في خطاب افتتاح البرلمان في السنة الماضية، سيقر الملك بأن النموذج التنموي قد أصبح غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وفي هذا الصدد، دعا الحكومة والبرلمان، ومختلف المؤسسات والهيئات المعنية، كل في مجال اختصاصه، إلى إعادة النظر في النموذج التنموي لمواكبة التطورات في البلاد. سنة بعد ذلك، سيعود الملك، من خلال المنبر البرلماني نفسه، ليتوجه بالشكر لبعض المؤسسات والهيئات المعنية، ولفعاليات وكفاءاتٍ وطنيةٍ بادرت إلى إعداد بعض المساهمات والدراسات التي تهم إعادة النظر في النموذج التنموي، ليعلن تكليف لجنة خاصة، مهمتها تجميع المساهمات، وترتيبها وهيكلتها، وبلورة خلاصاتها، في إطار منظور استراتيجي شامل ومندمج، ليعرض بعد ذلك على أنظاره مشروع النموذج التنموي الجديد، مع تحديد الأهداف المرسومة له، وروافد التغيير المقترحة، وكذا سبل تنزيله. هذه الدعوة المنطلقة من تشخيصٍ قاسٍ للأداء العمومي في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، ومن تقدير سلبي لحصيلة السياسات، وأساسا لضعف انعكاسها على المعيشة اليومية للمغاربة، شكلت محورا رئيسا للتداول والحوار في يوميات السياسة المغربية خلال هذا العام. ولعل منطلق هذا النقاش يرتبط بإمكانية الحديث عن حزمة الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة، إلى حدود اللحظة، بمسمى "النموذج"، وهو ما يعني حدا أدنى من الانسجام في الفعل العمومي، ويفترض قدرا من الالتزام بمرجعيةٍ مذهبيةٍ واضحةٍ في تأطير التدخلات الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وللقطاع الخاص. ليطرح بعدها السؤال: أين يتموقع هذا النموذج في سلم الاختيارات الرسمية للدولة المغربية؟ المؤكد أن الأمر لا يتعلق بطبيعة المشروع المجتمعي، المؤسس على القيم المرجعية الكبرى والغايات المحدّدة لمستقبل المجموعة الوطنية، والمندرجة في أفق زمني طويل، كما لا يتعلق بمستوى السياسات العمومية والتوجهات القطاعية المندرجة ضمن زمن الولاية الانتخابية، بقدر ما يفرض تموقعا بين الزمنين: المجتمعي الممتد والحكومي العابر. وهذا ما يجعل من المشروع السؤال عن حدود التقاطع بين هذا النموذج التنموي المأمول وصلاحيات الإشراف الإستراتيجي التي تتوفّر عليها المؤسسة الملكية، المفترض أن تغطي هذه المساحة التي تتجاوز الزمن الحكومي بمحدّداته الانتخابية. طرح كثيرون كذلك القراءة السياسية التي يحتملها الخطاب بشأن النموذج التنموي "الجديد". وقد يستحق الأمر قراءة "بريئة"، تستحضر وعيا جماعيا بالحاجة الماسّة إلى إحداث قطيعة مع تدبير السياسات الاقتصادية المختنقة، وإلى تجاوز دورة إنتاج وإعادة إنتاج سياسات اجتماعية تعزز اللاعدالة، وتغذّي الاحتجاج والإحباط. ولكن لا بد من تقديم فرضيات أخرى، قد تتعلق مثلا ببحث الدولة عن شعارات جديدة للتعبئة الفوقية، لضمان انخراط تعبيراتٍ مجتمعيةٍ مختلفة، والتفافها حول "وعد" جديد، خصوصا أن الرصيد التعبوي لعناوين مركزية كثيرة، طالما شكلت آلياتٍ لإنتاج "المعنى"، ولتأطير الاجتماع السياسي، قد أصابها ضعف واضح. ملاحظة أخرى يفرضها التفكير في سياق الجوانب السياسية للموضوع هي: ما الهامش الذي سيحتله النقاش عن حدود النموذج المؤسساتي والسياسي وإمكاناته، في علاقة بالأداء الاقتصادي والاجتماعي؟، وهل سيكون الحوار حول العملية التنموية مستحضرا للشروط السياسية والثقافية المحفزة على التقدم، أم سيتم تغليب كفة المقاربات التقنوية الجامدة؟ وكيف ستتفاعل النخب مع هذا "الورش" والمشروع الجديد؟ وهنا، تبدو مؤشّرات الجواب، في الغالب، ذات منحىً سلبي، إذ قد يكون تفاعل النخب من أكبر نقط ضعف هذا "الورش"، بدليل ما لوحظ من تماطلٍ كبيرٍ في التجاوب مع الدعوة الملكية إلى فتح النقاش، حتى أن الخطاب الملكي أخيرا بمناسبة افتتاح السنة التشريعية أعاد التأكيد على دعوة الجميع إلى المساهمة في الاقتراح، بل وحتى الانتقاد. التخوف المعقول أن ترسخ هذه المحطة، من جديد، صورة نخبة بأزمة خيال فادح، وبضعف مهول في إنتاج الأفكار، وبقدرة فائقة على التسليم الأعمى، بما ستقدّمه الدولة من برامج ومقترحات. أما بخصوص تصور مآل النقاش بشأن النموذج التنموي، فيمكن طرح السؤال المتعلق بطبيعة هذا النموذج في علاقته بالسياسة، كماهي مجال عمومي للنقاش والتقاطب والاختلاف؟ وباللحظة الانتخابية باعتبارها لحظةً للتباري بين مشاريع اقتصادية واجتماعية مختلفة؟ هل سيشكل هذا النموذج فضاءً للتنافس الانتخابي بين برامج ومشاريع سياسات عمومية، أم سيشكل أرضيةً، خارج السياسة، لتعزيز الأداء التكنوقراطي ومزيد من إنهاك دوائر التمثيل وآليات الوساطة.