الحبابي الشخصاني الناصح/ الخطيبي ضد الفرنكوفونية/ العروي أبرز مثقفينا وأثقفهم في الرباط، بعد انتقالي إلى التعليم العالي تمتن ميلي إلى الكتابة الأدبية؛ وذلك بإيعاز من المرحوم محمد عزيز الحبابي الذي كان من أساتذتي وعميد كلية الآداب وقتذاك، إذ إنه شجعني على المشاركة في مسابقة الكتابة المسرحية التي نظمها اتحاد كتاب المغرب الذي كان يرأسه، فرشحت لها مسرحيتي "العكاكيز" التي نالت جائزة رمزية ونشرت في آفاق مجلة الاتحاد، فكانت أول نص نثري كتبته، لكني لم أنشره من بعد. كما كان للراحل فضلُ إخراجي من أزمة تردد بين الالتحاق بشعبة الفلسفة أو شعبة الأدب، فنصحني بالأولى لكونها في نظره تمهد للثانية وتشملها، فكان ذلك ما اخترته مقتديا بحالة الناصح الذي جمع في تكوينه ما بين الأدب والفلسفة وألف فيهما معا وكان من رواد المذهب الشخصاني ومبيئه إسلاميا؛ كما يرجع للراحل فضل آخر في تبديد حيرتي بين شعبتيْ الفلسفة بالعربية والفرنسية، فاخترت الثانية لإعداد إجازتي، ولم أندم على قراري، لاسيما أن بعض أساتذة الأولى كانوا يهجنون أسئلتي، حتى إن أحدهم أمرني يوما بالتزام الصمت، متهما إياي بالخيلاء (لحياله)...شيء واحد كان يغيظني عند المرحوم الحبابي هو تقتيره في تنقيط ورقاتي في مادة الترجمة "بشوية فوق المعدل"، رغم خلوها من التصحيحات، ويعلل ذلك قائلا: حتى لا تغتر... أما من علق اسمه بذاكرتي في قسم الفلسفة بالفرنسية فهو الأستاذ جوزيف شوني، صاحب كتاب مفرد عن مسرح گابرييل مارسيل، وكان أبلغ المدرسين وأمهرهم، يرتجل دروسه في أصعب مادة هي تاريخ المنطق عامة والمنطق الصوري خاصة، ووجه العجب عنده أنه كان يعرض تلك المادة ويقوم بتفهيمها للطلبة وهو في حالة سكر لا تبدو علامته إلا في احمرار حنكيه الشديد، أو تُشم رائحته إذا لزم الاقتراب منه. في ذلك السياق نفسه، لا يمكنني ألا أذكر الراحل عبد الكبير الخطيبي، أستاذي في السوسيولوجيا الذي ربطتني به من بعد صداقة مثمرة متينة..كان باحثا وروائيا موفقا مقتدرا، لا يعدله مجايله وخصيمه الطاهر بنجلون المتضلع في الانتهازية واللؤم؛ يكتب بالفرنسية، لكن موقفه من الفرنكوفونية كان دوما نقديا معارضا، ما جعل رعاتها يعاقبونه ويضيقون عليه الخناق في مجالي النشر والإعلام، فلم تنشر له دار چاليمار إلا رواية واحدة هي كتاب الدم؛ ومما لم يغفروه له هذا المقطع من سيرته الذاتية الذاكرة الموشومة: "كنت أيام حرب الجزائر كاتبا من دون ملف، أناقش بشوق في الثقافة الوطنية والهوية أو نقيضهما، أو في الثورة والإسلام؛ وبما أن كل جماعة فرنسية كان لها عربي خدمتها، فقد كنا نسمع اعترافات لا منقطعة. فعربي الخدمة يقول: "إنني حلقة وصل بين الغرب والشرق، والمسيحية والإسلام، وإفريقيا وآسيا"، وأشياء أخرى! مسكين أنت أيها العربي، أين كنت أنت المختزل في سلسلة من حلقات الوصل! كنت أرى البعض يتسولون صورة هويتهم من أكشاك الجرائد، متعلقين مهمومين بأدنى تشطيب في الاعتراف بهم. هلموا، يقول الفرنسي، وتقاذفوا بالسب في لغتنا، فسنكون في غاية الامتنان لكونكم تحسنونها جيدا". وعطفا على هذا الاعتراف القيم، من الغريب حقا أن نرى تييري دي بوسي (وهو وزير فرنسي سابق) يقدم على مخاطبة الخطيبي بهذا الاستغراب المهين: "إني مندهش لهذا الثبت الذي يريني أن اللغة الفرنسية كانت قليلة الإخصاب مقارنة مع نجاحات الأدب الأمريكي-اللاتيني؛ فالإسبانية المستوردة أخصبت قارة بأكملها، بيد أن هذا لا يمكننا قوله حقا عن الفرنسية قياسا إلى بلدان المغرب". وفي الكتاب نفسه يمكن مراجعة رسالة الخطيبي الاحتجاجية إلى ألان ديكو، وزير الفرنكفونية الأسبق، وذلك بعد أن منع منظمو مناظرة "الأوضاع العامة للفرنكفونية" إدراج ورقته في أعمالهم (ديسمبر 1989) لما حوته في نظرهم من أفكار خارجة عن الخط لا تخدم سياسة فرنسا الثقافية. وخلال فترة تتلمذي الجامعي، ينتصب أمامي أيضا الأستاذ عبد الله العروي الذي تستمد كتاباته قوتها أساسا من وقوفها على أرضية التاريخ؛ أما شهرته بين عموم المثقفين وما صاحبها من "قراءات" وضجات فهي تعزى إلى صنفين من أعمال أقدم على إنجازها مستندا إلى ثقافته التاريخية ومعرفته بالمناهج الحديثة، وهي ذات طابع تنظيري تركيبي: الايديولوجيا العربية المعاصرة/ أزمة المثقفين العرب/ العرب والفكر التاريخي/ ثقافتنا في ضوء التاريخ؛ علاوة على أعمال ذات توجه تحليلي تعليمي حول المفاهيم؛ وبها جمعاء ولج مؤلفها ميدانا هو أقرب إلى الفلسفة وتاريخ الأفكار منه إلى التاريخ بالمعنى الهستوغرافي والمونوغرافي. وفي ذلك الميدان يصعب القول بسلطة التاريخ الوقائعي وقدرته في الفصل والتحكيم، عكس ما توحي به أقوال العروي ومواقفه. إننا هنا في مجال التأويل وإنتاج المفهوم والمعنى وحيث تقوم الإشكالات المنهجية والمعرفية. ويتبدى أن أمر النظرية والتنظير ليس لغوا، بل إنه يكشف عن مقام فكري خصب ومعقد. إن قيمة تلك الأعمال تأتي كذلك من كونها أثارت العديد من التساؤلات، وحتى الاعتراضات والانتقادات، التي كنت طرفا فيها، وهي في مجملها إما تؤكد على الطابع الإيديولوجي لنقد الإيديولوجيا عند العروي وعلى منهجه المثالي النخبوي، وإما تبرز عنده استخفافه بمعارضي التاريخانية من الفلاسفة، ومنهم كلود ليفي-ستروس ولوي التوسير وكارل بوبر، إذ لا تكفي الإشارات والتلميحات للرد على حجم انتقاداتهم التي ترى في التاريخانية مذهبا دوغمائيا يطبعه التكرار ويعمل بالمساومة المعرفية ولا يعين في شيء على كشف القواعد والبنيات، ولا على التوقع ومعرفة الآتي. لقد خصصت للأستاذ العروي مكان الصدارة في كتابي الحواري معهم حيث هم، وأفردت له فصلا كاملا من مؤلفي نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر، عنوانه "عن تاريخانية العروي أو الحداثة المعاقة". ومثلا ما أثار عجبي وأسفي في ذلك الفصل أن مفكرنا لم يهتبل فرصة الترجمة إلى العربية التي أنجزها بنفسه لنص الأيديولوجيا العربية المعاصرة ليعيد كتابة المؤلف مزيدا ومنقحا قصد تحيين وإغناء بعض فصوله في ضوء التغيرات والهزات أثناء الثلاثين سنة الفاصلة بين الطبعتين، والتي خصت العالم وأثرت بدرجات متفاوتة في البلدان العربية والإسلامية. وبدل الاهتمام بهذه المسألة، ولو في مدخل مفصل إلى حد ما، لم يجد المؤلف في مقدمته الجديدة أحسن من أن يقدح في مترجمه اللبناني قبل أن يثير مسألتين أساسيتين ويمر عليهما مرَّ الكرام، هما: "الصحوة الإسلامية" و"تصدع المعسكر الشيوعي". وإن كانت من مغربة طريفة حدثت لي مع أستاذي العروي فهي حول فكرتنا المشتركة القاضية بإنشاء "جمعية الترجمة والبحث التكاملي"، عنها يقول: "لبى عدد من الأساتذة دعوة مني ومن بنسالم حميش بهدف تأسيس جمعية تهتم بتحديد المراجع الأساسية للفكر الحديث قصد تعربيها...". (أنظر خواطر الصباح، ص 199). وقد قمت بتحرير أرضية أثنى عليها الأستاذ الذي استبشرت خيرا من تعليق عزلته، وصادق عليها جمع المدعوين في منزله، وهذه فقرة واحدة منها: "إنه لا مناص للأساتذة من أن يقوموا بواجباتهم الترجمية إزاء الطلبة والباحثين، فهم يقومون بالفعل بنقل عدد من المراجع الأصلية إلى العربية ضمن مجهودهم المهني، ويتعلق الأمر بتنظيم وتنسيق هذا العمل الجاري حاليا حتى لا تتفرق المساعي ويبقى الجهد معزولا غير معروف وربما مكرّرا لما سواه. فإذا ما تأسست جمعية في هذا الإطار سيكون من فوائدها البينة الاتفاق على لائحة أولية من المراجع والأصول داخلة في اختصاصات الأساتذة والدعوة إلى تعريبها حسب قواعد مضبوطة متفق عليها، وكذلك القيام بالدعاية لها ونشرها وجمع وخزن المصطلحات التي تنتج عنها، حتى لا تبقى مجهولة عند الكثيرين. هذه إذن بعض الأهداف القريبة المفيدة والمندرجة في مسؤولية الأساتذة الباحثين المهتمين؛ وهي التي يجب أن ينصب عليها تفكيرهم في مرحلة البدء والانطلاق...". غير أن صاحبنا ما لبث أن عاد إلى ما يسميه مقبعه، فلم يعد يتكلم في الموضوع بأي وسيلة كانت، فنصحت الزملاء باعتبار المشروع مجرد حلم أو سراب مؤرخ ب 22 يوليو 1994. هذا وإن الرجل أكبر من أن يلام على ذلك (ولو أنه أخطأ في قبوله مناقشة الأمي عيوش في قضية الدارجة)؛ كما لا يلام على اختياره العزلة التي هي عزلة العالم الهارب من السياسة المحتبسة المتعبة وثقافة العبث والاجترار. وأخيرا يطيب لي أن أشاطر القارئ بعض أفكار العروي المتألقة النيرة، منها أنه من باب الصنافة الموضوعية (تيبولوجيا أو طاكسينوميا) يدرج الأدب المغاربي الفرنكوفوني ضمن الأدب الفرنسي، ولو أن أصحابه ولدوا ونشؤوا في بلدان المغرب، مثلهم كمثل الأدباء الفرنسيين الملقبين باسم "الأرجل السود"، كناية عن ولادتهم في هذه البلدان.. ويحسب له في هذا السياق انتصاره للغة العربية آدابا وثقافة، فلا يكتب رواياته إلا بها، مع أنه متملك تمام التملك للغة الفرنسية. ومن تلك الأفكار أيضا حكمة الشجاع القائل: "إن الانزواء الذي نلاحظه عند الدارسين المغاربة وانكبابهم على منوغرافيات جد ضيقة يقعدان بهم عن طرح مسائل جوهرية وربما يدفعانهم دفعا في دروب جانبية" (مجمل تاريخ المغرب، ص 510). وأضيف هذه الفقرة: "هل النزعة البربرية عند الفرنسيين وبعض أذنابهم أيام الحماية هي النزعة نفسها عند أنصار الأمازيغية اليوم؟ ابن عبد الكريم الخطابي والتهامي الكلاوي كلاهما كانا ينتسبان إلى العرب ضدّاً على الدعاية الفرنسية الرسمية، ودعاة الأمازيغية اليوم يدافعون عنها بأسلوب عربي بليغ. يقول علماء الاجتماع إن الانقسام على أسس طبقية يدلّ على انسجام، والافتراق حسب الانتماءات القبلية يدلّ على تمايز وتنابذ.. الأول يؤدّي إلى تناوب النخب والثاني إلى التباعد والانشطار" (استبانة، ص 133). وأدرج هذه الأخرى: "الواقع هو أن كتّاب عهد الاستعمار، وأغلبهم فرنسيون، كانوا يميزون دائما ما هو من التاريخ وما هو دونه [...] وما هو من دونه يتعلّق بأرض المغرب وكيف شُوهت، وبالمجتمع وكيف فتق وشّتت، وبالذهن وكيف تاه واختلط، فلا يرون شيئا من ذلك قابلا للدراسة الموضوعية لأنه من قبيل الشعور الذي لا يضبط" (مجمل تاريخ المغرب، ص 253). وأختم بهذا الاستشهاد الشيق البليغ: "إن الشعور بالمرارة لا يقلّ البتة في البلدان المستعمرة سابقاً. فلكأن حالة الهيمنة لا تفتأ تعيد إنتاج نفسها، والشباب يعيشونها بالحدة ذاتها التي نجدها عند الكبار. صحيح أيضا أن المستعمِر القديم إذا كان قد اختفى جسديا فإنه مازال حاضراً بثقافته ولغته وعقليته في الطبقات والإدارة والشارع. وهذا الحضور غير المرغوب فيه، والعصيُّ مع ذلك على الاجتثاث، هو الذي يُديم وضعية تُحيي في كلّ وقت الجروح القديمة". (Esquisses historiques, p. 67).