ضمن أحد البرامج الصباحية لإذاعة البحر الأبيض المتوسط، أُدرجت فقرة عن نتائج الدراسة التي قدمتها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري حول الصور النمطية التمييزية ضد المرأة من خلال الإشهار في القناتين العموميتين الأولى والثانية. وتحدث الضيف ذ. محسن بنزاكور المتخصص في علم النفس الاجتماعي عن خلاصة الدراسة المتمثلة في أن عينة الوصلات الإشهارية التي تم تحليلها تظهر المرأة في الفضاء الداخلي المنزلي وتحصر دورها في دورها الأسري فيما يحتل الرجل الفضاء العام في أغلبية تلك الإعلانات. وعزا ذلك إلى عدم تغير عقلية المجتمع، وبالتالي فالتمثل السائد لدور كل جنس لم يتغير. لذلك، حسب رأي البروفيسور بنزاكور، وجب البحث عن جذور الإشكالية فيما هو اجتماعي ونفسي. وفي سياق الحديث عن المسؤوليات التي ينبغي أن تضطلع بها الأطراف المعنية، تطرق إلى الهاجس التجاري للمعلنين وإلى دور الأسرة والمدرسة وبأن الهيئة العليا لن تعيد الأمور إلى نصابها. على العموم، يشبه مشكل المسؤولية عن تغيير العقلية السائدة إلى حد ما سؤال أيهما الأسبق، البيضة أم الدجاجة؟ كما أشارت مقدمة البرنامج «فرحانة». عن أي عقلية بالضبط نتحدث هنا؟ ما صرحت به الجهة المشرفة على الدراسة ومن حذا حذوها هي أن العقلية «الذكورية» أو «البطريركية» هي المذنبة في حالة بث الصور النمطية التمييزية ضد المرأة في الإشهار. لكن أي دراسة علمية يفترض أن تتأسس على الاستقلالية عن أي جهة لها مصلحة أو إيديولوجيا أو أجندة معينة، ثم أن تنطلق من فرضية وليس من خلاصة جاهزة، وأن تعتمد منهجية صائبة إضافة إلى تشخيص للحالة يتجاوز الأرقام الإحصائية البحتة وينفذ إلى عمق المسألة أو كما قال ضيف البرنامج المذكور، التحليل الاجتماعي والنفسي لتلك الظاهرة الإشهارية -إن صح التعبير- التي ليست سوى مرآة عقلية معينة داخل مجتمعنا. كما أن لضبط المفاهيم وتسمية الأشياء بمسمياتها أهمية بالغة في أي بحث علمي. طبعاً، لا يسمح المقال بالقيام بخبرة مضادة ولا يدعي ذلك، لكن يحاول فقط إثارة الانتباه إلى جدية الموضوع المعني وواجب التعامل معه بالدقة والموضوعية اللازمتين. لنبدأ بتشخيص مقتضب لتمظهرات تلك العقلية «المسؤولة» عن الصور النمطية التمييزية في الإشهار. باختصار، يبدو الأمر في مجتمعنا، وبعيداً عن أي حكم قيمة، كأن جسد الرجل ملك له وحده في حين أن جسد المرأة مشاع يشارك في ملكيته كل أفراد المجتمع سواها، بدءاً بعائلتها المقربة وانتهاء بوعاظ «الفضيلة» المزعومين ومروراً بالذين «في قلوبهم مرض» من المعتدين على جسدها سواء بالعين، بالفم أو باليد كلما صادفوه في الفضاء العام. ولا أدل على ذلك من الأحداث الأخيرة المتعلقة بالإغارة الفيسبوكية على أجساد النساء في فضاء عام هو شاطئ البحر من طرف من نصبوا أنفسهم «مقتصين» افتراضيين (وقد يصبحون فعليين إن ظل سلوكهم بدون عقاب). وكذلك حالات التحرش داخل أماكن العمل التي تتطور أحيانا إلى شروع في اغتصاب أو استغلال السلطة للحصول على جسد عاملة أو موظفة لتواجدها في فضاء عام هو مكان العمل، وغالباً ما يفلت المتحرش من العقاب ويقع الحيف على المتحرش بها (حسب ما لاحظته شخصياً). دون الحديث عن الفضاءات العامة التي كانت مخصصة تاريخيا للذَّكر، أي المقاهي وأماكن الترفيه... ولو أنني أكاد أجزم أن التحرش في بلادنا هو تحرش طبقي أكثر مما هو تحرش جنسي. واقترح هنا على الباحثين في المجال القيام بتجربة بسيطة: خذوا نفس المرأة، ألبسوها ملابس متوسطة الحال أو أقل واتركوها تمشي في الشارع ثم احسبوا عدد المتحرشين بها ونوعية التحرشات. بعد ذلك، ألبسوها كما لو كانت خارجة للتو من عرض للأزياء الراقية وأنزلوها من مقعد قيادة سيارة فارهة ثم قوموا بنفس العملية الحسابية والتقييم. ستكتشفون بالتأكيد أنها في الحالة الثانية قد لا تتعرض للتحرش بتاتا أو قد تتعرض لتحرش أقل وبطرق أكثر لباقة! باختصار أيضاً، يبدو أن هناك جهلاً أو تجاهلاً لكون المرأة إنساناً قبل أن تكون أنثى، كأننا كأفراد وجماعات نسينا هذه الحقيقة البسيطة، ألا وهي أن المرأة روح وعقل وكيان إنساني قبل وبعد أي شيء آخر. وما الجسد سوى من تراب وسيعود إليه لا فرق إن كان ذكرا أو أنثى، وبالتالي، فلا أحد يملك صك ملكية عليه، لأن الجسد الأنثوي والذكري على حد سواء ليس في نهاية المطاف سوى أمانة في عنق ساكنه ولا أحد غيره. إذاً، إذا سلمنا أنه لا وصاية لأحد على أجساد الناس بمجرد بلوغهم الرشد، لماذا هذا الانشغال بجسد المرأة من طرف الأشخاص والمؤسسات؟ وما الفرق بين من يدعو إلى عرض جسد المرأة شبه عار في الإشهار بمناسبة وبدون مناسبة ومن يدعو إلى جعلها خيمة متحركة بمجرد تخطيها عتبة الدار؟ لا فرق، في نظري، بينهما، فكلاهما يعتبر المرأة جسداً فقط ومن ثمة شيئًا. وهذا هو التمهيد لتحويلها إلى سلعة، سلعة قابلة للتداول في السوق، خاضعة لمنطق العرض والطلب! وإذا أضفنا إلى هذا فكرة أن التفقير والإذلال يؤديان بدورهما إلى التسليع بما في ذلك تغذية روافد سوق الجنس على صعيد شمولي، وأن الثراء الفاحش يخلق حاجيات مصطنعة وبدوره يغذي سوق الكماليات والترف، نستخلص أن تسليع الإنسان يخدم مصلحة السوق العالمية كما هي حالياً. الملاحظة الثالثة، وباقتضاب، مرتبطة بما سلف، وهي ماهية الإشهار في ظل معطيات السوق الجديدة. الهدف الأساس للإشهار الذي كان يعرف فيما مضى بالدعاية (Réclame) هو التعريف بمنتج والحث على اقتنائه عبر تعداد مزاياه، وكلما كان المستمع أو المتفرج سهل التصديق كلما كان الإشهار ناجحا. لذلك دخلت على الخط آليات الضبط أو ما يسمى بالقانون المرن (Soft law) لوضع قواعد لحماية الفئات الأكثر هشاشة وقابلية للتأثر من قبيل الأطفال. لكن، هذا لا يمنع الإشهار اليوم وفي كل مناطق العالم من تجاوز حدود التعريف بالمنتج أو الخدمة والدعوة إلى استهلاكه (ها) إلى نشر قيم جديدة وثقافة استهلاكية صرفة، عبر خطابات وتقنيات سمعية بصرية غاية في الإحكام لم يستعملها حتى «غوبلز» في زمانه! ومفاد تلك الثقافة باختصار أن كل شيء يباع ويشترى بما فيه الجسد البشري. وأي مطَّلِع على عالم الإشهار سيقول لكم أن جودة الوصلة الإشهارية لا تقاس باحترامها للقيم الإنسانية ولكن بفعاليتها وحجم تأثيرها على المستهلك، وهذه هي نوعية دراسات الجدوى التي يقوم بها المستشهرون وخبراء الإشهار. ليس في نيتي شيطنة الإشهار، لكن بعملية حسابية بسيطة لا تحتاج إلى عبقرية فذة ، يتبين أن الإشهار في أيامنا هذه ليس شيطاناً في حد ذاته لكنه بالتأكيد محامي الشيطان. الملاحظة الرابعة هي تأكيد ما جاء في دراسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري من كون الإشهار، من خلال العينة المرصودة، غالبا ما يحصر المرأة في الفضاء الداخلي المنزلي. لكن القفز من هذه الملاحظة الإحصائية إلى خلاصة أن سبب ذلك يعود إلى العقلية الذكورية أو «البطريركية» السائدة في المجتمع هو طريق مختصر يتناقض مع مبادئ البحث العلمي السالفة الذكر. فللوصول إلى تلك الخلاصة ينبغي أن تستند الدراسة إلى خزان تفكير (Think tank) يضم أفكار علماء اجتماع وعلماء نفس وخبراء تواصل. الحيز هنا لا يسمح سوى بالتشخيص بالعين المجردة فقط، أي وصف تلك العقلية قبل نعتها بالتسمية المناسبة والتي هي حتما ليست بالذكورية ولا بالبطريركية (وهما بالمناسبة نعتان مستوردان فيما لكل مجتمع خصوصياته، وهذا تجاوز علمي أيضاً). إذا اتفقنا على أن صورة المرأة في إشهارنا كما في مجتمعنا المغربي محصورة في الفضاء الداخلي/المنزلي، فهذا يجعل منها المكلفة الأولى بتربية الأبناء ذكوراً وإناثاً، وحارسة التقاليد وصاحبت القرارات حتى المصيرية منها بالنسبة للأسرة، والمتدخلة في كليات الأمور وجزئياتها داخل العائلة. فماذا يعني هذا؟ ... يعني ببساطة أنها المسؤولة أو على الأقل صاحبة أكبر قدر من المسؤولية عن استمرار نفس الصور النمطية التمييزية ضد المرأة، ومسؤوليتها أكثر من الرجل الذي يحتل الفضاء العام على حساب الفضاء الخاص ولا يساهم في تربية الأبناء إلا بالنزر اليسير لأنه -وفقاً لنفس توزيع الأدوار ذاك- مكلف بالإنفاق عليهم. من ثم، إذا كان لا بد من نعت الأشياء بمسمياتها، فالعقلية السائدة هي العقلية «الأمية»، والمقصود هنا ليس جهل القراءة والكتابة، بل الأمية نسبة إلى الأم كما قصدها الأستاذ عبد الله العروي، أي عقلية الأم بكل ما تحمله من تربية على الخوف من العالم الخارجي، والخضوع للأقوى، والمحافظة على «التقاليد» والخوف من التغيير والاختلاف... وما إلى ذلك من إعادة إنتاج «سيكولوجية الإنسان المقهور». من الناحية العلمية والعملية، وإذا كان لابد أن ندخل في منطق الثنائيات المصطنعة وأن نجد للمرأة عدوا، فلن نجد أحسن من المرأة نفسها. إذ أن المرأة عدوة نفسها وعدوة المرأة حين لا تعي رغم ولوجها إلى مقاعد الدراسة والعلم والثقافة والعمل ومدرسة الحياة أنها مع ذلك تحمل داخلها عقلية أمها وجدتها. التربية «الأمية» التي تلقيناها جيلاً بعد جيل جعلت التربية تدجيناً. وبالعودة إلى الدجاجة والبيضة المذكورتين في البرنامج، التربية «الأمية» تقوم -بعد التحضين طبعا- على أساس تكوين ديك من الابن، ودجاجة من الابنة كل همها الظفر بزوج/ديك وحتى إن كان طيراً حراً ستقص جناحيه حتى لا يطير بعيداً! تلك التربية جعلتنا ننسى أو نتناسى أننا ذكوراً وإناثاً وُلدنا طيوراً حرة في سماء الله الواسعة ولنا حرية الاختيار ومعها مسؤولية ذلك الاختيار. والعقلية الناجمة عن تلك التربية، جعلت، في اللاوعي الجماعي، الرجل يقبل على نفسه أن يكون ديكاً دوره تخصيب دجاجة أو أكثر والتحول إلى صراف آلي قدر المستطاع، وجعلت المرأة تقبل على نفسها أن تكون دجاجة تفرخ الأبناء وتحضن عليهم حتى بعد عقود من بلوغهم سن الرشد. ويمكن الاستدلال على ذلك في بحث الابن عن «رضى الوالدة» أكثر من بحثه عن رضى الوالد عند اختياره لشريكة حياته، بل وحتى في أدق تفاصيل حياته الزوجية معها، وكذلك في العلاقة المتشنجة عادة بين الحماة والكنة. إجمالاً، تصير الأسرة عندنا بسبب كل ما سبق مؤسسة تدجين أكثر مما هي الخلية الأولى للتربية، وعندما تتحول المؤسسة الثانية للتنشئة الاجتماعية التي هي المدرسة وبشكل ممنهج إلى آلة «للتضبيع»، على حد قول الأستاذ محمد جسوس رحمه الله، فماذا ستكون النتيجة في نظركم سواء في الإشهار أو في المجتمع ككل؟ الأرقام لا تكذب، لكن إذا تم القفز مباشرة إلى استنتاجات تنبني على مصطلحات ومفاهيم غير دقيقة كما هو حال الخلاصات المعبر عنها إبان تقديم دراسة «الصور النمطية التمييزية ضد المرأة من خلال الإشهار في القناتين العموميتين الأولى والثانية»، نسقط حتما في ثنائيات مصطنعة من قبيل المرأة ضد الرجل، العربي ضد الأمازيغي، الشباب ضد الشيوخ... والأمثلة عديدة لثنائيات مصطنعة تستهلك جهدا ووقتا وما تيسر من أموال الدولة ولا تنتج سوى خلاصات تفتقر إلى الحد الأدنى من التحليل العلمي الحق، أو تقدم حلولاً من منطق إثارة المشاكل، وتعتمد على مدعي خبرة يزيدون الطين بلة بصب الزيت على نار الثنائيات المصطنعة أو بذر الرماد في العيون لإخفاء الثنائية الحقيقية، أي سؤال توزيع الثروة إنتاجا واستفادة وبالتالي توزيع السلطة، في المجال وبين الأجيال وبين الطبقات الاجتماعية. وهنا دخلنا في المحظور أو على الأقل المحظور على تلك الدراسات المعلومة المسموح لها فقط بالتعامل مع السوق من نفس منطقه، ومع تشييء الإنسان نساء ورجالا من منطق تخفيفه، ومع تسليع الأفراد والمجتمعات من منطق تقنين التسليع فحسب! لذلك، يجدر بنا كمتفرجين (متفرَّج علينا في نفس الوقت!) أن نطرح على الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري سؤالاً أولاً وجيها: أليس من مهمتها حماية المواطنين من الاعتداء السمعي البصري المتجسد في الإشهار الذي يخرق دفاتر الحملات ولا يحترم كرامة الإنسان/المرأة ويخل بالقواعد اللغوية لأي لغة دون تمييز، ولا يراعي أبسط قواعد الذوق العام، أليس من واجبها التدخل بما يفرضه القانون وموقعها كهيئة إدارية للضبط والتقنين بدل التعامل كمكتب دراسات؟ أما السؤال الثاني التي يتبادر إلى الذهن بهذا الخصوص فهو: ألن نشاهد في حياتنا أبدا القنوات التلفزية الخاصة التي وعدنا بها تحرير المشهد السمعي البصري ببلادنا وتأجلت لأكثر من عقد من الزمان، مادامت القنوات العمومية الممولة من جيوب دافعي الضرائب تقتات حصرياً على الإشهار؟