تلتقي جل البرامج الانتخابية الحزبية لاستحقاقات 25 نونبر الجاري، عند اعتبار أساليب تدبير الشأن الصحي عاملا مفصليا في التنمية، لكن غالبيتها لا تكشف، بما يكفي، عن تصورها لآليات تدبير هذا الملف، وحجم ومصدر الموارد المالية التي ستعتمدها للتنفيذ. ويغلب على صياغة هذا البعد لدى بعض البرامج استحكام منطق التعميم الذي قد يصل، بحسب بعض المراقبين، إلى تعويمه في زحمة من المتمنيات، المفتقرة في مجملها إلى وضوح في الرؤية; إما لغياب القراءة المطلوبة لواقع الحال ولأفق الانتظارات، أو لضيق مساحة الرؤية المستقبلية في ظل الغياب الكامل أو الجزئي للدراسات المستقبلية التي تعتبر جزءا من أدوات الرصد لحصر التوقعات المحتملة وبناء مخططات العمل المستقبلية. وهذا التوجه، بدل أن يضع الناخب رأسا في قلب خطاب يؤسس لأولويات التنمية المستدامة باعتماد مؤشرات رصدية إحصائية لواقع الحال وللمرتقب، في ظل وعي كامل ودقيق بالسياق الوطني والسياقين الإقليمي والدولي، يقحمه في خطاب يحفل بالأمنيات والتعابير الفضفاضة التي تتماهى فيها مواقف العديد من الأحزاب. وبالنتيجة يغيب الفهم الحقيقي لهذه الأطراف المتنافسة على المقاعد البرلمانية والريادة الحكومية بدور تدبير الشأن الصحي إلى جانب قطاعات أخرى كمؤشر لدينامية التنمية المستدامة وكمحرك أساسي لها، ويصعب بالتالي استخلاص الكيفية التي تعتزم بها معالجة هذا الملف في حال استلمت قيادة الأمور. بالطبع، لا يغيب عن الأذهان أن البرامج الانتخابية هي حزمة من النوايا، صيغت بطريقة تتفاوت في قدرتها الإيحائية والإقناعية في مغازلة انتظارات الناخب واستدرار صوته، لكن مصداقية العمل السياسي تفترض أن تتضمن هذه البرامج بالأرقام والتصورات العملية الخطوط العريضة لمحاور تدخل هذا الطرف السياسي أو ذاك في حال آلت إليه أمور التسيير أو انتدب للدفاع عنها ومراقبتها تحت قبة البرلمان. وهو ما من شأنه أن يمكن الناخب من إطلالة وافية على حجم ونوعية تحرك كل حزب في معالجة هذا الملف أو ذاك، ويتيح له فرصة الاختيار بين البرامج بدل التركيز على الأشخاص. موقع الصحة كمؤشر للتنمية في خارطة البرامج الحزبية الانتخابية بعيدا عن التأشير إلى الهوية السياسية لهذه البرامج الانتخابية، وذلك حفاظا على الحيادية المطلوبة في قراءة الاجتهادات الانتخابية لكل منها على قدم المساواة، ستتم مقاربة هذا المؤشر من خلال استحضار أفق تصوراتها للبنيات التحتية للمنظومة الصحية ولبنيات القرب وما يتصل بالتغطية الصحية، ومدى استجابة كل ذلك للدستورالجديد، ولن يصعب على الراغب في شخصنة هذه البرامج سياسيا تحديد انتماءاتها. بحسب المعايير الدولية، تمثل الكيفية التي يتم بها تدبير الملف الصحي، وما يترتب عنها من نتائج، أحد المؤشرات الأساسية لقراءة مستوى التنمية، كما لا يختلف اثنان حول أن بناء التنمية لا يمكن أن يتم إلا بموارد بشرية سليمة بدنيا وعقليا ونفسيا; ولن يتأتى ذلك إلا بتحصين الصحة العامة عن طريق الوقاية ومكافحة الأمراض وتوفير المستشفيات المجهزة على النحو الكافي، والموارد البشرية المتخصصة المؤهلة، واعتماد معطى القرب استجابة للحاجيات الحقيقية، وكذا استراتيجيات وخطط العمل الدقيقة; المسطرة وفقا لحدود زمنية مضبوطة. البنيات التحتية كركيزة لتأهيل القطاع تشدد غالبية البرامج الانتخابية، وهي تخوض معترك التنافس في إطار الاستحقاقات الراهنة، على ضرورة إحداث مستشفيات جديدة بكل التخصصات، وتتعهد بعضها بتخصيص خمسة ملايير درهم لإحداث خمسة مراكز استشفائية جامعية جديدة، بينما يتقلص هذا العدد لدى البعض إلى ثلاثة، ويتحدد عند الآخرين سقف إنجاز ذلك زمنيا في أفق 2016، مع خص جهات من المملكة بعينها للاستفادة منها، وذلك تأسيسا لخدمات القرب الاستشفائية ومد الجهة بمضمونها الحقيقي كعضو له قدرة الاكتفاء الذاتي بدل دور التابع الأضعف للمركز. وتتعهد برامج أخرى بتوفير طبيب لكل ألفي مواطن وممرض لكل ألف مواطن، وتخصيص مركز صحي للقرب لكل خمسة آلاف مواطن في العالم القروي، مع توفير أربعة ملايير درهم لإعادة تأهيل المستشفيات الإقليمية والجهوية، وإقرار تعويض شهري يعادل 50 في المائة من الأجر الصافي للأطباء والممرضين العاملين بقطاع الصحة العمومي بالعالم القروي. ولتمويل الحركية المنتظرة للقطاع الصحي، تتفق بعض البرامج على ضرورة رفع حجم الاستثمار العمومي المخصص للقطاع من الميزانية العامة بحلول 2016، كسقف زمني غير مشترك بينها، إلى ما بين 10 و14 في المئة عوض 7 في المئة. أولويات خارطة الطريق التصحيحية .. المؤشرات التنموية وفي سياق الحركة التصحيحية لواقع حال هذا القطاع، تعبر بعض البرامج، ودون تحديد للأدوات الكفيلة بتحقيق ذلك، عن مطمح "إعادة النظر في الخريطة الصحية"; وذلك وفقا ل`"توزيع عادل للموارد البشرية والبنيات التحتية، يتكامل فيه إسهام القطاعين العام والخاص ويشمل الحواضر والبوادي معا"، مع اعتماد "ميثاق وطني للصحة" ينبني على "مبدأ الصحة للجميع". وبنفس العمومية أيضا يعد بعضها بوضع "استراتيجية وطنية للصناعة الدوائية" تستند إلى معياري "الجودة" و"التسعيرة العادلة"، وإقرار "مخطط لتكوين الأطباء ومهنيي الصحة" لتجاوز النقص الحاصل في هذا المجال، من خلال برمجة إحداث كلية طب بكل جهات المملكة في أفق زمني يحدده البعض في 15 السنة المقبلة (بمعدل كلية كل سنتين)، وأيضا إحداث مراكز تكوين في مجالات أخرى للصحة، إلى جانب إحداث هيئة طبية عليا للمراقبة والتتبع، وتحفيز استثمار القطاع الخاص في هذا المجال، خاصة في العالم القروي. وفي السياق ذاته، تتعهد برامج أخرى بتكوين 3100 طبيب في أفق 2020، وتتفق أغلبها على تحسين المؤشرات الصحية الوطنية وخاصة المتعلقة بالأم والطفل وتقليص نسبة وفيات الأمهات بتفاوت بينها، ما بين 30 و50 لكل 100 ألف ولادة حية بدل 110 حالة، والحد من نسبة وفيات الأطفال دون سن الخامسة إلى 15 لكل ألف في أفق 2016 كسقف زمني لدى البعض. وبالأرقام أيضا، وعدت بعض البرامج، في إطار التغطية الصحية، ب`"تخفيض الجزء المتحمل من طرف الأسر في ما يخص تمويل الصحة إلى أقل من 25 في المائة بدل 75 في المائة"، فيما تعهد البعض الآخر ب`"تعميم نظام التغطية الصحية للجميع"، ووعدت أخرى بتوفير مليار درهم في أفق 2016 للتغطية الصحية لفائدة 600 ألف طالب، فيما عبرت أخرى عن اعتزامها خلق تجانس بين أنظمة التغطية الاجتماعية في اتجاه توحيد الصناديق. وفي موضوع التكفل بذوي الاحتياجات الخاصة، برزت وعود ب`"تسريع وتيرة تمدرس الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة لبلوغ نسبة 80 في المائة بدل 40 في المائة"، و"تخفيض واجبات التكوين لفائدة هذه الفئة بنسبة 50 في المائة على الأقل"، مع اعتماد تحفيزات ضريبية للأسر التي تتكفل بالأشخاص في وضعية إعاقة، وصولا إلى وضع إجراءات تتحمل بموجبها الحكومة النفقات اللازمة للأشخاص في وضعية إعاقة بدون دخل وبدون عائل. اتساع دائرة الوعود خارج المحددات الرقمية وخارج المحددات الرقمية تتسع مساحة الوعود بشكل فضفاض وغير قابل للحصر، بل وغير قابل للتطبيق، على الأقل في الظرفية الاقتصادية الحالية المشحونة بتقهقر جل المؤشرات التنموية على الصعيد العالمي، وبتأثيرها السلبي على كل الاقتصادات المحلية. وتتسم هذه الوعود، عموما، بأهميتها ووجاهتها كأفكار وتصورات قد تكون مستقبلا قابلة للتطبيق، في وقت ترنو فيه جاهدة إلى التعبير عن رغبات عامة ودغدغة تطلعات الناخب. لكنها تظل، في المقابل، دون التوقع المطلوب، خصوصا حين تحجم عن الكشف، ولو من خلال خطوط عريضة، عن الكيفية التي ستتولى بها تطبيق وعودها. ويؤكد متتبعون لهذا الشأن أنه، سواء كان ذلك الإحجام برغبة مبيتة من الجهة السياسية المسؤولة في إخفاء خطة عملها إلى حين بلوغ مرحلة التطبيق الميداني، أو بسبب عدم احتكامها أصلا لهذه الخطة، ٍفإن من نتائج ذلك هو صياغة برنامج انتخابي غير متماسك البناء بما يكفي، وفاقد للاحترافية المطلوبة، ويشي عن رغبات غير مدروسة، تقودها حمى مسعورة لاقتناص أصوات الناخبين ليس إلا. وفي سياق برامج من هذا الصنف تكثر صيغ من قبيل "يجب، ينبغي، سنعمل، سنفعل، عليها .."، وتكتنز بعبارات طموحة ك`"ينبغي أن تكون الخدمات الصحية ذات جودة ومؤمنة ومركزة على المريض، كما أن عليها أن تصحح اللامساواة بين الجهات وبين الأرياف والحواضر وبين الفئات الاجتماعية"، وأيضا بوعود تقترب في حدود الإمكان الحالي من "الطوباوية" ك`"إنشاء صندوق عمومي للضمان الاجتماعي للمعوزين وتوسيع التغطية الصحية الشاملة لمختلف شرائح المهن الحرة والتجار والصناع التقليديين والطلبة والمشغلين الذاتيين". وفي مقابل ذلك، قد تنتقل صيغ الوعود في برامج أخرى إلى مجرد تعبير عن حاجات عامة من قبيل "تقوية قطاع طب الشغل"، "محاربة آفة التدخين والأمراض المرتبطة بالبيئة" و"وضع برنامج وطني لزرع الأعضاء"، لتدخل أصحاب هذه البرامج أنفسهم، ودون وعي منهم، في زمرة المطالبين بدل الساعين إلى الفعل. برامج لا تتجاوز في عمقها المغازلة السطحية لانتظارات الناخب وتنضاف إلى علة التعميم وغياب الأرقام لدى البعض واللغة التي تقول الكثير ولا تقول شيئا في النهاية، والمقاس الفضفاض الذي يسع كل شيء ويضيق عن كل شيء، علة التقارب وأحيانا التشابه إن لم يكن التماهي بين عدد من هذه البرامج. وهو ما يعزوه متتبعون لهذا الشأن إلى "غياب الاجتهاد والتفكير المبتكر لدى بعض الأحزاب، أو إلى سريان روح الاستنساخ المتبادلة بين بعض منها". وفي الطرف المقابل، يشبه بعضهم هذا التقارب في التصورات، بالرغم من التباعد أو التنافر في المرجعيات السياسية، بعلاقة السبب بالنتيجة; إذ أن دراسة نفس المعطيات المشكلة لواقع الحال، ورصد ذات التطلعات من شأنه أن ينتج خلاصات متقاربة، كما أن اعتماد نفس الأدوات والإمكانات قد يحيل بالنتيجة إلى بناء تصورات ورؤى مستقبلية متقاربة أو متقاطعة وأحيانا متماهية. وفي الطرف الآخر من المشهد يدفع هذا التقارب في البرامج بعض المراقبين إلى التساؤل عن مدى مصداقية التعددية الحزبية إن كانت في المحصلة عاجزة عن إنتاج أجوبة متمايزة، وعن الجديد الذي بمقدور كل منها أن يحققه على هذا المستوى لاستجذاب نظر وقناعة الناخب ؟. ويرى غالبية المتتبعين أنه في غياب استحضار تقريبي لميزانية الدولة في أفق السنوات المالية التي ستشكل محور اشتغال هذه الأحزاب سواء ضمن دائرة المسيرين للعمل الحكومي أو المتتبعين المراقبين لهذا العمل على المستوى البرلماني، وفي ظل غياب استحضار مماثل لالتزامات المغرب والنفقات المتوقعة وأفق أسعار النفط والسلع الضرورية التي يستوردها أو يصدرها المغرب، والسياقين الإقليمي والدولي سياسيا واقتصاديا، فإن أي تصور أو تحضير لعمل حكومي مستقبلي يكون محض تكهنات فاقدة لكل إمكانية تطبيق. وهو بالضبط ما جعل بعض البرامج الانتخابية الحزبية مجرد تكهنات أو تمنيات، لا ترقى إلا إلى مغازلة ظرفية لانتظارات الناخب. ولن يتم تجاوز هذه الصورة مستقبلا إلا بالاحتكام إلى ما توفره الدراسات المستقبلية المستندة إلى أرقام والمبنية على احتمالات حسابية قابلة للضبط ولتحديد هامش الخطأ.