هل هناك في التصوّر والواقع والممارسة السياسية فعلا، في مختلف بلدان العالم، فصل قانوني وسياسي بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية؟ وهل كل واحدة من هذه السلط تعمل باستقلال تام عن السلطتينالأخريين حيث يظهر التمايز وتنتفي التبعية أو الهيمنة؟ وهل استطاعت الدساتير، كقوانين أسمى، وآليات تنزيلها على أرض الواقع، أن تقدّم، بما لا يدع مجالا للشك أو الارتياب، ضمانات الفصل الكلي أو الجزئي لهذه السلط، مع ما يتبعها من مبادئ التوازن والتعادل والتعاون والمراقبة المشتركة، سواء في النظام الرئاسي، أو النظام البرلماني، أو النظام المختلط؟ أعتقد أن هذا المشهد السياسي المتشابك مجرد خدعة ديمقراطية أنشأها المفكرون والساسة الأوائل، عبر فلسفة أفلاطون وأرسطو ولوك ومونتسكيو وروسو، ليبرّروا فعل وصلاحية الترسانة التنظيمية المجتمعية المعتمدة، ومشروعية الحكم والسلطة والاستقواء على الأقلية أو على المعارضة. والدليل في ذلك أن السلطة التنفيذية الحالية تدبّر الشأن العام، وتحكم بالفعل على جميع الأصعدة المدنية والعسكرية، وأغلبيتها في البرلمان، أي السلطة التشريعية، إلا في ما ندر، توفّر لها الغطاء السياسي والقانوني، وحتى الأخلاقي، الذي يجعلها دوما في موقع الهيمنة والاستحواذ. وإذا أضفنا إلى هذه السلطة التنفيذية القائمة، بقوة القانون والانتخاب المباشر أو غير المباشر، قوة الجيش والآلة العسكرية التابعة، والقوة الأمنية الردعية والحمائية الموازية، وروافد القضاء الذي لا يفضّ النزاعات ويحكم إلا بالقوانين والمساطر التي تصنع داخل معامل البرلمان، والإكراه البدني الذي يطال المتشدّدين من المخالفين والرافضين والمنتقدين، والقنوات الإعلامية الموالية التي تسير على هوى المشغّلين والمحتضنين والأوصياء، والمنتظم الدولي الذي لا يمكنه في الغالب إلا مخاطبة السلطة التنفيذية في البداية وفي النهاية، نفطن إلى أن سلطة الشعب التي يمارسها عبر الانتخابات، تنتهي مهامها السياسية، وأحيانا الوجودية، عندما يختار – أو يختر له – الأجهزة التشريعية التي تطلع من رحمها، في النظام النيابي كليا وفي النظام الرئاسي جزئيا، الأجهزة التنفيذية في الدول التي تسمي نفسها ديمقراطية، فتبدأ دورة السلطة التنفيذية في الجزاء أو العقاب تحت مسمّى تدبير الشأن العام المشروع. وما يبرّر هذه الخدعة الديمقراطية الذكية، وأسطوانة حكم الشعب نفسه بنفسه، أن السلطة التنفيذية الجاثمة فوق كل السلط، لا تعود إلى الشعب أثناء فترة ولايتها، ولا تستشيره في نواياها وقراراتها وبرامجها، بل تتحوّل إلى سلطة وصاية صارمة، تتكلّم أولا باسم الشعب الذي لم يعد يتكلم، وتزعق ثانيا بالمصالح العليا للوطن التي يعرفها أو قد لا يعرفها الشعب، وتتحجّج أخيرا بشرعية الصناديق الانتخابية التي حملتها إلى الحكم؛ أي أن السلطة التنفيذيةأصبحت، بورقة انتخابية سليمة أو غير سليمة، أكثر معرفة ودراية بمصالح الشعب والدولة والوطن، وأن رفع الأسعار يجب ألا يستفزّ المواطن، وأن التجنيد الإجباري يجب ألا يفلت منه، وأن الضرائب المختلفة يجب أن تدفع في آجالها، وأن توزيع الثروات القومية هي أدرى بمقاييسه، وأن مهمة كتلة الناخبين كافة هي في الأصل وضع ورقة التصويت في الصندوق السحري الشفاف، وانتهى الأمر. ولأن العالم اليوم أصبح قرية صغيرة، أو كويكبا زجاجيا شفّافا، ولأن الشبكات العنكبوتية، ومنصّات التواصل الاجتماعي، والأقمار الاصطناعية الاستخباراتية، أصبحت لا تفارق جغرافيات البلدان وحركات وسكنات الشعوب، فقد ابتدعت السلطة التنفيذية المنتخبة، بتواطؤ مع السياسة الدبلوماسية الداخلية والخارجية الموازية للسلطة التشريعية الداعمة، حيل الاستمرار السياسي، بالتعاون مع الأجهزة التنفيذية الشبيهة، والاتفاق البروتوكولي المشترك على إجازةعدم التدخل بجميع أنواعه في الشؤون الداخلية للدول، باتفاقيات مشتركة أو بمواثيق دولية سامية، مع إمكانيات طرح قوائم وطنية أو دولية للإرهاب المدان، والخصوم السياسيين الإرهابيين المطلوبين، وكذا تكييف سلّة الوعي بالحقوق والحريات حسب الحاجة، وما إلى ذلك من مناورات سياسية استبدادية تستغفل حسّ ووعي الشعب، وتستنفره حتى في الأمور التي لا تعنيه بشكل مباشر أو غير مباشر. ولأن لكل ولاية انتخابية بداية ونهاية، ونحن هنا لا نتحدث عن الحكم المطلق وتدبير الشأن العام بالوراثة، فإن السلطة التنفيذية التي آمنت على ما يبدو بهذا الشكل الديمقراطي المهين للشعوب، تشرع، بفعل عامل الزمن الذي لا يرحم، في تحسّس رؤوسها قبيل فترة بداية نهاية انتدابها، فتخصّص السرعة النهائية لمسارها السياسي، الذي انتفى فيه وجود السلطة التشريعية وقلّ حضور السلطة القضائية، بتقديم رشاوى في شكل قرارات شعبية، أفقية محدودة وسريعة الأثر وتخديرية، تخفف العبء والحرج عن السلطتين الموازيتين اللتين تستظلاّن بظلّها، وتخلط أوراق الفئات الاجتماعية والسياسية التي أعلنت في السابق تذمّرها وامتعاضها. وبهذا المسلك الاحتيالي، ولأنها تعرف أن الشعبالمسكين يتذكّر جيدا وينسى سريعا، فهي تنجح نسبيا في ملأ بطنه في الوقت بدل الضائع، وتدفع بماكينة الاستطلاع والاستقصاء الموجّه، عساها تحصل على ما يفيد أن نتائج الدورة الانتخابية المقبلة أصبحت لصالح أحزابهامحسومة. وفي اعتقادي، ورغم ما قد يلقاه هذا المخرج من ردود سلبية عنيفة، لتطاوله على مسلّمات الأنظمة الديمقراطية المتجذّرة، كما عشناها في التاريخ الإغريقي واليوناني والروماني القديم، وكما تشنّف بها أسماعنا يوميا البلدان الغربية الديمقراطية التي خبرت الثورة الفرنسية والحرب الأهلية الأمريكية وما تلاهما، فقد آن الأوان، والسلطة للشعب كما يقولون، والسلطة التنفيذية هي الوحيدة للأسف الحاضرة والمؤثّرة فعليا في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعيوالثقافي الخاص والعام باستثناء نسبي للتجربة الأمريكية، أن يتم انتخاب كل السلط الدستورية التي تشكّل الأساس الديمقراطي لعيش الشعوب والتجمّعات، وبالأخص السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، بشكل محايد، ومتوازي،ومنفصل، بحيث لا تستمدّ السلطة الثانية قوتها الغاشمة من السلطة الأولى، ولا توقّع الأولى لفائدة الثانية شيكات تدبير الشأن العام على بياض، بل يجب أن تكون في جميع هذه العمليات السياسية الانتخابية قوة ردع حقيقية واحتياطية إن اقتضى الحال، حتى ولو كان على رأس السلطة التنفيذية حاكم مستبد أو رئيس متسلّط. إن السلطة التشريعية الحالية، ورغم وهم الاستقلالية الذي تم تسويقه على أبعد مدى، ولعبة الأغلبية والمعارضة التي أتت بها الصناديق الانتخابية الحرّة، والديمقراطية السياسية والتعدّدية الحزبية التي تبشّر بها ديباجة وفصولالدساتير الأمريكية والفرنسية وغيرها، تبقى، في حدود أغلبيتها على الأقل، خادما مطيعا للسلطة التنفيذية التي تنزل إلى السلطة التشريعية بمشاريع القوانين الخاصة بها، وبحق الاعتراض على مقترحات القوانين الصادرة عن هذه الأخيرة، وحق إصدار اللوائح والأنظمة، وصياغة وتقديم الموازنة السنوية للمصادقة عليها، وفي المقابل، لا تطلع السلطة التشريعية إلى السلطة التنفيذية إلا بمقترحات القوانين، وبمناقشة السياسة الحكومية العامة، والمراقبة الشكلية للسلطة التنفيذية، وسحب الثقة من الحكومة في الحالات جد النادرة، أي أن ميزان القوى التشريعي والتنظيمي والتنفيذي مختلّ، لأن الحال يقول إن السلطة التشريعية التي تمثّل أطياف الشعب بعيدة عن القيام بدورها الدستوري في سنّ القوانين والتشريعات، وكبح جماح السلطة التنفيذية، وألاّ سلطة قائمة وموجودة في نهاية المطاف إلا السلطة التنفيذية التي هي في الأصل، ضمنا أو علنا، سلطة تقريرية جامعة لاختصاصات السلط الثلاث، وأن هذا الوضعالسياسي الشاذّ يجب أن يتغيّر حالا لفائدة قيم ومبادئ الاستقلالية، والتوازن، والتعاون، والتكامل، وذلك لتكريس المفهوم الحقيقي لدولة وسلطة الشعب بكل مكوناتهما التشريعية والتنفيذية والقضائية.