادية والأرياف، ويزيد موضّحا أن عيش القبائل يعرف تداخلا، أو تكاملا على الأقل؛ معطيا مثالا بالعلاقة المتينة التي كانت للرحل مع المستقرّين بالواحات الصحراوية، واتصالات المنتجعين القويَّة بالمستقرّين في بعض السهول والهضاب مثل "العُربان"، والانتجاعيين الذين يتحوّلون إلى مستقرّين لمدّة من الزمن إذا توفّرت الظروف الطبيعية والأمنية الملائمة، مضيفا أن المستقرّين من مصامدة وغيرهم، الذين لا يسكنون الحواضر، يُحسنون الزراعة ويجمعون بينها وبين تربية المواشي على اختلاف أنواعها، ما يعني أنهم ليسوا بدوا ولا "نجّاعة" بل سكان أرياف. وبحث عبد الإله الدحاني، عن المدرسة العليا للأساتذة بالرباط، في "البادية في العصر الحديث" التي كانت كتابات الرَّحلَات التي جابت الجزء الشمالي الممتدّ من تطوان إلى مكناس، أو نزل أصحابها بسلا ثم توجّهوا إلى مكناس، غزيرة؛ في حين بقيت المعلومات عن المناطق الواقعة في جنوبمكناس قليلة جدا إلا من إشارات أوردها سانت أمان، سفير فرنسي، وكاتب آخر. كما ذكر الدحاني أن معلومات الأوروبيين عن شمال المغرب، رغم غزارتها، بقيت سطحيّة، وخاطئة في جزء منها؛ وهو ما يبدو من الاقتصار على ذكر أسماء الجبال وامتداد الصحاري وانبساط الغرب، والوقوع في خطأ ذكر صبّ نهر ملوية قرب مليلية. كما ترِدُ في "مجلة أمل" مجموعة من البحوث التي تناقش مواضيع، من قبيل: خصائص "واحات باني"، لمُعدَّيها مبارك أيت عدي والمحفوظ أسمهري، عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وعناصر استمرارية وتحوُّل البادية المغربية في علاقتها بالاستعمار لكاتبها صالح شكاك، عن المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالرباط، وتحوُّلات الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالأطلس الكبير في عهد الحماية التي بحث فيها إبراهيم ياسين، عن كلية الآداب بمراكش، وتحوُّلات البادية بمنطقة الحماية الإسبانية لكاتِبِها عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة بوبكر بوهادي.