أفلحت المقاربة الاستباقية التي ينهجها المكتب المركزي للأبحاث القضائية في تعاطيه مع الخلايا الإرهابية عن الإطاحة بعشرات المتطرفين خلال السنة التي نودعها. الحصيلة مُعبّرة: تفكيك عشرين خلية إرهابية. ينهض المكتب المركزي للأبحاث القضائية (BCIJ)، التابع للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، بتفكيك الخلايا الإرهابية، بالأساس، عبر فرْقة متخصصة في هذا المجال، لكنّه يتألّف أيضا من فرقة متخصصة في الجريمة المنظمة. خلايا إرهابية خلال المجلس الحكومي المنعقد يوم الخميس الماضي، أشاد رئيس الحكومة بالجهد المبذول أمنيا في النأي بالمغرب عمّا سمّاه "الشرور" المتمثلة في الخلايا الإرهابية، وتجنيبه حمّامات دم قانية كانت تخطط الخلايا المفككة لإغراق المملكة فيها. لم تكن سنة 2018 مختلفة عن سابقاتها من السنوات فيما يتعلق بتفكيك الخلايا الإرهابية في المغرب؛ إذ ما زالَ الخطر الإرهابي محدقا بأمن المملكة رغم تضييق الخناق عليه، بسبب لجوء المنظمات الإرهابية إلى تغيير تكتيكات اشتغالها. أولى الخلايا الإرهابية التي تمكن المكتب المركزي للأبحاث القضائية من تفكيكها سقطت في شهر فبراير من 2018، وكانت مشكّلة من ستّة عناصر ينشطون في شمال المملكة، وينتمون إلى خليّة موالية لتنظيم "الدولة الإسلامية" المعروف ب"داعش". وتوالتْ بعد ذلك الخلايا الإرهابية المُفكّكة طيلة السنة التي نشرف على توديعها، والتي أبَت إلا أن تنتهي على وقع عملية إرهابية كان مسرحُها جبال إمليل نواحي مدينة مراكش، حيث أزهق إرهابيون روح سائحتيْن من جنسية دنماركية ونرويجية. لم يَطُل أمَدُ فرار مرتكبي جريمة إمليل الإرهابية من قبضة العدالة طويلا؛ إذ جرى إلقاء القبض على أربعَتهم بعد يوميْن فقط من ارتكاب الجريمة التي أعادت تشغيل شريط الأعمال الإرهابية التي شهدها المغرب، خاصة تلك التي وقعت مساء يوم 16 ماي سنة 2003. دواعش في إمليل جريمة ذبْح السائحتين الإسكندنافيتين في جبال إمليل، التي تورّط فيها متطرفون مُبايعون لتنظيم "داعش"، حسب ما أظهر مقطعو فيديو أكّد صحته الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط، يَظهر فيه العناصر الأربعة وهم يُبايعون "أمير" التنظيم الإرهابي، أبو بكر البغدادي، تؤكد لجوء "داعش" إلى طرق جديد لزرع الإرهاب في مختلف بقاع العالم، وتطرح، بالتالي تحديات جديدة أمام الأجهزة الأمنية. في الماضي، كان تنظيم "داعش" يعمد إلى تنفيذ عملياته الإرهابية في الحواضر عبر شبكات إرهابية منظمة، وبعد اشتداد الخناق عليه أضحى يلجأ إلى حيَل جديدة؛ وذلك بالاستعانة بما يُسمّى "الذئاب" المنفردة المدفوعين ب"الفكر الداعشي"، الذين ينفذون جرائمهم حتى وإنْ لم يتلقّوا أوامرَ من قادة التنظيم الإرهابي. في هذا الإطار، يرى إبراهيم الصافي، باحث في العلوم السياسية وقضايا التطرف العنيف، أنَّ أيَّ تقييم للمقاربة الأمنية في اجتثاث الإرهاب "يقتضي التمييز بين الإرهابيين الفعليّين أو المُحتمَلين كأدوات لتنفيذ العمليات الإرهابية، وبين الإرهاب كظاهر معقّدة لها أسُسٌ فكرية وركائزُ عَقدية صَلبة قابلة للتطور والتغلغل داخلَ المجتمع". واعتبر الصافي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أنَّ تقييمَ المقاربة الأمنية، في أبعادها الاستخباراتية والقضائية التي ينهجها المغرب، خاصة بمقارنتها مع الدول المجاورة على ضفتي المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء، يُظهر نجاعتها. وأضاف أنَّ المقاربة الأمنية التي تنهجها المملكة في التصدّي لظاهرة الإرهاب "أفلحتْ في التصدي للأفراد ذوي الميول المتطرف ولمشاريعهم، سواء التكفيرية أو الدموية، ليس فقط داخل التراب المغربي، بل في دول أخرى تجمعها اتفاقيات تعاون أمني واستخباراتي مع المغرب"، مشيرا إلى أنّ المملكة عملت على تطوير المؤسسة الأمنية والمنظومة القانونية المتعلقة بقضايا الإرهاب لمواكبة التطورات المتسارعة لهذه الظاهرة. المقاربة الأمنية منذ سنة 2002، وإلى غاية بداية شهر أكتوبر من سنة 2018، بلغ عدد الخلايا الإرهابية التي تمّ تفكيكها في المغرب 183 خليّة، ومكّنت المقاربة الأمنية الاستباقية التي نهجها المغرب من تجنيب المملكة وقوع 361 عملا تخريبيا، حسب ما صرّح به عبد اللطيف الخيام، مدير "البسيج" لوكالة المغرب العربي للأنباء شهر أكتوبر الماضي. في سنة 2015، وفي خضمِّ تزايُد مخاطر الإرهاب العابر للحدود، بعد ظهور "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" ولجوء التنظيمات الإرهابية إلى استعمال وسائل الاتصال الحديثة من أجل استقطاب الأتباع، أنشأ المغرب المكتبَ المركزي للأبحاث القضائية، وأوكلت إليه مهمة محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة. ومنذ إحداثه قبل ثلاث سنوات، فكّك المكتب المركزي للأبحاث القضائية، عبر فرقة مكافحة الإرهاب، حوالي ستّين خلية إرهابية، منها 51 لها ارتباط بما يعرف بتنظيم "الدولة الإسلامية"، و6 أخرى ترتبط بتيار "الفيء والاستحلال"، كما جاء على لسان مدير المكتب لوكالة الأنباء الرسمية. وفيما يتوالى تفكيك الخلايا الإرهابية في المغرب، ويلقى العمل الذي يقوم به المكتب المركزي للأبحاث القضائية إشادة في الداخل والخارج، يرى متتبعون أنَّ المقاربة الأمنية وإن كانت ضرورية، لا تكفي وحدها لاجتثاث جذور الإرهاب، ولا بُدّ من مقاربة شمولية للقضاء على هذه الظاهرة. في هذا الإطار، يقول محمد قمار، رئيس المرصد المغربي لنبذ الارهاب والتطرف، إن "المقاربة الأمنية ضرورية، لكن يجب أن توازيها مقاربة اجتماعية واقتصادية وتربوية وثقافية، وذلك بشراكة بين مؤسسات الدولة والقطاعات الحكومية من جهة، ومنظمات المجتمع المدني من جهة ثانية". ودعا قمار، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى الاستمرار في إعادة هيكلة الحقل الديني، ومراجعة المناهج والمقررات المعتمدة في التعليم، وإيلاء عناية أكبر للشباب، عبر توفير المراكز الثقافية الخاصة بهم، مضيفا أنه "إذا لم تتوفر هذه الشروط، سيصعب القضاء على ظاهرة الإرهاب إذا اكتفيْنا بالمقاربة الأمنية وحدها". المقاربة الوقائية تُفيد المعطيات الرقمية التي قدمها مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية بأنّ مؤشر تفكيك الخلايا الإرهابية في المغرب منذ إنشاء المكتب سنة 2015 يسير في مَنحى تراجعي؛ إذْ بلغ عدد الخلايا المُفككة في تلك السنة 21 خلية، وفي سنة 2016 تمّ تفكيك 16 خلية، وتراجع العدد في سنة 2017 إلى 9 خلايا، قبل أن يعود المؤشر إلى الارتفاع في سنة 2018 بحوالي عشرين خلية. ويُعتبر جهاز الاستخبارات (لمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني)، التي يتبع لها المكتب المركزي للبحاث القضائية، "من الأجهزة الهامة في المغرب التي تساهم بشكل فعال في محاربة الإرهابيين والوقاية من مخاطرهم على استقرار الوطن وسلامة أمْن الدولة"، حسب إبراهيم الصافي، الباحث في العلوم السياسية وقضايا التطرف العنيف. وأضاف الصافي أن "جهاز الاستخبارات يرجع له الفضل في الإنذار المبكر عن واقع التهديدات الإرهابية ضد البلاد، والكشف السريع عن الخلايا الإرهابية أو الأشخاص الذين يحاولون التجنيد ضمن التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، ووأد مخططاتهم التي تسعى بعض بقايا الإرهاب إلى تنفيذها، وأيضا الكشف عن الأماكن التي يستعملها هؤلاء في الاختباء أو إخفاء الأسلحة والذخائر"، لكنّه أكد أنّ "محاربة الإرهاب لا يجب أن تُحصر في المقاربة الأمنية". وأوضح المتحدث ذاته في هذا الإطار أنَّه "لا يمكن الاكتفاء بالمقاربة الأمنية لوحدها والتعويل عليها لاجتثاث الإرهاب وجذوره ودوافع الأفراد إليه"، مبرزا أنّ هذه المقاربة "ستظل استراتيجية غير فعالة في مواجهة عدو غير مرئي له من القدرة ما يجعله يتسلل داخل البيوت دون علم الأسر ويحول أبناءها إلى وحوش آدمية لممارسة العنف بدواعي متطرفة وخلفيات متشددة". وأكّد أنّ الأجهزة الأمنية مَهما كانت قوتها لا تستطيع أن ترصد الأفكار المتطرفة ولا حتى محاكمة الأفكار المتشددة، ما لم تدفع بصاحبها إلى التخطيط لممارسة العنف وزعزعة الاستقرار الفكري والأمني للمجتمع. ويرى الباحث في قضايا التطرف العنيف أنّ التصدي لمعضلة الإرهاب واجتثاثه يقتضي اعتماد مقاربات ذات بُعد وقائي تستهدف تقويض مُغذيات ومنابع التطرف العنيف، مؤكدا أن تحقيق هذه الغاية يتطلب تزوُّد صانع القرار ومُبرمجَ السياسات العمومية بتفسير علمي لمغذيات التطرف العنيف وعقليات المتطرفين ولأدوات استقطابهم وهندسة تفكيرهم المتطرف. ويرى المتحدث ذاته أنّه حينَ يتسلح صانع القرار ومبرمج السياسات العمومية بهذه الخلفية، عندها يمكن تبنّي مقاربات تستطيع اجتثاث جذور الإرهاب وانحسار فضاءات انتشاره، وقال: "بدون شك لن يؤتي هذا المجهود ثماره بين عشية وضحاها، بل هو مسارٌ تدخُّلي لجُهد كافة مؤسسات الدولة وفعاليات المجتمع في التصدي لظاهرة الإرهاب".