على إثر التذمر والامتعاض الشديدين اللذين أبدتهما الفعاليات الجمعوية والمدنية، وكذا بعض القوى السياسية بمدينة تارودانت، والتي وصلت إلى حد تنظيم وقفات احتجاجية بالموقع المعني، من جراء إقدام مصالح وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على هدم مسجد عتيق بحي الرحبة القديمة بمدينة تارودانت، وكذا على إثر نشر عدد من التدوينات. ومن المقالات بعدة منابر إلكترونية، وإعلان نواب برلمانيين من حزبي الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي عن وضع أسئلة كتابية للوزارات المعنية في ذات الشأن، نشرت جريدة "هسبريس" بلاغا لوزارة الأوقاف تحت عنوان: "الأوقاف: خراب "مسجد تارودانت" يستدعي البناء". استهلت الوزارة بلاغها بتأكيد الوزارة أنها لم تتوصل بأي سؤال حول الموضوع، ولم تقيد نفيها هذا بعبارة "بَعدُ" أو "لحد تاريخ البلاغ"، حتى لا ترمي بالكذب السادة النواب، الذين أعلنوا عبر جرائد إلكترونية (اليوم 24 بتاريخ 27 نونبر 2018 مثلا)، بأنهم وضعوا أسئلتهم لثلاثة وزراء معنيين، عبر رئاسة مجلس النواب. ومسؤولو الوزارة يعلمون، حق العلم، أن وصول الأسئلة الكتابية عبر السُّلَّم الإداري يحتاج وقتا؟ وهو في نظرنا جَزمٌ يفتقر إلى اللباقة. وأبرزت الوزارة، ودائما حسب ما نشر بجريدة "هسبريس"، بأنه: "لا علم لها ولا في علم علماء تارودانت أن لهذا المسجد تاريخ تأسيس معروفا". وهنا، فلتسمح لنا الوزارة الموقرة والسادة العلماء الأجلاَّء بأن نسائلهم: هل يعرفون لأحد مساجد تارودانت العتيقة تاريخ تأسيس معروفا؟ بما فيها مسجد "سيدي وسيدي" العتيق، والذي لا يبعد عن المسجد الذي نتحدث عنه سوى بحوالي ستين أو سبعين مترا، مع أنه ملاصق لضريح شيخ صُلاَّح المدينة: "أبي محمد صالح بن واندلوس" (سيدي وسيدي)، وهو من أهل القرن ال6 ه/ 12م، حسب ما ورد في كتاب "التشوف"، الذي حققه أستاذنا الدكتور أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية. ثم هل يعلمون للمسجد الأعظم بتارودانت نفسه (الجامع الكبير) تاريخ تأسيس معروفا؟ وهو المسجد الذي قال عنه العلامة محمد المختار السوسي، في رحلته الرابعة خلال جزولة: «الجامع الكبير العتيق وهو قديم، وإنما جدده محمد الشيخ حين أعاد العمارة إلى هذه المدينة». والأمر نفسه ينسحب على مسجد "فرق الأحباب" ذي العمارة الفريدة، فقد قَدَّر محمد المختار السوسي أن يكون قد بُني في زمان تجديد المدينة، وهو بطبيعة الحال مجرد تخمين. هذه حال المساجد التاريخية الكبرى والمشهورة، والتي يعترف الجميع بقدمها وعتاقتها؛ فلا نعلم لا نحن، ولا علماء المدينة، ولا وزارة الأوقاف- تاريخ تأسيس لها معروفا، فكيف الحال بالمساجد العتيقة الصغرى المنبثة داخل الأحياء؟؟ والتي ذكر العلامة السوسي في مطلع أربعينيات القرن الماضي أن عددها ينيف عن الأربعين، ثم أضاف: «ولم يظهر للأحباس أثر في إصلاحها، مع أن دخل الأحباس في تارودانت يفيض فيضا من البساتين، ومن دكاكين الأسواق..» (خلال جزولة، ج:4، ص: 206). هذا الوضع يقودنا إلى طرح تساؤل آخر، نعتقد أن له أهمية كبرى، وهو كالتالي: أليس في جهلنا، جميعا، بتاريخ تأسيس مسجد الرحبة القديمة دليل قائم على قدمه وعتاقته؟ ثم أليس هذا القدم والعتاقة، لوحدهما، عاملا كافيا كي نصنف هذه البناية، على بساطتها، ضمن التراث المبني العريق للمدينة؟ أو ليست كل المعالم العريقة بالمدينة بسيطة في مظهرها؟ وذلك من خصوصياتها الأساسية، لكونها تمتح من التقنيات المعمارية والعمرانية للبناء الترابي العتيق، والذي طورته القبائل الأمازيغية بالمنطقة، منذ احتكاكها بمؤثرات حضارات شمال إفريقيا القديم، وخاصة منها المؤثرات الفنيقية/القرطاجية! يضيف البلاغ، بناء على رأي "الخبرة التقنية" أنه «لو كانت له معالم تاريخية مميزة لروعيت في البناء الجديد»؟؟ أوَ ليست عناصر هذا البناء الترابي التقليدي البسيط، التي تختزل كل هذا الموروث الحضاري والتقني العريق، بمثابة معالم تاريخية ينبغي مراعاتها في ترميم أو في إعادة بناء هذا المسجد؟؟ أم أن مجرد بساطتها وعتاقتها تنزع عنها أهميتها التراثية والتاريخية؟ أَوَ ليست كل مظاهر الحضارة المغربية بالجنوب بسيطة وعتيقة؟ فالبناء بالبادية السوسية بسيط، وقصبات درعة بسيطة، وأدوات الحرث والحصاد، وألواح البناء الترابي... كلها بسيطة بل وساذجة أحيانا، أيحق لأحد منَّا أن يُشكّك في أهميتها التراثية، وفي كونها تشكل عمق الهوية الثقافية للمغرب بكل أبعادها؟؟ أَوَ ليست كهوف، ورسومات وأدوات إنسان ما قبل التاريخ كلها بسيطة وساذجة؟؟ أيحق لنا تدميرها بدعوى أن ليست لها «معالم تاريخية مميزة»؟؟ اللهم إن كانت لنا نظرة قاصرة، تعتقد أن العناصر المميزة يختزلها فقط الزليج الفاسي، والفسيفساء الإشبيلية، وأنواع النقوش والزخارف الملونة... أو لربما إن كان يستهوينا بناء الخرسانة والإسمنت والحديد، الذي يسارع الزمن في التهام وطمس كل موروث مدينة تارودانت من البناء الترابي الجميل والعريق. نعم، إنَّ كل هذه العناصر تشكل جزءا من هويتنا، ومن ثقافتنا المعمارية؛ ولكنها مجرد جزء بسيط فقط، من ضمن أوجه أخرى متعددة أكثر عراقة، وأشد بساطة، لا يحق لنا أن نستخف بها، أو نَستَعرَّ منها، ونعمل بالتالي على طمسها وإزالتها، بدعوى أنها بسيطة، وليس لها أي وجه تميز. يزيد البلاغ ذاته مؤكدا «أن اللجنة التي تنظر في حالة المساجد التي ينبغي إعادة بنائها مكونة قانونا من عدة أطراف، من بينها ممثل وزارة الأوقاف التي يؤخذ رأيها في البنايات التاريخية والتي يرأسها رئيس المجلس العلمي المحلي». إننا نقدر السيد رئيس مجلسنا العلمي المحلي، ونحترمه كثيرا ونجله كثيرا، ولكننا نعيب على الوزارة تحميله مسؤولية إبداء رأي تقني صرف في مجال العمران، وفي مجال تقدير القيمة العمرانية والتراثية والتاريخية لبناية لا نعلم جميعا حتى تاريخ بنائها، لا هو ولا ممثل وزارة الأوقاف، التي يؤخذ برأيها، فالأول عالم جليل. والثاني موظف إداري، وليس أي منهما لا مهندسا معماريا، ولا خبيرا تقنيا، ولا عالم آثار؟ فلماذا نزج بهما في تحمل هذه المسؤولية، مع توافر مكاتب الدراسات، ومكاتب الخبرة والهندسة المعمارية، ممن لهم تجربة في مجال البناء الترابي والتراثي، وفي تقنيات الترميم وإعادة البناء، ممن سبق أن تعاملت معهم الوزارة ذاتها، وسبق لهم أن أثبتوا خبرتهم وحنكتهم وتمكنهم في هذا المضمار؟ ألا تستحق المدينة العتيقة لتارودانت ان تستفيد من هذه الخبرات ومن هذه التجارب، علما بأن الوزارة لا تعدم الموارد لذلك؟ كما أن البلاغ نفسه نسي أن يذكر لنا أن اجتماع اللجنة المختلطة المذكورة خلال بداية شهر نونبر، كما هو متداول معلوم في المدينة، خرج بقرار إرجاء البت في المشروع لعدم توافق آراء أعضاء اللجنة. كما لم يذكر لنا جملة من الشروط التي طرحت خلال هذا الاجتماع، والتي ركزت على ضرورة إعادة بناء المسجد بطريقة تقليدية، مع احترام مساحته وعلوه. كما لم يذكر لنا التنصيص، خلال الاجتماع ذاته، على ضرورة استحضار الظهير الشريف رقم 341-80-1 الصادر في 17صفر 1401/ 25 دجنبر 1980. وقد أفادت عدة مصادر مطلعة بأن مصالح الجماعة الترابية لم تتوصل بملف المشروع كاملا، على الرغم من أن الأشغال تتم على ترابها؟ كما أن من ضمن الأمور التي أكدها بلاغ أصدره الفريق الاتحادي بالجماعة الترابية، والذي حضر رئيسه اجتماعا رسميا في هذا الموضوع، والبلاغ منشور بتاريخ 28/11/2018، أن المشروع لم يحترم المساطر القانونية المعمول بها في مجال البناء. كما أكَّد البلاغ ذاته أن المشروع غير مصادق عليه رسميا، وأن عمليات الهدم المنجزة غير مُرخَّصة، وأن جزءا مما تم التطاول على هدمه، ويتعلق الأمر بمجموعة من الدكاكين تُطل على ساحة الرحبة القديمة، لا علاقة لها بالمشروع غير المصادق عليه أصلا!؟ تصرح الوزارة، في آخر المقال المنشور بجريدة "هسبريس"، يورد بخصوص «رخصة هدم وإعادة بناء مسجد الرحبة إنها صدرت من طرف السلطات المحلية بتاريخ 22 نونبر 2018». وهذا ما يثير استغرابنا حقا، فهل الوزارة تعمل خارج القانون؟ فقد احتج المواطنون، ووقفت فعاليات المجتمع المدني بالمدينة لتوقيف أعمال الهدم، وصدرت تصريحات تندد بالهدم غير المشروع لهذا النسيج، الذي يشمل مسجد الرحبة والدكاكين المحيطة بحُرُمه وحتى البعيدة عنه، قبل أزيد من شهر من هذا التاريخ؟؟ فقد نشر، على سبيل المثال، موقع "60 دقيقة" في الموضوع نفسه مقالا تحت عنوان «حملة فيسبوكية توقف تخريب البنايات التاريخية بتارودانت» بتاريخ يوم 09 أكتوبر 2018 على الساعة 12.31، فكيف إذن لأشغال هدم شُرع فيها قبل يوم 09 أكتوبر 2018، أن يتم الترخيص بها يوم 22 نونبر 2018، أي بعد ما يزيد عن أربعين يوما (40) من تاريخ الشروع فيها؟؟؟ وقد أضاف المقال نفسه المنشور في هذا الموقع الإلكتروني أن لجنة، عدد المقال الصفة الرسمية لأعضائها، زارت الموقع حينذاك وتبين لها «أن البناية لا يجب هدمها والتصرف فيها بالشكل الذي أضحت عليه، بل يجب ترميمها والإبقاء على تاريخها العريق". من ضمن الأمور غير الواضحة، والتي ينبغي مساءلة الوزارة بشأنها أيضا، كيف تمتد أشغال الهدم لتشمل مجموعة دكاكين بساحة الرحبة القديمة، من ضمنها طابق علوي أي "مصرية" في لسان أهل المدينة، كانت تأوي آخر ورشات الدّرازة بالمدينة، و"القاعة" التي كانت سوقا مخصصة لبيع الإدام (السمن، والعسل، والزبدة)، مع العلم أن هذه المرافق لا تدخل ضمن المشروع، ولا تظهر حتى بالتصميم الذي أعدته الوزارة، بغض النظر عن المصادقة عليه من عدمها؟؟ ألا يمثل هذا الأمر تجاوزا واضحا؟؟ يضيف بلاغ الوزارة في فقرة سابقة أنه «بالنسبة لحالة الخراب التي يوجد عليها المسجد بناء على الخبرة التقنية في الموضوع، فإنها تستدعي إعادة بنائه كاملا». وهنا، سنسجل بعض الملاحظات البسيطة على سبيل الختم: أولاها أن حالة المسجد، قبل أعمال الهدم التي تمت مباشرتها، كانت أحسن بكثير من حال "الجامع الكبير" بعد احتراقه. ومع ذلك، وبأمر ملكي تم الحفاظ على النزر اليسير مما تبقى منه، بل تم جمع مواد بنائه القديمة المتراكمة تحت الأنقاض، من آجُر وقرميد وغيرهما، وتم ترتيبها وتنقيتها والعناية بها إلى حين إعادة توظيفها في أعمال إعادة البناء، وكنت شخصيا على ذلك من الشاهدين. وقد سبق أن أكد لنا المهندس المعماري، الذي أشرف على تلك العملية، أن كثيرا من صُنَّاعنا وحرفيينا الحاليين لم يعد بإمكانهم إنتاج مثل تلك المواد بنفس درجة المتانة والجودة والصلابة، وأنه ليُوفر ما كان ينقصه من تلك المواد، والتي ربما قد تقترب ولو قليلا من درجة صلابتها وجودتها، اضطر إلى أن يزور كثيرا من صناع الآجر بكل من سوس، وحوز مراكش، وفاس! وكل ذلك ليعيد إلى المسجد رونقه الأصلي، كما أمر بذلك صاحب الجلالة. ألم يكن من الأجدر الحفاظ على مواد بناء مسجد الرحبة القديمة، من أجل إعادة توظيفها في إعادة البناء؟ أليس هذا أولى وأجدى من حملها من طرف أصحاب العربات المجرورة المشاركين في عملية الهدم، وبيعها بثمن مرتفع لبائعي مواد البناء، حيث يكثر الطلب عليها في بناء الحمامات التقليدية نظرا لجودتها العالية؟ وختاما، فإن الهدم قد تم، ولم يعد من الممكن التراجع عنه؛ ولكن ألا تستحق مدينة تارودانت، حاضرة سوس وعاصمته العلمية، وكل ساكنتها من قبائل الأمازيغ والعرب أن يُعاد بناء هذه المعالم، التي تم دَكُّها، وفق التقنيات الهندسية العتيقة، وباستعمال المواد المحلية للمنطقة، حفاظا على الطابع المعماري، وعلى مظاهر التراث الحضاري للمدينة، عوض طمسها، كما تم في كثير من المواقع الأخرى، ببناءات اسمنتية لقيطة، ما فتئت تلتهم معالم المدينة، وتعمل على طمس هويتها الحضارية، وذاكرتها التاريخية؟ هذا سؤال أخير نوجهه إلى السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، لا بصفته الإدارية الزائلة، بل بقيمته العلمية الثابتة، كأحد رواد المدرسة التاريخية الوطنية، وأحد الرواد الذين تصدوا ليعيدوا إلى المغرب تراثه العلمي، وذاكرته التاريخية، من خلال البحث الأكاديمي الرصين، وأيضا من خلال تحقيق مصادر تاريخه الأصيلة. ولَعَمري، فإن مهنة المؤرخ المحقق لا تختلف في جوهرها عن مهنة المهندس المرمم، الذي يعيد إلى المعمار ذاكرته ورونقه وأصالته. *باحث في التراث والتاريخ، متخصص في تاريخ تارودانت ورئيس الجمعية المحمدية لحوار الثقافات وصيانة التراث الحضاري لتارودانت