في القسم الأول من "دروس الفلسفة" لطلاب الباكالوريا المغربية، اختار الدكتور محمد عابد الجابري والأستاذان أحمد السطاتي ومصطفى العمري، في سبعينيات القرن الماضي، تصدير المقرر المدرسي لوزارة التربية الوطنية بدراسة "أصناف المعرفة البشرية والنظرة الفلسفية" للحديث عن الفلسفة، وأصناف التفكير، والاتجاهات الفلسفية (المثالية والواقية). وكان هذا الكتاب المدرسي حسب المشرفين عليه مجرد مرشد ودليل ينير الطريق للمبتدئين من الأساتذة، ويساعد الطلاب/ التلاميذ بما يقدمه لهم من معلومات جاهزة منظمة ومبسطة. لكن في الحقيقة كان هذا الكتاب موجها لجيل كامل من المغاربة، لتسهيل عملية احتكاكه بالثقافة وبالمشاغل الفكرية، الملتزمة بالمنهحية العلمية. واليوم، ومع انهيار المدرسة وكتابها، واندحار مدلول وقيم الالتزام، وتصاعد "الإقصاء الاجتماعي" و"الإقصاء الاقتصادي" و"الإقصاء السياسي" في نطاق الحياة اليومية للمغربيات والمغاربة، يكبر الحرمان العاطفي والمعرفي والثقافي، ليصبح عنوانا عريضا للحرمان من الولوج إلى المرافق العمومية. لهذه الأسباب، وأخرى، لم تعد ل"المغربي" شخصية الفعالية والإنتاجية والمردودية، ولم يعد أغلبية المغاربة يتمتعون بالمواطنة الكاملة نتيجة عوامل بنيوية مرتبطة بالتعليم والتكوين، والبطالة، والاستنكاف عن المشاركة في الانتخابات، والعزوف الجماعي عن ممارسة العمل الحزبي. هذا الوصف يجب أن نعتمده الآن بكل جرأة، لأنه يدلنا على المغرب كما يبدو لوعينا، أي الشكل الحقيقي الذي يظهر به، من أجل الوصول إلى الماهيات. وهنا يصبح حب الوطن كجسر يأخذنا من معرفة متدنية إلى معرفة أرقى، ويجعلنا نخوض في حبنا هذا، أكثر من تعلقنا بمنطق الفكر. لأن الحب هنا يدفعنا إلى التجربة، ويجعل المعرفة بواقعنا ممكنة، ومعرفة ذواتنا قبل غيرنا. لكن عندما تنتشر البطالة والجريمة في صفوف الشباب والمتعلمين يصعب الحديث عن الاندماج الاجتماعي، وبالتالي عن حب الوطن؛ لأن حب الوطن يتعارض مع الخلط بين الدين والسياسة، وبين المال والسياسة، وبين الدين والاقتصاد، وبين الأخلاق والجنس. ففي غياب التعليم المستدام، والإدارة الرشيدة للمؤسسات، والعدل، والحماية الاجتماعية للمواطنات والمواطنين، والضمان الاجتماعي، والإسكان والتقاعد، تغيب المواطنة ويغيب معها حب الوطن. إن الخلط بين الدين والسياسة كرس ويكرس اللامساواة الاقتصادية، كما أن الخلط بين المال والسياسة يضرب في العمق التعددية وتكافؤ الفرص. وهذه معيقات تعيق حب الوطن، وتعيق كل أنواع وأشكال الحب الأخرى. وفي الختام، نعتقد أن حاضرنا لم يعد يقبل أي نوع من أنواع الفجوة الاجتماعية والسياسية، لكي لا نفقد حب الوطن، ولكي لا نقع تحت نار الديكتاتورية. *أستاذ باحث في السوسيولوجيا بجامعة مولاي إسماعيل-مكناس.