قال لي صديقي ذات مرة بنوع من المرارة واليأس اللذين بديا على وجهه ولم يخفيا من كلامه: إن الحياة غامضة، بل إنها غير عادلة، وإن شئت قلت ظالمة. لم أدر آنذاك كيف أجيبه، ولعل عزائي في تلك اللحظة أني ما ظننته ينتظر مني ردا على قوله، أو لربما كان لسان حالي يردد الكلمات نفسها. فالحياة ليست كتابا مفتوحا لك أن تقرأ فصوله، وتعرف دقه وجله. كما أن المتأمل في أحوال الناس وما يقع حوله يكاد يجزم بظهور الفساد والظلم وقلة العدل وأهل الإصلاح. لاح أمام ناظرَي بصيرتي حينها صور لصِبْيَةٍ أفارقة قد التصق جلدهم بعظمهم، تنخر أجسادهم المجاعة ويطرق أبواب أرواحهم الموت. كيف لمن حاله تلك أن يحلم أو يفكر في شيء سوى لقمة تسد جوعته أو خرقة تستر عورته؟ التحف الحزن قلبي، ثم تذكرت حال الفلسطينيين في كلمات البرغوثي متحدثا عن الموت: يقول للقوم وهو معتذر، ما بيدي ما آتي وما أدعُ، لو كان للموت أمره لغدت، على سوانا طيوره تقعُ. ضاق صدري ولم ينطلق لساني، فعضضت أناملي، وشمرت عن ساعدي، وبدأت أمشي بغير وجهة. هكذا أفعل كلما أربكني أمر أو أزعجني، وكذلك صنعت هذه المرة في محاولة لفهم جراح صاحبي وتدبر كلماته. سألت نفسي: كيف لمن قتل أخاك، أو أمك، أو حبيبا لك، أن يفلت من الجزاء؟ كيف لمن وأد طموحاتك، أو أذل كبرياءك، أو خنق أنفاسك أن ينجو بجلدته؟ كيف لمن اغتصب، وتنمر، واغتاب، وسخر، أن يعيش حياة رفاه ورغد، فيما تتجرع أنت العذاب بنفسية ذليلة مريضة تشكو العجز وقلة الحيلة؟ تعرق جبيني وتعبت قدماي، وما وجدت من أمر يواسيني ويذهب بعض حيرتي، إلا أن فصولا من كتاب الحياة لمَّا تكتب أو تنشر بعد. ثم ختمت تفكيري بيقين جازم أنه لئن لم تكن هنالك حياة أخرى بعد الموت يقتص فيها للمظلوم ويعاقب فيها الطغاة، ويجزى كل بقدر ما في قلبه من خير أو شر، فلعمري إن هذه الدنيا كما قال صاحبي لظالمة، بل غاشمة. ثم ركنت إلى قول الشاعر الذي وجدت فيه ضمادا لقلبي الذي فُطر على رفيقي: طُبعت على كدرٍ وأنت تريدُها، صفواً من الأقذاء والأكدار، ومكلّف الأيَّامٍ ضدَّ طباعها، متطلّبٌ في الماءِ جذوة نار. أي نعم، مثل من أراد حياة لا شقاء فيها ولا هم أو غم، كمثل من يقبس نارا من الماء. ثم راجعت نفسي، فأدركت أن لا بد للحياة أن تبتسم في وجه صاحبي، فلكل منا نصيبه من الحزن والسعادة، ولرب ضارة نافعة. ولولا معرفتنا بالشدائد ووقعها، ما أحسسنا بأثر المسرات ونفعها. مرت الأيام، ثم التقيت بصديقي وهو مبتهج مسرور، بدا وجهه طلقا منشرحا، وقلبه بحب الحياة نابضا. سألته عن أخباره وسر سعادته، فأخبرني أنه التقى صدفة بتوأم روحه، وأن شركة كبيرة طلبت خدماته، وأنه اشترى لتوه شقة وسيارة. وفي خضم حديثه عن انتصاراته وإنجازاته الأخيرة لم ينس الجانب النفسي، فأخبرني بيقين جازم أن الحب إحساس لا ينبغي لأي كان أن يحاول تعريفه، أو وضع حدود له؛ إذ هو أسمى وأنبل من أن يخضع لعقل بشري. وقال لي مستنكرا: ما علاقة العقل بالقلب؟ متى كانت للأول اليد العليا ليحكم على الثاني؟ تالله إن هذا لعبث، أو كما قال. ثم وصف لي كيف أحسا أنهما يعرفان بعضهما من آلاف السنين، وأنها ملأت فراغا روحيا لطالما قض مضجعه وآلم فؤاده، دون أن يعرف له مصدرا أو يجد له شفاء. ظل يعاني في صمت حتى جمعتهما الأيام. استعاد صديقي نورا أخفتته المشاكل التي هبت على حياته تباعا. صار مقبلا على الحياة وبها مستمتعا، بعدما كان لها قاليا وفيها زاهدا. أنست السعادة صاحبي أياما كان لا يلقاني فيها إلا بوجه متجهم، ولا يحييني فيها إلا بقول الشاعر: الخير لا يأتيك متصلا، والشر يسبق سيله مطره خلص صاحبي بعد حديثه معي إلى فلسفة جديدة، وقال لي: إن رغد الحياة سهل المنال، وأن الحياة ممتعة، وإن شئت غازلتها فقلت حلوة. ثم أخذ يفسر لي أن نجاح الحياة يعتمد أساسا على التخطيط الجيد، ودراسة دقيقة للاختيارات والبدائل قبل الإقدام على اتخاذ أي قرار، وأننا نقرر مصائرنا بأيدنا. لم أرد أن أفسد على صاحبي بهجته، فتركته وهواه؛ وإن شئتم، قلتم ما وصل إليه من قناعات. فرحت لفرحه، وتمنيت أن يظل الحظ موافقا لتطلعاته وآماله. لكم هو جميل أن ترى صديقا أو حبيبا أو قريبا تغمره السعادة، ولكم هو مقيت أن ترى أحدهم في حزن وكآبة. حين تفكرت فيما قاله لي صديقي أول مرة، وما أخبرني به في هذه، استشكلت كيف ينزع المرء إلى النسيان. ثم تعجبت أنى له أن يؤمن بأمرين متناقضين. فقد بدا لي أول الحال جبريا يقول إن المعاناة فُرضت عليه وأن الأقدار ظلمته، وأنه لا يستحق ما يمر به من ضنك العيش، وفقد الحبيب، وضيق ذات اليد، وقلة الصاحب؛ كان منكسرا يلم شتاته. كيف صار به الأمر إلى الإيمان بما تقوله القدرية؟ أي أن المرء يصنع حياته بنفسه، ويرسم تفاصيلها بيده. كيف عزا صاحبي الخير لنفسه والشر لغيره؟ ألا يرى صاحبي أن ما حققه من أهداف أحلام شبه مستحيلة للبعض، وأن ما مر به من معاناة أهون مما يعانيه الكثير ممن حوله من الناس كل يوم وليلة؟ لماذا لا نعيش اللحظة بما تتطلبه؟ فلا نكون سوداويين ولا مغرورين. لا أطيق نياح من ينسب الشر لنفسه كلية، ولا كبرياء من يعزو الخير لذاته جملة. أي نعم، فمن الأمور ما لنا أن نختار منها الأصلح وفق ما نراه، ومنها ما لا اختيار لنا فيه. قد تختار إتمام هذا المقال أو تركه، وقد يترجح لك السفر في الصيف لقضاء العطلة أو البقاء ببلدتك، وقد يتبدى لك أن تحتسي كوب قهوة وأنت تتصفح مواقع الإنترنت على شاشة هاتفك، أو أن تشرب الشاي بدل ذلك وتدردش مع قريب لك أو صاحب. ولكنك لم تختر اسمك، ولا هيأتك، ولا عائلتك، ولا بلادك التي ولدت بها. بل ولن تستطيع أن تتحكم في ضخ قلبك للدم أو هضم معدتك للغذاء، ولا تصفية كليك للدم والماء. كما أنك لن تجبر أحدا على حبك أواحترامك. ليس لك من الأمر شيء في هذه الأمور. الإيمان بجرعة من الجبرية يعينك على الصبر عند الشدائد، لأنك لا تملك حيلة في الأمر الذي وقع عليك. والتشبث بسبب إلى القدرية يمدك بالأمل والطموح، ويعينك على عدم الاستكانة والكسل، ويحثك على السعي في طلب الرزق والمعالي. والقصد أن نكون ممن يستمتع بحلو الحياة ولا يأسى على مرها؛ ففهمك للأمور فهما سليما يعينك على المحافظة على توازن نفسي أنت أحوج ما تكون إليه في هذا الزمان الذي نعيشه؛ زمان لا يكاد يخلو فيه يوم من مر وحلو، من إحساس بالضعف وقلة الحيلة، وشعور بالقوة وطول اليد، أو من انهزامات وانتصارات، أو من حب وتقدير، وبغض وتشهير. ولتعلم يا صاح أن نفسك هي الشخص الذي ستمضي أكثر وقتك معه، فاحرص على أن تكون أفضل خلانك وأرقى رفقائك.