يعيش حزب الجرار حالة انحباس سياسي واختناق تنظيمي غير مسبوقة تنذر بدخوله مرحلة عاصفة. وهذه الوضعية، التي يقدمها البعض على أنها بسبب خلافات حول قضايا مسطرية وتنظيمية بين القيادة الوطنية، تعتبر في عمقها نتيجة طبيعية لعدة تطورات أهمها: أولا، فشل الحزب في تصدر نتائج انتخابات 2016، وبالتالي فشله الذريع في تحقيق الهدف الإستراتيجي الذي استثمرت من أجله السلطوية كل ما أمكنها بذله من "إمكانات". ثانيا، انزلاق القيادة السابق إلى أجندات ملتبسة في علاقتها مع السلطوية، وخاصة في بعدها المتعلق بالوفاء لشروط النشأة. ثالثا، تراجع ثقة السلطوية في الحزب نتيجة ما سبق، والتوجه نحو تحويل استثماراتها السياسوية وبشكل واضح إلى حساب "حزب الحمامة". وتدحرج "البام" في مراتب "سلم ثقة السلطوية" لا يتوقع منه سوى عيش "نخبه"، العالقة داخل حزب لن يحقق لها شيئا من أهدافها من موقع المعارضة، في حالة اختناق تنظيمي وانحباس سياسي لم يكن ممكنا احتواؤه بتغيير قيادة الحزب الأخيرة. ويزداد الضغط الداخلي دخل حزب السلطوية بفعل عوامل تتعلق من جهة بسعة القاعدة غير المؤطرة والمضطربة الولاء السياسي، وبتعدد محاور الاستقطاب الداخلي غير الديموقراطي، من جهة ثانية. لذلك من الطبيعي أن يدخل الحزب اليوم مرحلة فرز تنظيمي وسياسي حاد وعميق. وديناميكية الفرز السياسي والتنظيمي الحاد المشار إليه نجد بعض تجلياتها في العديد من المظاهر والأحداث، نجمل أهمها في الآتي: * استمرار مقاطعة عدد من القيادات الوطنية لاجتماعات المكتب السياسي، على رأسهم فاطم الزهراء المنصوري، رئيسة المجلس الوطني للحزب، والقيادي عبد اللطيف وهبي؛ والتي طالت بشكل ممنهج 19 اجتماعا للمكتب، حسب تصريح للأمين العام، حكيم بنشماس ليومية الأحداث المغربية (عدد يوم الثلاثاء 27 نونبر 2018)، وهو مجموع الاجتماعات التي عقدها المكتب مند تأسيسه، ما يعني دخول الهيئة القيادية الوطنية في حالة من العجز التنظيمي. *استمرار تجميد المجلس الوطني للحزب بسبب رفض رئيسته المنصوري عقد دورته لاستكمال الهيكلة وتشكيل اللجان الوظيفية؛ وهو ما يجسد لعبة شد الحبل بين بنشماس والمنصوري التي لا تتردد في توجيه مختلف الاتهامات العلنية إلى أمينها العام. * وجود الأمين العام للحزب في حالة عجز مفارقة، فهو من جهة أولى عجز عن الحسم في الطعون المقدمة ضد أعضاء في المكتب السياسي للحزب من طرف معارضيه، ما عمق أزمة الثقة التنظيمية في الجهاز القيادي للحزب، وتزكية الاتهامات المتعلقة بهيمنة تيار الريف على هياكله؛ ومن جهة ثانية عجزه عن تفعيل العقوبات التأديبية ضد معارضيه، والتي اتخذتها القيادة في حق عدد من قيادات الحزب الوطنية والجهوية والمحلية، وبرلمانيين ورؤساء جماعات، وأججت الغضب الداخلي في "الجرار". * مقاطعة أزيد من 250 منتخبا للقاء التواصلي الخاص برؤساء الجماعات المحلية المنتمية ل"الجرار"، والذي ترأسه الأمين العام للحزب بمراكش، ضمنهم الرؤساء الخمس للجهات التي يسرها "الجرار"، ما يعني أن الأزمة تتجاوز الهيئات التنظيمية للحزب وما يرتبط بها من مشاكل، لتشمل منتخبيه أيضا. * الحراك الداخلي ذو الطابع الجهوي، والذي شمل إلى حدود كتابة هذه السطور جهتين لهما وزن سياسي وتنظيمي قوي داخل الحزب، وهما جهة سوس ماسة وجهة مراكش أسفي. وهاتان الجهتان أصدر أعضاء الحزب فيهما بيانين لا يختلفان في جوهرهما الرافض للوضع الداخلي للحزب، وفي كونهما لم يصدرا عن هيئات الحزب الرسمية في تلك الجهات، بل صدرا عن اجتماعين غير رسميين لأعضاء الحزب في تلك الجهتين، ما يعني أننا أمام حراك تنظيمي يتجاوز الهياكل التنظيمية للحزب في تلك الجهتين، للتعبير عن هوية جديدة لذلك الحراك، أهم خصائصها هو تمردها على مؤسسات الحزب القائمة. *التوجه "المعارض" لإعلام الحزب المتمثل في يومية "آخر ساعة"، التي تحولت في خطها التحريري بين مرحلة العمري ومرحلة بنشماس، إذ تقوم اليوم بالترويج لأخبار التوترات الداخلية، وتورد مثلا بيانات جهتي أكاديرومراكش "المتمردة" على المؤسسات، وكذا بيان فروع الحزب بالخارج الذي وصف الأوضاع داخل الحزب ب"الكارثية". وكمثال عن طريقة تعامل الجريدة مع الصراع نجدها في عدد يوم الإثنين 26 نونبر 2018، وتحت عنوان في صفحتها الأولى، "دائرة الاحتجاج تتسع في صفوف البام"، تقول: "وعلمت "آخر ساعة" من مصادر موثوقة أن الخلافات داخل الحزب وصلت شرارتها إلى حد إقحام الفريق النيابي في الصراع، بمحاولة أحد النواب جمع توقيعات لتكوين فريق مستقل داخل البرلمان، احتجاجا على تجميد عضوية عدد من أعضاء ومسؤولي الحزب في عدد من الجهات ...". وهذا المقال بدأته بالقول: "بعد انتفاضة عدد من أعضاء حزب الأصالة والمعاصرة بجهتي سوس ماسة ومراكش أسفي حول ما آل إليه الحزب، عبر مسؤولو فروع الحزب بالخارج عن قلقهم واستيائهم من الظروف الحالية في الحزب". * وإذا أضفنا إلى ما سبق حرب الاتهامات المتبادلة بين "تيار الريف-بنشماس" و"تيار المنصوري-وهبي" في وسائل الإعلام، والتي تتجاوز الاختلاف إلى الاتهامات والطعن في النيات وفي الذمة المالية، سنكون أمام وضع فقد شروط التفاهم داخل مؤسسات الحزب. ما سبق يبين أن الحزب يعيش أزمة تنظيمية وسياسية خانقة. لكن ماذا يريد "تيار المنصوري-وهبي" من خلال تمرده على مؤسسات الحزب وتجميد برلمانه وإشهار ورقة الجهات؟. البيانان الصادران عن أعضاء الحزب في الجهتين بقيا في مستوى التشخيص العام، الذي يدور حول وجود أزمة تنظيمية خانقة، وتحميل المسؤولية لجميع أعضاء الحزب ودعوتهم إلى الانخراط في حلها. لكن كيف؟. في بيان أكادير نجد إشارة أولى تقول: "نعلن عزمنا الكبير واستعدادنا وجاهزيتنا لعقد المؤتمر الجهوي للحزب في القريب العاجل"، وإشارتين في بيان مراكش، الأولى تقول: "ندعو إلى عقد اجتماعات إقليميا وجهويا لتدارس الوضعية التنظيمية والسياسية للحزب"، والثانية تقول: "ندعو إلى ضرورة التفكير في خلق نواة وطنية من أجل العمل والإسهام في تقديم الاقتراحات العملية، لإنقاذ الحزب في أقرب الآجال"؛ ما يعني أن الحزب قد يعرف قريبا ديناميكية فرز تنظيمي لإعادة التموقع التنظيمي بين التيارات المتصارعة. وقد تنتهي تلك الديناميكية بالدعوة إلى عقد مؤتمر وطني استثنائي تتوج فيه بقيادة وطنية خارج تيار الريف، أو تدخل مرحلة مفتوحة على جميع الاهمالات بما فيه تفجير الحزب تنظيميا. لا شك أن "حزب الجرار" يعيش حالة تيه في حقل السلطوية بعد اهتزاز ثقة هذه الأخيرة فيه، لكن الأهم من الناحية السياسية ذات الصلة بصحة المشهد الحزبي المريض هو هل نحن أمام بوادر "طفرة" في حزب البام في اتجاه استقلاليته التامة عن السلطوية؟ أم أنه بالعكس مجرد صراع استعراض القوة في إطار عملية الفرز بحثا عن "من يصلح أكثر" للمرحلة المقبلة في إطار الوفاء لشروط النشأة التي تجعل الحزب عامل إضعاف المشهد الحزبي الذي يعيش أكبر أزمة من حيث استقلالية مكوناته؟ وبالنظر إلى طبيعة مكونات "التمرد الداخلي" الجاري، الراجح أننا أمام حالة تصحيح أخطاء ولاء الحزب للسلطوية لا غير.