يواصل فريق البحث حول الأداء السياسي والدستوري، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بجامعة محمد الخامس، بدعم من المجلة المغربية للسياسات العمومية، وبشراكة مع جريدة هسبريس الإلكترونية، سلسلة إصدارات عبارة عن أوراق سياسات، يتوقف خلالها مجموعة من الأساتذة والباحثين عند تحليل موجز لقضية تشغل الرأي العام. الورقة الثالثة: مجلس المنافسة بين تخليق الحكامة الاقتصادية وتدبير انتظارات ما بعد "المقاطعة" مما لا شك فيه أن إعلان بلاغ الديوان الملكي الصادر يوم 17 نونبر 2018 عن تعيين السيد إدريس الكراوي رئيسا لمجلس المنافسة، يشكل منعطفا جديدا في التاريخ القصير لهذه المؤسسة، ويطرح أسئلة عن مدى إمكانية الرهان على بداية مرحلة متقدمة في مسار بناء دولة الحق الاقتصادي، وعلى حدود تفعيل دور إحدى مؤسسات الضبط والتقنين الواردة في دستور 2011، وعلى مختلف العوامل التي ستحكم أداء هذه المؤسسة مستقبلا، طبعا في انتظار استكمال الصورة بتعيين باقي أعضاء المجلس. ذلك أنه في أعقاب المقاطعة الشعبية غير المسبوقة لبعض العلامات التجارية، وفي ظل النقاش المتنامي حول واقع المنافسة الاقتصادية بالمغرب، وطبيعة العلاقة بين الفاعلين في السوق، ومحدودية آليات حماية المستهلك من الشطط "التجاري" للشركات، ومن كل أنواع المنافسات غير الأخلاقية، عاد الى أجندة الحوار العمومي بقوة سؤال غياب مجلس المنافسة وتحوله إلى مؤسسة بلا فعالية وظيفية، وهو ما جعل كل الخطاب الرسمي حول تحديث الاقتصاد وتقوية الشفافية وتدعيم الليبرالية الاقتصادية يصبح موضوع مساءلة يومية لدى قطاعات واسعة من الرأي العام . في سياق تعيين رئيس جديد لمجلس المنافسة، تنصب هذه الورقة على تقديم هذه المؤسسة الضبطية، وقراءة دلالات وسياق هذه المحطة الجديدة للمجلس، وتفسير الجمود الذي عرفته هذه المؤسسة لمدة سنوات، وأثر المقاطعة على تزايد "الطلب" على تنصيب المجلس، فضلا عن طبيعة الرهانات والانتظارات من المجلس في المرحلة الراهنة، ثم الوقوف على بروفايل القائد الجديد للمؤسسة، من خلال التساؤل عن الاستمرارية والتغيير في شخصية الرئيس الجديد. لقد أحدث مجلس المنافسة بموجب القانون رقم 06.99 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.00.225 المؤرخ في 2 ربيع الأول 1421 (5 يونيو 2000)، حيث خصص له الباب الخامس من المادة 14 إلى المادة 23. غير أن هذا التنصيص - عدا عن أهميته الرمزية - لم يمكن المجلس من أن يضطلع بأي دور في تقوية قواعد المنافسة والحد من الاحتكارات. يجد هذا الأمر تفسيره فيما ورد في القانون من تقييد لمهام المجلس، حيث لم يعترف له إلا باختصاص استشاري. العجز التشريعي البنيوي سيضاعفه نقص حاد في الإرادة السياسية، وهو ما أسهم في إضعاف دور المجلس، والحيلولة دون أن يقف بالوظائف الدنيا التي أحدث على أساسها. مع تعيين عبد العالي بنعمور رئيسا للمجلس، تقوى الخطاب الداعي إلى ضرورة إعطاء دور تقريري للمؤسسة، وإلى الحاجة إلى مراجعة القانون المنظم له، حيث تحول رئيس المجلس الى مترافع أول حول ضرورة تعزيز القدرات المؤسسية لهذا المجلس . وتبقى هنا نقطة التحول في مسار مجلس المنافسة، تلك التي يمثلها بلاغ الديوان الملكي ل11 أبريل 2011، الذي صدر في سياق موجة ما يصطلح عليه ب"الربيع العربي" في نسخته المغربية، بما يشكله من اهتمام ملكي بضرورة تفعيل دور المجلس إلى جانب مؤسسات أخرى لها علاقة بمجالات حقوق الإنسان ومحاربة الرشوة، ليتوج هذا المسار بالارتقاء بمجلس المنافسة إلى مصاف المؤسسات المدسترة، إذ نص الفصل 166 من الدستور على اعتباره "هيئة مستقلة، مكلفة في إطار تنظيم منافسة حرة ومشروعة بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية، خاصة من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق، ومراقبة الممارسات المنافية لها، والممارسات التجارية غير المشروعة، وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار". تماشيا مع ذلك، تم تطوير وتعزيز الإطار التشريعي لمجلس المنافسة، بإصدار القانون رقم 20.13 المتعلق بمجلس المنافسة الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.14.117 الصادر في 2 رمضان 1345 (30 يونيو 2014) والمنشور بج.ر، عدد 6276- (24 يوليوز 2014). وبموجب هذا النص تم نقل مجلس المنافسة من مجرد مؤسسة استشارية، كما تصورها القانون رقم 06.99، إلى مؤسسة تقريرية باختصاصات واسعة، وبتركيبة جديدة تنزع به إلى الاستقلالية النسبية عن الحكومة. التطور سيهم كذلك آليات تدخل المجلس أيضا، بما في ذلك الحق في الإحالة الذاتية، مع الإشارة طبعا إلى صدور القانون رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة. على مستوى التركيبة، أصبح مجلس المنافسة، في ظل القانون رقم 20.13، يتكون من رئيس و12 عضوا. يعين الرئيس بظهير شريف لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، مع العلم أن القانون رقم 06.99 كان ينص على أن رئيس المجلس يعين من قبل الوزير الأول (المادة 19). أما باقي الأعضاء فيعينون بمرسوم للمدة نفسها، قابلة للتجديد مرة واحدة، ويتعلق الأمر ب: - عضوين من القضاة يعينان باقتراح من المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ - أربعة أعضاء يُختارون بالنظر إلى كفاءتهم في الميدان الاقتصادي أو المنافسة، باقتراح من السلطة الحكومية المختصة؛ - عضوين يُختاران بناء على كفاءتهما في المجال القانوني، باقتراح من السلطة الحكومية المختصة؛ - ثلاثة أعضاء يزاولون أو سبق لهم أن زاولوا نشاطهم في قطاعات الإنتاج أو التوزيع أو الخدمات، باقتراح من السلطة الحكومية المختصة؛ عضو واحد يُختار بالنظر إلى كفاءته في ميدان حماية المستهلك، باقتراح من السلطة الحكومية المختصة. يتعين بخصوص التركيبة المحددة في النص إبداء بعض الملاحظات: أولا: الاحتفاظ بنفس عدد أعضاء المجلس، وبنفس البروفايلات التي كان منصوصا عليها في النص السابق، حيث كان المجلس يتألف، فضلا عن الرئيس، من اثني عشر عضوا: ستة أعضاء يمثلون الإدارة، ثلاثة أعضاء يُختارون لأهليتهم في مجال القانون والاقتصاد والمنافسة والاستهلاك، ثم ثلاثة أعضاء يزاولون أو سبق لهم أن زاولوا نشاطهم في قطاعات الإنتاج والتوزيع والخدمات. لكن الجديد في القانون رقم 20.13 هو حذف ممثلي الإدارة من التركيبة الأخيرة. ثانيا: أن الفئات التي ستمثل في المجلس تتوزع بين التكوينات القانونية والاقتصادية والاشتغال في مجال الأعمال وميدان الاستهلاك، مما يفيد التوجه نحو جعل المجلس مؤسسة تقنية بعيدة عن التجاذبات السياسية، وبعيدة عن الطبيعة التداولية الواسعة، التي فرضت الرفع من عدد أعضاء مؤسسات أخرى كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. ثالثا: استمرار تأثير السلطة التنفيذية في مسألة تعيين العديد من الأعضاء، حيث يظل التعيين في المجلس موزعا بين الملك والحكومة، فالملك يختار رئيس المجلس ويعين أيضا الأمين العام للمجلس، والحكومة تتولى اختيار عشرة أعضاء من المجلس، علما أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يحظى بنصيب في هذا المجال من خلال تعيين قاضيين بالمجلس. إضافة إلى هذه الفئة، فإن الحكومة تمثل لدى المجلس بمندوب للحكومة يعين بمرسوم يتخذ باقتراح من السلطة الحكومية المختصة. أما فيما يخص اختصاصات المجلس، فقد خول القانون رقم 20.13 له القيام بأدوار رئيسية لضمان شفافية العلاقات التجارية بين الفاعلين في السوق. وهكذا، أنيط به القيام باختصاصات تقريرية في مجال الممارسات المنافية لقواعد المنافسة، ومراقبة عمليات التركيز الاقتصادي، ومن ثَمَّ فهو ملزم، وفقا للمقتضيات القانونية التي تؤطر عمله، بالحرص على ضمان حظر الأعمال المدبرة أو الاتفاقيات أو الاتفاقات أو التحالفات الصريحة أو الضمنية الهادفة إلى عرقلة المنافسة أو الحد منها أو تحريف سيرها في سوق ما، كالقيام بالحد من دخول السوق أو من الممارسة الحرة للمنافسة من لدن منشآت أخرى أو عرقلة تكوين الأسعار عن طريق الآليات الحرة للسوق بافتعال ارتفاعها أو انخفاضها، وحصر أو مراقبة الإنتاج أو المنافذ أو الاستثمارات أو التقدم التقني، وتقسيم الأسواق أو مصادر التموين أو الصفقات العمومية (المادة 6 من القانون رقم 104.12). ينتظر أيضا من المجلس، دفاعا عن قواعد المنافسة، حظر قيام منشأة أو مجموعة منشآت بالاستغلال التعسفي لوضع مهيمن في السوق الداخلية أو جزء هام من هذا السوق أو لحالة تبعية اقتصادية يوجد فيها زبون أو ممون ليس لديه أي بديل مواز (المادة 7 من القانون رقم 104.12). ضمن هذا التوجه يحضر هاجس حماية المستهلك، حيث إن المجلس يبقى مطالبا بالتدخل بموجب المادة 8 من القانون رقم 104.12 من أجل منع القيام "بعروض أسعار أو ممارسة أسعار بيع للمستهلكين تكون منخفضة بصورة تعسفية بالنسبة إلى تكاليف الإنتاج والتحويل والتسويق، بمجرد ما يكون الغرض من العروض أو الممارسات المذكورة، ويمكن أن يترتب عنها في نهاية المطاف إقصاء منشأة أو أحد منتوجاتها من سوق ما أو الحيلولة دون دخول هذه المنشأة أو أحد منتوجاتها إلى سوق ما". المجلس مخول له كذلك، بمقتضى القانون المنظم، إمكانية إبداء آراء بشأن طلبات الاستشارة من طرف اللجان الدائمة للبرلمان حول اهتماماتها التشريعية، وفي كل مسألة تتعلق بالمنافسة بطلب من الأطراف التي لها حق الإحالة. ويملك أيضا الحق في توجيه توصيات إلى الإدارة لتفعيل التدابير اللازمة لتحسين السير التنافسي للأسواق. كما يضطلع بإبداء الاستشارة في مشاريع النصوص التشريعية أو التنظيمية المتعلقة بإحداث نظام جديد أو بتغيير نظام قائم يهدف مباشرة إلى فرض قيود كمية على ممارسة مهنة أو الدخول إلى سوق وإقامة احتكارات أو حقوق استئثارية أو خاصة أخرى في التراب المغربي أو في جزء مهم منه، وفرض ممارسات موحدة فيما يتعلق بأسعار أو شروط البيع، ومنح إعانات من الدولة أو الجماعات الترابية وفقا للتشريع المتعلق بها. كما يستشار من طرف المحاكم في شأن الممارسات المنافية لقواعد المنافسة في القضايا المعروضة عليها. ويتدخل مجلس المنافسة في ممارسة الاختصاصات المنوطة به، إما من تلقاء نفسه أو عن طريق الإحالة من هيئات أخرى. وعليه، يمكن للمجلس، باقتراح من مقرره العام، أن ينظر بمبادرة تلقائية منه في كل الممارسات التي من شأنها المساس بقواعد المنافسة الحرة، وكذا في أي إخلال بالتعهدات المتخذة من لدن الأطراف في عملية تركيز اقتصادي في إطار تصدي الإدارة لقرار متعلق بهذه العملية، وفي الممارسات المتمثلة في عدم احترام القواعد المنصوص عليها في القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، والخاصة بتبليغ عمليات التركيز الاقتصادي واحترام قرارات المجلس والإدارة في شأن هذه العمليات. ويمكن للمجلس اتخاذ المبادرة للإدلاء برأي حول كل مسألة تتعلق بالمنافسة، وينشر الرأي المذكور بالجريدة الرسمية ليطلع عليه العموم. ويمكن للمجلس كذلك توجيه توصيات إلى الإدارة لتفعيل التدابير اللازمة لتحسين السير التنافسي للأسواق. كما يمكنه القيام بمهامه في حماية المنافسة، ومراقبة عمليات التركيز الاقتصادي، بمناسبة البت في الإحالات الواردة عليه من طرف مؤسسات أخرى تتوزع إلى صنفين: هيئات تتمتع بإحالة عامة في كل القضايا المرتبطة بالمنافسة مثل الإدارة العمومية، وتلك التي تحيل في حدود المصالح التي تتكفل بها، وتنحصر في مجالس الجماعات الترابية أو غرف التجارة والصناعة والخدمات أو غرف الفلاحة أو غرف الصناعة التقليدية أو غرف الصيد البحري أو المنظمات النقابية والمهنية أو هيئات التقنين القطاعية أو جمعيات المستهلكين المعترف لها بالمنفعة العامة. انطلاقا من ذلك يلاحظ أن نص قانون مجلس المنافسة لم يتمكن من حل المطالب المتعلقة بتوسيع الأطراف، التي لها حق الإحالة على المجلس، فهو لم يستوعب أطرافا أخرى كالجمعيات غير المختصة بقضايا الاستهلاك. كما أنه لم يمنح المواطنين إمكانية الإحالة على المجلس، الأمر الذي كان بإمكانه خلق دينامية كبرى في تدبير قضايا المنافسة الاقتصادية بالمغرب. الأكيد، رغم كل الملاحظات، أن التراكم القانوني المغربي في مجال المنافسة يعكس دينامية تشريعية متطورة، لكن يبقى مطلوبا تفعيل التقدم المعياري داخل حقل مليء بالرهانات السياسية والاقتصادية. ذلك أن الواقع يبرز اختلالات كبيرة في تدبير قواعد المنافسة، ومحدودية في ضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية، مع استمرارية ممارسات غياب منافسة حرة وشريفة، ووجود حالات للتركيز الاقتصادي والاحتكار، مما يؤثر على صورة الاقتصاد المغربي ويجعله بعيدا عن قواعد الليبرالية. وهنا قائمة المتضررين طويلة: الدولة، المجتمع والمقاولة. مفارقة أخرى تتعلق باستمرار الزمن التقديري في التعامل مع وجود مثل هذه المؤسسات، ذلك أنه رغم كل المستجدات انطلاقا من دستور 2011، والتنصيص التشريعي المضمن في القوانين رقم 20.13، والقانون رقم 104.2، ثم المرسوم رقم 2.14.652 الصادر في فاتح دجنبر 2014، والمتعلق بتطبيق قانون حرية الأسعار والمنافسة، وصولا إلى نصوص تشريعية أخرى، لم يكن من السهل حلحلة معضلة الجمود، الذي طبع مجلس المنافسة في المرحلة السابقة، وغياب آثاره على اختلال العديد من المعاملات التجارية، حيث كان من الصعب تصور استمرارية عمله دون تعيين أعضائه بعد، خاصة أن القانون لم ينص على إمكانية استمرار الأعضاء المعينين سابقا - بمقتضى نص سابق- في ممارسة مهامهم إلى حين تعيين أعضاء جدد. لكن الأحداث المتتالية - ذات الصلة بدينامية المقاطعة- أنتجت طلبا واسعا على تنصيب مجلس منافسة جديد، وتمكينه من آليات العمل، بعد أن كان النقاش محصورا في فئات محددة من المجتمع الاقتصادي، حيث أثارت وقائع الحملة التي امتدت عدة شهور شبهات عدة حول اختراق الاقتصاد المغربي من قبل بعض الاحتكارات، ووجود اتفاقيات سرية بين المنتجين حول الأسعار. في ظل هذا النقاش القوي الذي أفرزته حملة المقاطعة برزت الحاجة إلى مجلس المنافسة، كما طرح الرأي العام أسئلة حول دلالات تعطيل مؤسسة ضبطية مدسترة؟ أسابيع بعد انطلاق هذه الحملة سيتم تعيين رئيس جديد لمجلس المنافسة، مع التعبير الواضح عن وجود رغبة ملكية بتفعيل دور هذه المؤسسة، حيث سيؤكد الملك محمد السادس، وفقا لنص بلاغ الديوان الملكي (17 نونبر 2018)، على "أهمية المهام التي أناطها الدستور والقانون بمجلس المنافسة" ذات الصلة بالمساهمة في "توطيد الحكامة الاقتصادية الجيدة، والرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني، ومن قدرته على خلق القيمة المضافة ومناصب الشغل". إن سياق تعيين رئيس مجلس المنافسة، والتأكيد الملكي على أهمية القيام بمهامه، يؤكد استمرارية رهان الدولة على مؤسسات الضبط والاستشارة، كآليات لتعزيز المشروعية ولاستقطاب أسئلة المجتمع وإدماج النخب وتغذية الحوار العمومي. كما يعيد إلى الأذهان تزامن الرهان على "هيئات الحكامة"، تعزيزا لحلبة المؤسسات مع الحالات التي يصبح خلالها "الشارع" مغريا كفضاء للاحتجاج والتعبير عن المطالب، منذ تسعينيات القرن المنصرم، مع تأسيس مجلس الشباب والمستقبل في سياق تنامي احتجاجات خريجي الجامعات أو إنشاء المجلس الاستشاري لمتابعة الحوار الاجتماعي في أعقاب موجات من الإضرابات والاحتجاجات النقابية، وصولا إلى إعادة تأهيل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومؤسسة الوسيط في سياق ما بعد 20 فبراير 2011. أخيرا، فإن اختيار إدريس الكراوي لرئاسة المجلس يمكن قراءته من زاوية رؤية الدولة لهيئات الحكامة، حيث يتعلق الأمر، أولا، بشخص خبر تدبير ملفات عديدة وله تجربة مع مؤسسات الحكامة، فهو يقدم بروفايلا مخضرما يجمع بين الجامعي والخبير الذي يتمتع بكفاءة علمية مكرسة، وبين المسؤول الذي واكب عن كثب العديد من الملفات الاقتصادية والاجتماعية، سواء من خلال اشتغاله مستشارا في الملفات الاجتماعية لثلاثة من الوزراء الأولين، أو من خلال عمله أمينا عاما للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. والجانب الثاني، الذي يمكن قراءته من خلال التعيين، هو اختيار شخص بكفاءة تقنية يحمل خلفية المدبر الذي سيركز على المردودية، ويبتعد - بحكم المسافة التي يملكها مع العمل الحزبي المباشر- عن تجاذبات السياسة، وصراعات رجال الأعمال، ومن ثَمَّ قد لا تكون له علاقة ببعض خصائص الرئيس السابق القادم من مجال الأعمال، وكذا في كيفية تصوره لعمل المجلس. والقراءة الثالثة لمسألة التعيين هي أن اختيار الرئيس الجديد يمثل نوعا من الاستمرارية في حضور الوجوه "اليسارية" كقاعدة - شبه ثابتة- في تعيين مسؤولي هيئات الحكامة، وهو ما يعزز ما ذهبت إليه بعض الدراسات حول فرضية استثمار مواقع التدبير في هذه المؤسسات كمناسبة تعيد من خلالها الدولة بعض التوازن في عملية التنخيب، خاصة في علاقة مع تزايد المنافذ الانتخابية كمسالك جديدة لإنتاج النخب. الأكيد أن تفعيل مجلس المنافسة سيشكل مرحلة لقياس مؤشرات بناء دولة الحق الاقتصادي، إذ الأمر الأهم ليس اختيار أعضائه فحسب، وإنما منحه المناخ الملائم لممارسة فعلية لاختصاصاته، بما يخدم الدولة والمجتمع والمقاولة. وفي هذه الفترة سيكون من المشروع طرح التساؤلين التاليين: هل سيخرج مجلس المنافسة من تصنيفه كمؤسسة "شبح" إلى مؤسسة مؤثرة في المشهد المؤسساتي؟ وأي أثر سيكون له مستقبلا للإجابة عن متطلبات المواطنين، خصوصا مع التنامي المتزايد للاهتمام بفعل ومصداقية الأعمال التجارية؟ أسئلة ستجيب عنها الأيام المقبلة، بعد استكمال تعيين كل تركيبة المجلس، الذي لا شك أنه سيكون مطالبا بإثبات هويته وشرعية وجوده داخل النسيج المؤسساتي الوطني، وفي نفس الوقت التسلح بالكثير من الذكاء البيداغوجي لتدبير وتنسيب الانتظارات "الكبرى"، التي وضعتها يوميات حملة مقاطعة غير مسبوقة على كاهل مؤسسة ضبطية لا تتوفر بالتأكيد على حلول سحرية لكل المعضلات المعقدة للسوق. *أستاذ المالية العامة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال- جامعة محمد الخامس الرباط.