الديمقراطية في عالم اليوم، حولتها الصراعات الدولية، إلى شعار يرفع على نطاق واسع، رغم ما يشوب مفاهيمها من غموض على أرض الواقع، فهي نظام يروج له الغرب بكل الوسائل والإمكانات، العسكرية والإعلامية والثقافية، ويتدخل أحيانا بالقوة لفرضها، بدعوى سلامة الوضع الاجتماعي والثقافي والسياسي العام، في عالم ينشد السلام والاستقرار. والديمقراطية كنظام وفلسفة وقضية، ليست ظاهرة حضارية جديدة، تعرفها وتمارسها أجيال الألفية الثالثة، ولكنها ضرورة اكتشفها فلاسفة السياسة في الغرب، كعلم وأخلاق ونظام قبل مئات السنين، وهو ما جعلها داخل/ خارج الصراعات الدولية، ذات ارتباط وثيق بالحضارة البشرية. فهي كلمة مشتقة من لفظين يونانيين هما:(Demos) «الشعب» و(kratos) «سلطة» أي (سلطة الشعب) وقد ظهرت كمفردة لأول مرة في التاريخ في كتاب (تاريخ حرب البيلوبونيز) للمؤلف الإغريقي «توسيديدس»، وتعني في القواميس الفلسفية (حكم الشعب بالشعب وللشعب) وتعني أيضا (الحرية السياسية). وهذه الأخيرة لن تتحقق ولن تؤتي ثمارها إلا إذا ارتكزت على ترتيبات نظامية معينة واستندت على ضمانات قانونية وواقعية محددة. ومن الضمانات السياسية والقانونية التي أحيطت بها الديمقراطية في الدول الغربية حرية الرأي/ حرية الصحافة/ حرية الاجتماع/ حق الاعتراض… ويقال أن هذا المجتمع أو ذاك يتمتع بالديمقراطية والحرية السياسية إذا كان أفراده يحكمون أنفسهم بأنفسهم، فيختارون حكامهم بملء إرادتهم، ويساهمون –بشكل مباشر أو غير مباشر- في تسيير دفة الحكم ووضع القوانين، وذلك عن طريق ممارسة حق التصويت وحق الترشيح، وحق تولي الوظائف العامة في الدولة. يعني ذلك، أن النظام الديمقراطي يعطي صلاحيات واسعة وسلطات شبه مطلقة لأفراد المجتمع في رسم منهاج حياة الشعب، وهذا ما يسمونه في القانون ب"السيادة للشعب" بمعنى أنه هو السلطة العليا التي لا معقب عليها، وكل السلطات الأخرى مستمدة منه. ولما كان الشعب كله يتعذر اجتماعه في مكان واحد لإبداء رأيه في القضايا الكبرى المتعلقة بالسياسة العامة للبلاد، فقد وجد النظام النيابي، بحيث يختار الشعب من ينوب عنه ويمارس السلطة بإسمه ولمصلحته، على أن يقدم تقريرا دوريا للشعب، وهكذا وجدت المجالس النيابية التي تملك التحدث باسم الشعب. والبرلمان في النظام الديمقراطي، يوجد عن الطريق الانتخابات وليس عن طريق التعيين ويكون انتخابه دوريا، لأنه يعتبر نائبا عن الأمة، فيجب أن يقدم لها حسابا دوريا لكي تكون على بينة من تصرفاته. وعلى ضوء ذلك تتم إعادة انتخاب الصالحين وإزاحة غير الصالحين، ويتحقق هذا التجديد عادة كل أربع سنوات أو خمس. ولأن الشعب هو الأصل في السيادة، فإن البرلمان يستقل بممارسة السلطة العامة مدة نيابته، ولا يمكن لأي جهة من الجهات أن تعقب عليه، وهو حر في التشريع لا قيد عليه، إلا ما نص عليه الدستور صراحة، والغالب أن الدساتير لا تضع قيودا على سلطة البرلمان لدرجة يقال معها عن البرلمان الإنجليزي مثلا، إنه يملك أن يفعل أي شيء إلا أن يحول الرجل إلى امرأة أو العكس. والدستور تقوم بوضعه سلطة ينتخبها الشعب عادة للقيام بهذه المهمة ولا قيد عليها، فهي تقوم باختيار نوع الحكم الذي يريده الشعب بمطلق الحرية، فإذا تم وضع الدستور قام الشعب بانتخاب البرلمان، هذا الأخير يمارس السلطة التشريعية، كما يمارس شئون الدولة في الأنظمة النيابية. ويعتبر الدستور القانون الأساسي الذي ينظم شئون الحكم في الدولة ويحدد كل الاختصاصات التشريعية والتنفيذية والقضائية وعلاقة كل منهما بالأخرى، كما يقوم بإرساء كافة الحريات العامة في الدولة. وفي الأنظمة الديمقراطية النيابية يكون الانتخاب حقا مكفولا لجميع المواطنين إذا بلغوا سنا معينا (18 سنة)، لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، بل هناك بعض التشريعات جعلت حق التصويت إجباريا يعاقب من يتخلف عنه بلا عذر. كما أن حق الترشيح نظام تسير عليه الأنظمة الديمقراطية، بل معظم دول العالم اليوم، ولا يشترط في المرشح مبدئيا نصاب مالي معين، ولا شهادة دراسية بل يكفي فيه إجادة القراءة والكتابة مع شروط أخرى كالجنسية والسن والسمعة الحسنة. لاشك، أن هذه الصورة المشعة للديمقراطية، هي التي جعلت المغرب والمغاربة، منذ عدة عقود، يتجهون إليها كاختيار لا رجعة فيه للحكم، حيث قدمت الجماهير العريضة خلال عهد الاستقلال تضحيات كبيرة من أجل إرساء دعائمها، والانتقال بالنظام المغربي العتيق، إلى نظام يقوم على العدل والمساواة والقيم الإنسانية، يضمن للحاكمين والمحكومين، حقوقهم على أسس ديمقراطية. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن اليوم، حيث يعم الفساد، وتتعطل المؤسسات، وتتبخر الوعود السياسية، وتتراجع الحريات، وتضرب الحقوق، وتتعاضم السلطات هو: هل استطاع المغرب زرع النبتة الديمقراطية على أرضه وإدخال شعبه الذي رزح عقود طويلة تحت نير طغيان التخلف والاستعمار إلى "العصر الديمقراطي" بعدما فتح الباب أمام تأسيس الجمعيات والأحزاب وإصدار الصحف والدوريات (سنة 1958) وسن أول دستور (سنة 1962) ليتحول "شكليا" إلى دولة ديمقراطية بعد ذلك. من الناحية الشكلية تعتبر الأحزاب السياسية، الدعامة الأساسية في كل الأنظمة الديمقراطية حيث لا يمكن لهذه الأنظمة العيش أو الاستمرار، دون أحزاب قادرة على الفعل والتفاعل، وعلى تأمين المشاركة الجماهيرية في المشروع الديمقراطي، وهو ما يجعل الديمقراطية والأحزاب وجهان لعملة واحدة، ذلك أن هذه "العملة" تعتمد على العملية الانتخابية، كوحدة من أهم محدداتها الرئيسية، إذ بموجبها يتم تحديد التوجهات الكبرى (يمين يسار) للمؤسسات المسيرة للدولة، من المجالس القروية إلى المجالس البلدية، ومن مجلس النواب إلى مجلس الحكومة، وهو ما يتطلب من المواطن/ المنتخب، إدراكا عميقا وتصورا شاملا للمسألة الديمقراطية… ومشاركة فعلية في دواليبها. ذلك أن الديمقراطية بطبيعتها تفرز المسؤولين في أجهزة الدولة ومؤسساتها وهيئاتها المختلفة عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة لتدبير شؤونها، على المستويات المحلية والإقليمية وعلى المستوى الوطني، من خلال المؤسسات المنتخبة (البرلمان/ الجماعات المحلية/ الغرف المهنية) معتمدة في ذلك على المساواة وتكافؤ الفرص. إلا أن الانتخابات كالأحزاب، في المغرب ظلت لعقود من الزمن، آلية يبد السلطة، حولت هذه المؤسسات، إلى مجرد هياكل شكلية فارغة المضمون، تعرقل المسار الديمقراطي، أكثر مما تعطيه وجوده على أرض الواقع. لذلك تطرح الديمقراطية في مغرب اليوم، وهي تشكيليا تستند على دستور وهياكل وقوانين وأحزاب وهيئات، تطرح العديد من الأسئلة المحيرة: ما هي علاقة الديمقراطية، بمغرب ما بعد الاستعمار. بمغرب ابتلعت دولته المستقلة المجتمع المدني، حاصرت مجاله العام، وأخضعت أحزابه لمشيئتها الخاصة، حتى لا تطرح القضايا الحقيقية المستجدة والمركزية، شلت حركتها وجعلتها غير قادرة على زرع القيم الديمقراطية، ليس لها أية إنجازات تنظيمية هيكلية تذكر، غير قادرة على التعبئة، لا تتمتع بمصداقية الشارع المغربي،لا تصنع الرأي العام السياسي ولا تتحكم فيه، بل أبعد من ذلك وأكثر منه، أصبحت غالبيتها تلتزم "ثقافة" الصمت تجاه الفساد المتعدد الصفات والمواصفات، تتمعش من فتات السلطة ومن عطاءاتها المجزية. هل الأحزاب المغربية بوضعها المهترئ، بإنشطاراتها المتوالية، بفساد العديد من قياداتها المزمنة، هل تشكل الوجه المعلن للديمقراطية؟ هل تستفيد من مؤشرات الدولة الحديثة، من اتساع مجال الحريات الفردية والجماعية والمدنية، هل بتركيباتها وأجهزتها وهياكلها مؤهلة لمسايرة واستيعاب الثقافة الديمقراطية..؟ هل تتوفر على مرجعيات فكرية/ مذهبية/ إيديولوجية لتأهيلها إلى الفعل الديمقراطي..؟ هل يتسع خطابها إلى قيم حقوق الإنسان، والتداول السلمي على السلطة وتقييم السلطات واستقلالها عن بعضها البعض، وتشجيع السلم والتسامح ونبد العنف وغيرها من القيم التي تقوم عليها الثقافة الديمقراطية؟ في واقع الأمر، أن الإطلاع على الخطاب الإبهاري للعديد من هذه الأحزاب، يعطي الإنطباع أن للبعض منها، أفكار جديدة، لا تتعارض مع مبادئ الديمقراطية، بل تؤكد على ضرورة المشاركة ولكنها في ذات الوقت تصمت عن التغيرات التي واجهت/ تواجه البناء الديمقراطي والفشل الذي أصاب/ يصيب التجربة الديمقراطية منذ حصول المغرب على استقلاله حتى اليوم… كما تصمت غالبيتها عن الشروط التي جعلت المطلب الديمقراطي الجماهري، من خلال الرفض العلني للظلم والتهميش والتفقير، جرائم يواجهها القانون بأقصى العقوبات.كل ما نراه على أرض الواقع مع شديد الأسف، هو التوتر المذهبي، التأدلج الحزبي المقيت، تصاعد الأصوليات وتنامي السلفيات وهرولة أصحاب اليمين وأصحاب اليسار نحو المصالح الذاتية خارج كل منطق سياسي، وهو ما يكرس سلبية الفعل الديمقراطي، كفكر وكممارسة. الديمقراطية في عالم اليوم، حولتها الصراعات الدولية، إلى شعار يرفع على نطاق واسع، رغم ما يشوب مفاهيمها من غموض على أرض الواقع، ولكنها في المغرب ظلت منذ أول دستور في ستينيات القرن الماضي، حبرا على ورق، والسبب في ذلك، في نظر العديد من الباحثين، يعود إلى طبيعة ذلك الدستور الذي تزين ببنود عديدة تنص على الحقوق والحريات، ليس من أجل إعطاء الديمقراطية موقعها على الأرض وتوفير الشروط والضمانات القابلة للممارسة، ولكن من أجل تلميع صورة النظام على الخريطة الدولية. فهل يكفي أن تتوفر الدولة على مؤسسات حزبية/ إعلامية لتعم الديمقراطية؟ إن الديمقراطية في نظر العديد من الفلاسفة والعلماء والسياسيين، لا يمكن ولا ينبغي اختزالها في مجرد مؤسسات عامة، أو في مجرد انتخاب هذه المؤسسات انتخابات فاسدة ومزورة في فترات منتظمة، ذلك لأنه لا يمكن فصل الديمقراطية عن نظرية الحقوق أو عن ممارسة هذه الحقوق. تتبلور الفكرة الديمقراطية، من خلال ثلاث سلط دستورية، ما زالت غائبة على أرضنا: السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، حيث تقوم كل واحدة منها على مبدئين أساسين هما، استقلال كل سلطة في مجالها، وهو ما يعبر عنه الفقهاء السياسيين بفصل السلط، ثم التداول على السلط، حيث لا احتكار ولا دوام إلا للاصلح بضمانة القانون. إن الديمقراطية ليست قوانين جاهزة يتم اقرارها من السلطة الحاكمة، بل هي حصيلة سياسية وتاريخية واجتماعية لحركة المجتمع، تتطلب توفر الظروف والاسباب الموضوعية لقيامها، وأن الديمقراطية يجب أن تكون انعكاسا حقيقيا لمتطلبات الناس بعيدا عن كل أشكال القبلية والطائفية والنخبوية، حيث أن المواطن لا يمكن أن يؤمن بالديمقراطية إلا إذا مارسها بشكل حقيقي. الديمقراطية الحقيقية لا تعني تقديم بعض التنازلات الشكلية، أو إقامة مجلس نيابي أو برلمان بانتخابات فاسدة ومزوارة، أو بشراء الضمائر أو بالفساد المالي والإداري، لا وظيفة له إلا التصديق والتصفيق للسلطة، أو السماح لأحزاب المعارضة بدخول الحياة السياسية والبرلمان دون السماح لها بشكل حقيقي أن تشارك في صياغة السياسة العامة، وتحقيق رغبة الأغلبية مع احترام رأي الأقلية. لذلك فإن ترسيخ الديمقراطية وازدهارها سيظل معلقا على شروط ثابتة منها: ترسيخ ثقافة المواطنة، في طموحات الأحزاب السياسية، ومؤسسات التعليم والتكوين والتأطير، وهو ما سيمكن الديمقراطية من بنية تحتية عميقة، تجعلها قادرة على السير والاستمرار والتطور، منها أيضا إصلاح السلطة ووضع حد لفسادها، وأبعد من ذلك، جعل "فصل السلط" والانتخابات الحرة والنزيهة حقيقة تتحرك على أرض الواقع. ودون هذه الشروط الدنيا، ستظل الديمقراطية حبرا على ورق، مشروعا بعيد المنال عن التحقيق، يعاني من الإحباط والإضطراب والتملق رغما على الضجيج الذي تصنعه المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية للمسألة الديمقراطية المفترى عليها.