تقديم. الفرجة والإشهار عُصب الإنتاج ومَرْبِط الفرس في البث التلفزي. يكاد الأمر يشبه وإلى حد كبير سلاحا يسيطر اليوم على قنواتنا لأنه يمسك برقبتها المالية والتمويلية وبالتالي الإنتاجية. قد يكونا وسيلتان تحديثيتان أو مقابلا خفيا للمجتمع ولمنظومة القيم وقد لا يكونا، وبالتالي فقد يسيرا في الاتجاه المعاكس لكل ما تم ويتم الإعلان عنه، في العشارية ونصف الأخيرة، من نوايا وسياسات وطرق تدبير عمومية وخاصة، تعلن تبنيها لآليات التحديث والتمدين والدمقرطة وبناء مجتمع المعرفة والحق والتواصل العقلاني. نسبة المتابعة: ذريعة تكريس الأمر الواقع. قياس نسبة المتابعة والمشاهدة، إنه المقياس الكمِّي المحدُود المصداقية والمُرتبط بمحدودية دلالات الأرقام وضعف عمق دلالاتها السوسيوثقافية في غياب سياقها المجتمعي والقيمي والسياسي. هذا القياس يُراد به التعليل الصحيح لتقويم المنتوج السمعي البصري التلفزيوني، هو في الواقع مقياس قابل للجدل وللنقاش. إنه، بعد التأمل ووضع الأمور في سياقها العام وهو سياق كوننا في مجتمع يحتاج بإلحاح مراجعةً جذريةً لنظامه التعليمي والإعلامي، سياق مجتمع يسود فيه ثاقفة وفنا ذوق شعبي وشعبوي، الفنون الرفيعة والفكر الصافي والوعي اليقظ والمواطنة المؤسسة على تمييز حداثي للأساسي من الثانوي والربط فيه بين قيم المواطنة والحرية والغيرية والوطن والملك العمومي ومجال العيش المشترك منفصلة عن المواطنة، والدولة تختلط في الأذهان بالوطن، في هذا السياق لا تكون نسبة المتابعة والمشاهدة في الغلب الأعم سوى سلاحٌ مكشوفٌ لترويج الشَّعْبوِيَّة، وذريعة للتنازل (عن جهل عنيد و\أو غرور وطمع مُتجذر) التنازل عن كل رصينٍ ورفيعٍ ومُنغرس في صُلب التَّحْدِيث والحفاظ على القيم النبيلة، بدعوى الانتشار والسائد الذي لا يعني السيادة، وبضغطٍ وتواطُؤٍ وخِيمِ العواقب مع المُسْتشهرين، ومنهم بعض أقوى وأغنى المؤسسات العمومية والخاصة وشبه العمومية، الأكثر اعتماد على الإشهار والأكثر حضورا على الشاشة التلفزيونية، التي يجتمع كبار مُدراءها الذين لا يتمثَّلون الاستراتيجي في الثقافة، كما يتمثلونه في المالية والتقنية والتوازنات الميكانيكية، ولا يكترثون للبُعْدِ الحضاري العميق والخطير للتعليم والتربية والتنشئة بما فيها تلك غير النظامية وغير المُقننة للتلفزة وللإنترنت، والتي لا تساوي في وعيهم التقنوقراطي العاجز عن تمثُّلِ الفن والفِكر والأدب والعلوم الإنسانية والفلسفة، إلا باعتبارها ثقافة صالونات غير مُنتجة إذ ترتبط في حياتهم بالحذْلقة وبالإيتيكيت، كما هو عندهم الفولكلور المُختزل في السَّطحي وفي الغَرائبي والمُضحِك بشكل فجٍّ، مُناقض بل مُهَدِّم لبناء أُسُس العيش المشترك الحداثي في الفضاءات العمومية منها والخاصة. فضاءاتنا العمومية والخاصة (كما هي فضاءات تلفزاتنا وبرامجها الإشهارية والدرامية والترفيهية والرياضية كما ستلاحظون، ومن لم يلاحظ فلِيُعِِدِِ التّجربة بتركيز فقد يكونُ ألِفَ وتعوَّد على الصراخ والزعيق) التي لا يعرف المواطن المغربي حتى الحفاظ عليها من الزعيق والصراخ والتلوث الصوتي: فالعرس والمأتم والاحتفال بعودة الحجاج يساوي في فضاءاتنا قطْعَ السير في الشارع العمومي، ومنع الجيران والرضع والمرضى من النوم طيلة الليل، وبترخيصٍ من السُّلطات. سلطاتنا متهمة بالتغاضي، إن لم نقل التشجيع والانخراط، في احتلال المجال العمومي بشكل صارخ وواضح ومستمر في النمو: ما جدوى القانون في بلدٍ يدَّعِي الالتزام بالحق، ويملك تِرسانةً عصريةً الغرض منها، في نهاية المطاف، حمايةُ القِيَّم شريانُ المُشترك الجماعي وعنوانُ وجوده وفاعليته؟ إن اعتماد نسبة المشاهدة والاستماع في تصميم وصياغة وتنفيذ صِيَغِ السمعي البصري عامة والاشهار خاصة، ذريعة لتكريس الواقع المتدهور قيْميًّا وتربويا وبنيويا عندما يؤخذ عارِياًّ من تأثيثه الثقافي الحامل لمشروع بناء المواطن الحديث والعصري. المستشهرون ومسؤولية صِيانة القِيَّم وصناعة الرُّمُوز. إنهم المستشهرون الذين يقُومون بدورٍ مدمِّرٍ للتجديد وللتَّحْديث، هم بمثابة سَدنةُ وكهنةُ وحراس التقاليد المُتكلِّسَةِ للشعبوية الفوضوية (تمتعهم وتسليهم بالغباء الذي يعيد إنتاج ما ينبغي محاربته كعائق للتحديث في العقليات وأنماط السلوك)، الشعبوية القاتلة لقِيم الغيريَّة والوعي بحدود الحرية الفردية وجدَليَّتِها مع قِيم المسؤُولية، والواجب، والمحاسبة، واحترام مشروع بناء المجتمع المُتقدم حضاريا وليس حَجَرِيًّا ولا بلاستيكيا ولا زُجَاجيا ولا إسمنتيا ولا خشبيا فقط. إنهم مسؤولون ومُقرِّرُون أنانيون مغرورون بمعرفتهم التقنوقراطية الجافة من أي بعد إنسَاني، يلبسُون ويأكلون ويلعبُون الرياضة، يسْتحمُّون ويتعطَّرُون ويصفِّفُون شعرهم، يؤَثِّثُون بيوتهم ويبرمجون عُطلهم، يربوُّن أبنائهم بالفرنسية وبالإسبانية وبالأنجليزية المُتعالية بشكل لقيط وغريب على أهل اللغة تلك وثقافتها الأصلية معتقدين أنهم منهم بمجرد النطق بلغتهم. ليس العيب في تعلم وإتقان واستعمال تلك اللغات بل العيب في الأمر هو عندما يقومون بذلك مع صغارهم الممغاربة أولا وأخيرا، قبل تلقينهم لغتهم وثقافتهم الأُمّ والأصلية، لغتهم التي هُم مُغتربون عنها كتاريخٍ وكتخْيِيل، كمُتخيَّل وكمشاعر وكنماذج أصليَّة (archetypes)ضاربة في التاريخ، التاريخ الذي يدَّعُون في خُطبهم و في إطلالاتهم الخشبية علينا عبر التلفاز والإنترنت، يدَّعُون حُبه والتخطيط له وفهمه والتواصل معه وفهم رهاناته والعمل على تسْوِيقه وتأهِيله، إنهم يختارون ويُقرِّرون ترويج سٍلعَهُم بأبشع نماذج وصور وألحان وكلمات وحكايات وسيناريوهات ووجوه وأسماء وأفكار، لا تعزف إلا على أوتَاِر ابتذالِ اليَوْمِي، اليومي المُلقَى على قارعة الرّصِيف، والمرتبط جوهريا بقِصَرِ النَّظر، وباجتِرارِ النَّعرات الجِهوية، وبتحْقِير المَرْأة والسُّخرية من اللَّكنات المحلية، وتهجين اللغة العربية (لعله إغناء وعولمة في منطقهم الأرعن؟) والتقصير المِهني واتباع منطق السوق السُّوقي، ضارِبةً عرض الحائط ،وعلى مسمع ومرأى ممن يدبِّرُون بلداً برُمَّتِها، كل مظاهر غنى ثقافاتنا المحلِّية وأشكالها التعبيرية الأصيلة التي تتهَاوَى وتتلاشَى يومًا بعد يومٍ تحت أساليب نقلها، عبر الإشهار خاصة، إلى الشاشات بتسْطيحٍ مُهْوِلٍ وبِإِفقارٍ مُدهِش وبعجزٍ تخييلي وإبداعي فظيع. إنهم المُسْتبدون بقرارات لا عُمق فكرِيَّ ولا أرضية ثقافية أصيلة لها، لِجَانُهم التي تقْرأ وتُقوِّم وتُوافق وتطبَعُ لهم على اختياراتِهم المُصمَّمة بعيدا عن سيادة هذه اللجان واستقلاليتها الموءودة في المهد، هذه اللجان تُسخَّرُ في الغالب الأعم لإقصاء النبيل والرّفيع والنُّخبوي والراقي والبديع والتجريبي والمغمر بأشكال استكشافية للجميل بصيق عميقة ودالَّةٍ، لتصنع نجوما من تبْنٍ، نمطيَّةٌ عاجزة عن الإبداع لا تتمثل ذاتها مهمُومةً بِهِ أو مُتبنِّيَّةً لمُعاناته. يتلقُ الأمرُ ب« نجومٍ » مُطفأَةُ النُّور، تُشكِّل بالأحرى نَماذِج من استسْهال شُهرة شعبويةٍ مصنوعة من المُبتذل المُستهلك والاعتيادي الأجْوف، تجد على الرصيف ألسنة المراهقين والصِّبيان والعاطلين عن التفكير ومُسطَّحي الذوق تلهجُ بلُغتِهِم وبمَقَاطِع من إيماءاتهم وتشويههم للُّغة ولأصواتهم الصارخة المتَأرْيِِفَةَ، ولأجسادهم المُستفْحِلة « البدانة » ضدا على قواعد الجمال النُّخبوي الرّاقي، المُطَوِّعِ للقَدِّ الرَّشِيق الجميل الليِّن الأداء والغائب الثِّقْل، ثِقْلٌ فاسحٌ المجال للتعبير بالنظرة وبالإيماءة وبالحركة البديعة وبالصمت البليغ والنَّفَسِ المُتمكِّنِ من الأداء على إيقاع دراميَّةِ الموقف وعُمقه الإنساني. إنها « النجوم » التي لا إشعاع لها لأنها لا تحمِل لا رُؤيةً ولا طرحا ولا أسلوبا ولا تميُّزا. نجومٌ يقودُها ميكانيكيُّو صِناعة سمعية بصرية عموما وإشهارية خاصةً، لا تحملُ إلا ملامح هذا الغول الذي يرْكبُونه لفتات المظاهر ووهم شهعرة رديءة طفيلية، مثل فرانكنشتاين الذي يأتي على الأخضر واليابس في أذهان المُراهقين والمُدمنين والمُتعودين والمُناصرين للرديء وهم ضحاياه المحترفون تحت يافطة : الشعبية والشعبية ثم الشعبوية، وهو في الحقيقة ما يعني نسبة المتابعة والمشاهدة والإنصات التي خرَّبت وأوْهمت ونفخت وعيًا شقِيًّا في جِيلٍ بأكمله. إنه الجيل الذي أصبح اليوم يُقرِّر ويُعلِّم ويُربِّي ويُسيِّر ويدبِّر ويُدِير نماذِجَ ورُموز ومُثُلاً. إنها « نجوم » وصُناعٌ ومُقررون، تعتبر مُجرد حصد آلاف j'aime وآلاف أو حتى ملايين vue التي تنْبُعُ من واقع جهل وقحط حضاري في العقلية والسلوك المُواطِن، معيارٌ لاختراق حُرمة البيت المغربي خلال أوقات: الأكل والنوم والصلاة والبكاء والضحك والاحتفال والمراجعة والتسامر والخصام والحب والقراءة واستقبال الضيوف، لتقديم نماذج لم ولن تفوز ولو بالتأهيل لخوض الاقصائيات في مُسابقاتِ الإبداع الدولية الرفيعة والرصينة والمُعترف بها وبمعاييرها التي تحتكِمُ للجديد وللمُتماسِكِ، للمُتناغم وللمُدهش وللمُجازف باختراق المُتكلس والمُعِيق للتَّغْيِير، وبالمُراهنة على المُتناسق في طرحه العميق، وفي دلالاته المُلائِمة، وفي الغَنِيِّ في أصالته والمُفْحِم المُقنِعِ في عِلْمِيَّته وفي جمالياته الأخَّاذة في بناءه المعماري. ما أريد قوله في نهاية المطاف: قياس نسبة المتابعة إنصاتا ومشاهدة في الإنتاج السمعي البصري وعلى رأسها الإشهار المتلفز، كارثةٌ وطنيَّةٌ ومِعْوَلُ هدْمٍ حقيقي جد ناجِعٍ، وذلك عندما يُعتمدُ ويصمم وينجزُ خارج تقويمٍ وسياقٍ ثقافي وفكري وجمالي رفيع، يستحضِرُ مشروعَ المجتمع الحديثِ الذي ننشده والذي بِدُونِه يتربَّعُ كل شيءٍ مزهُوًّا بالعبث في مَهَبِّ الرّيح.