وعدت من القاهرة إلى مراكش لأقضي بها ليلة واحدة فقط قبل أن أشدّ الرّحال من جديد. ليلة واحدة لا تسعف رَوْع العابر ليهدأ، ولا تكفي لالتقاط الأنفاس. لكنَّ نداء زاكورة كان مُلحّا. قلت: لتتكسّر النِّصال على النصال إذن، فقد اعتدنا.. ويمَّمتُ جنوبًا. كانت ليلة واحدة فقط في مراكش بعد أزيد من شهر في القاهرة وجدتُني بعدها في مطار المنارة من جديد. السفر إلى زاكورة سيتمّ جوًّا هذه المرة، ولأول مرّة. فقبل أسابيع فقط، تمّ افتتاح هذا الخطّ الجوّي. والساعات التسع التي كنا نقطع خلالها هذا الطريق الجبلي الصعب ذا المنعرجات القاتلة تقلَّصَت إلى نصف ساعة. ثمن الرحلة في المتناول. لذا أسعدني أن رأيت بعض الأهالي ينتظرون معنا في بهو الإركاب بِصُرَر أهل الجنوب وأكياسهم المتواضعة. الديمقراطية ليست شعارًا فقط. ليست مفهوما سياسيا. الديمقراطية بالنسبة إلي، في تلك اللحظة على الأقل، هي أن تتمكّن نسوة من وادي درعة من السفر جوًّا من مراكش إلى ديارهم بقصبات الوادي وواحات المنطقة بمقابلٍ مقدورٍ عليه. لذا راقني جدا أن أجاورهن وأستمتع بذهولهن وهنَّ يحدّقن من علٍ إلى جبال الأطلس الشاهقة التي كان صعودُها يعذِّب المحرِّكات المنهكة لتاكسيات النقل الجماعي التي اعتدن ركوبها من زاكورة وورززات باتجاه مراكش. كانت الجبال تبدو صغيرةً من أعلى، وقممُها المكسوة بالثلوج جعلتها تلوح مثل قبعاتٍ بيضاءَ لتلاميذَ يصطفّون أمام باب المدرسة في صبيحة باردة. تذكرتُ رحلاتي القديمة إلى ورززات. أكثر من مرة حاصرتنا الثلوج بمنعرجات "تيزينتيشكا" الجبلية. مرة قضينا ليلة كاملة هناك عالقين وسط الثلج تنهشُنا ذئاب البرد القارس. تذكّرت صعوبة الطريق وأنا أطل مِنْ عَلٍ على جبال الأطلس الشاهقة. مررنا على "نور"، أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم. تبدو المحطة مثل رسم هندسي من أعلى. إلى جانبها تتزاحم المياه في بحيرة السد. سد المنصور الذهبي. أتذكر سنوات إقامتي بورززات. كان هذا السد متنفَّسنا. نستجيرُ من حين إلى آخر بالهدوء المُشرق الشَّفيف لضفاف بحيرته من هدوء المدينة الثقيل ذي الوطأة. ولم تكن البحيرة تستقطب تلك الأيام غير بضعة صيادين، ثلة من المتسكعين، وعشاقًا شاردين. ودائما كان هناك سُكارى متوحِّدون ممن يفضّلون الانفراد بقناني البيرة والنبيذ على ضفة البحيرة بدل التزاحم في بارات المدينة ذات الهواء الملوّث أبدًا بدخان السجائر. عجبًا. لم أر ورززات. لكأني شردت عنها. إذْ للذّاكرة أوجاعٌ الأفضل أن نشرد عنها أحيانًا. بعد دقائق قليلة تبدَّت "آيت الساون". أقل شموخا من "تيشكا" وباقي جبال الأطلس الكبير، لكنها لا تقلُّ أنفةً وشمَمًا. كيف لا، وهي أعرق من جبال الأطلس، إذ تعود إلى أكثر من ملياري سنة. ثم لمحتُ الوادي الأخضر ينساب مثل ثعبان ضخم. الوادي، أو سريره الظمآن الذي احتكر السَّدُ ماءه وتركه يتلوى في الفراغ، ثم النخل على ضفتيه. وادي درعة الذي علّمونا في المدرسة أنه من أهم أنهار البلد، لكنه الوحيد الذي تضيع مياهه في الصحراء. هل تضيع فعلا؟ حينما يفيض السد عن حاجته من الماء ويتيح لمياه الجبال أن تسافر عبر الوادي جنوبا إلى تاكونيت ومحاميد الغزلان تجد نفسك مجبرًا على مراجعة الدرس القديم. لعله النهر الوحيد الذي لا تضيع منه قطرة واحدة. فكل قطرة منه تُخصِب حياةً في الصحراء. ثم ها هي الطائرة بدأت تهبط بالتدريج لتحطّ في مدرّج مطار هذه الواحة التي لم يكن أبناؤها من الجيل السابق يحلمون بأن يصير لها هي الأخرى ميناء جوي. مطار زاكورة. المحطة صغيرةٌ جدا، أصغر مما توقعنا. ضيقة بشكل لا يُصدّق. وضيقُها لا يليق بمطار. بجانبها محطة أوسع وأفسح. جاهزة تماما، لكنها ولأسباب غامضة مغلقة في وجه المسافرين. أعطاب المغرب السعيد تفاجئك دائما. المسافرون على قِلّتهم يتزاحمون في قاعة ضيقة، فيما شقيقتها الكبرى في الجوار مغلقة تنتظر الذي يأتي ولا يأتي. لكننا ألفنا العجائب المغربية. ما علينا. مرحبا بك في زاكورة. فالأصدقاء هناك في الانتظار. وصلنا "سيروكو". التحقنا بغرفنا في الفندق، رتبنا أمورنا ثم نزلنا نشرب كأسًا جوار سقيفة القصب في الجانب الأيسر من حديقة النخل الصغيرة التي تحضُن المسبح. رفعت رأسي إلى أعلى وتخيلت طيفها. باب البلكونة ينفتح، وهي تطل من شرفة غرفتها بالطابق الأول وتنادي بصوتها العالي تمامًا كناظرة مدرسة توزِّع أوامرها على الجميع تلاميذ ومدرِّسين. هكذا كانت فاطمة. شهرزاد المغربية. أذكر حينما كنا معًا في "سيروكو" أيام "القافلة المدنية" سنوات قبل رحيلها. فاطمة المرنيسي تشرف على ورشة للكتابة أسفرت فيما بعد عن كتاب "عجائب وادي درعة". جمعتنا سهرات بديعة هنا في "سيروكو". نقاشات وبرامج وأفكار. والشباب الذين كانوا يتحلقون حول فاطمة المرنيسي في ورشة الكتابة تلك تحوّل عدد منهم من أصحاب شهادات معطَّلين لا يملكون غير شعاراتهم النارية إلى فاعلين سياسيين ومدنيين. بعضهم صار لهم شأن في الساحة وطنيًا، وبعضهم صاروا مسؤولين محليين. تمنيتُ لو كانت فاطمة بيننا. لكي ترى أن روحها الحيّة لا تزال حيّة وسط هذه الواحات. في المساء، كنا في قاعة المركب الثقافي ننتظر انطلاق الدورة الخامسة عشرة من مهرجان زاكورة الدولي لسينما عبر الصحراء. ياه، خمس عشرة سنة مرت على ذلك الحلم القديم. على تلك الفكرة المجنونة التي خطرت ببالنا -محمد علي الهلالي، عزيز اخوادر وأنا- ونحن نتسامر يومًا في مطعم بالرباط. حلمنا بالمهرجان وشرعنا فورا في التنفيذ. قيل لنا: كيف تنظّمون مهرجانا سينمائيا في مدينة صغيرة هشة في الجنوب؟ مدينة لا تتوفر على قاعة سينمائية وعلى فضاء ثقافي لائق؟ لكن الحلم المجنون كان جامحًا بما يكفي. كان أقوى من تحدّيات الواقع. فأطلقنا المهرجان في دورته الأولى لا يدعمنا شيء إلا تضامن الأصدقاء. الممثلون والمخرجون السينمائيون الذين جاؤوا من الرباط والدار البيضاء تلبية لنداء الصداقة. والأصدقاء في زاكورة الذين أجادوا احتضانهم. كانت قاعة المركب الثقافي غاصّة بالحضور. الكل ينتظر قدوم الوفد الرسمي الذي تأخّر كالعادة. لماذا يصرُّ المسؤولون، في المدن الصغرى بالخصوص، على التأخُّر وإحراج المنظمين مع ضيوفهم؟ بدوري، يضايقني الانتظار؛ لكنني هذه المرة لم أستشعر وطأته. سرحتُ باتجاه الدورات الأولى القديمة حين لم تكن لنا قاعة كهذه بكراس مريحة وشاشة صالحة للعرض؛ لكننا كنا نتدبّر أمرنا. نتنقَّل مثل قافلة من البدو الرُّحَّل بحفلات الافتتاح والاختتام وبعروضنا أيضًا بين الفنادق والواحات والساحات العمومية. كنا نتابع العروض مع جمهور زاكورة في الساحات واقفين. ندافع عن اختياراتنا في الساحة بين الناس. كل الأفلام التي أثارت الجدل في العقد الأول من الألفية الجديدة استضافها المهرجان وعرضناها تِباعًا، على الرغم من احتدام النقاش حولها، وعلى الرغم من "الميليشيات" التي كانت تُباغتنا لتنسف هذا العرض أو ذاك. وعلينا أن نتصدّى لها بالنقاش "الهادئ" في ساحة العرض. في الشارع. وسط الناس. ثم جاء هذا المركّب الثقافي بالذات -الذي ننتظر فيه الوفد الرسمي المُمعِن في تأخُّره- مكسبًا من مكاسب مبادرتنا. فدينامية المهرجان الذي بدأ صيته يذيع هو ما جعل وزارة الثقافة تعجِّل بتشييده وتجهيزه ليصير لائقا بمهرجان لم يكن يتوقعه أحد من زاكورة. عزيز اخوادر لا يزال هنا مديرا فنيًا للمهرجان. مخلِصًا للفكرة الأصلية التي حلمنا بها خلال سهرتنا القديمة: نريد هذا الملتقى واحة للحوار بين السينما والأدب. كان الروائي السوري نبيل سليمان القادم رأسًا من اللاذقية في مجلسه يسار القاعة مُحاطًا بأعضاء لجنة تحكيم المهرجان التي يرأسها. وكانت هناك نخبة من الأدباء المغاربة أيضا: ميلودي شغموم، سعيد بنكراد، طه عدنان، بديعة الراضي، عبد العزيز الراشدي، عبد السلام الفيزازي، عائشة بلحاج، عزيز الحاكم، ورشيد برومي. لم يكن عزيز اخوادر الوحيد الذي بقي من مُؤسِّسي المهرجان؛ بل هناك أيضًا أحمد شهيد الذي ورث عن محمد علي الهلالي إدارة المجلس الإقليمي للسياحة وإدارة المهرجان، ومصطفى اللويزي الذي انتقل إلى فاس لكن ظل وفيا للمهرجان مخلصا له ولزاكورة.. هذه الغزالة. "الغزالة زاكورة"، هكذا اختار نعمان لحلو أن يسميها في أغنية لحنها وغناها لزاكورة، وتمّ عرض "الكليب" الخاص بها في حفل الافتتاح. كان لي موعد مع نعمان في القاهرة قبل أسبوعين فقط، لكن ظروفا قاهرة حالت دون تحقيق اللقاء. لكن، ها نحن نستدرك في زاكورة. كان نعمان سعيدا بعدما صنعت أغنيته الحدث، وسرقت بعض الضوء من نجوم السينما. صعد عبد الرحيم شهيد، رئيس المجلس الإقليمي، إلى الخشبة وحكى عن ظروف إنتاج هذه الأغنية. لم تكن تفاصيل الإنجاز ما أثار اهتمامي، وإنما الروح ذاتها: أن تُقْدِم جهة منتخبة على الاستثمار في الثقافة والفن واعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من التنمية المحلية المُلقاة على عاتقها. أيضًا لم أنخرط إلا بحسابٍ في النقاشات التي انطلقت على الهامش لتقييم أغنية نعمان فنّيًّا، ذاك أنني كنت مأخوذا بالإحساس العارم بالفخر الذي استشعَرَهُ أبناء زاكورة إزاء هذا العمل الفني. الفنُّ يُغذّي الوجدان ويرمِّم الصورة ويمسح عن زجاج الروح الغبار. كانت المشاهدات على اليوتيوب تتضاعف بشكل خرافي. الأغنية تحصد ربع مليون مشاهدة خلال يومين فقط. أتخيل من الآن التلاميذ في واحات زاكورة وقرى وادي درعة يرددون "الغزالة زاكورة" مثل نشيد في لهوهم المدرسي. لكن للغزلان في زاكورة عروق ومحاميد. لذلك يمّمنا شطر "محاميد الغزلان" لنحظى بغروب فاتن وسط الكثبان. أذكر أولى دورات مهرجان زاكورة حينما شرد بنا السائق وسط الكثبان لنجد أنفسنا في الأراضي الجزائرية. عبد الحليم ابن المحاميد حكى لنا عن سفيرة بلد أوروبي تعرَّضت لنفس التيه وحين نبّهها "الجي بي إيس" إلى أنها صارت داخل الجزائر عادت مذعورة، ولم تنم تلك الليلة خوفًا من أن يكون تيهُها الصحراوي قد أثار الانتباه وتسبّب في أزمة دبلوماسية، لكن الله سلَّم. جلسنا نشرب الشاي على كثيب رمل في حمرة الشفق. التقطتُ صورة للأصدقاء يحتسون شايهم وبعثتها إلى الأديب الليبي الكبير إبراهيم الكوني عبر الواتساب. قلت له: ها نحن في بيتك الشاسع الكبير يا كاتب الصحراء. كنت أتصوره في برشلونة حيث انتهى به المقام، وكنت أحب أن أشاغب حنينه الدائم للصحراء ببضعة صور، فإذا به يباغتني بصورته يقتعد هو الآخر كثيبا في صحراء الخليج مع صديقنا المشترك الشاعر جمال العرضاوي صاحب برنامج "المشّاء". تبادلنا التعليقات والصور فيما كان المحيط والخليج يتبادلان الكثبان؛ لكننا سرعان ما لسعنا برد ديسمبر القارس فهرعنا إلى خيمة في الجوار، حيث هيأ لنا مضيفنا فرقة أحواش محلية أتحفتنا بأهازيج أمازيغية معتقة، وطاجينا من لحم الماعز. حين كانت السيارة تقطع بنا الطريق الصحراوي الهادئ من المحاميد إلى زاكورة، نمت وتركت رفاق الرحلة يتجادلون. النوم المرتجل قلما يُنجب حلما. ومع ذلك حين نبهني الأصدقاء إلى أننا وصلنا أحسست كما لو أن بقيةً من حلم غامض عالقة بالبال. ولجتُ "رياض الأمان"، حيث انتهى بي المقام. وأنا أحاول فتح باب الغرفة دائرية الشكل العجيبة التي آثرني بها صاحب الفندق، وهو صديق أيضًا، انتبهت إلى أن اسم الغرفة "ليلة سعيدة". كان الوقت متأخرا وعليّ أن أعود للنوم فورًا عساني أفلح في ترميم حلم غفوة الطريق ومواصلته. ما إن فتحت الغرفة حتى هجمت عليّ بدفئها. ناديت الغرفة باسمها "ليلة سعيدة". ليلة سعيدة زاكورة. ثم أغلقتُ الباب.