من أبرز المظاهر الأزموية للسنوات العشر الماضية ما بلغه الصف الديمقراطي التقدمي اليساري من تشتت تنظيمي وتراجع مهول لفعاليته السياسية والميدانية والإشعاعية. وإذا كان أي تقدم ديمقراطي مستعصيا بدون بناء قطب يساري ديمقراطي تقدمي ومستقل، فإنه يصبح من المطلوب بكل استعجالية أن تنكب مختلف فصائل اليسار وأحزابه على استشراف مستقبل وجوده كقوة فاعلة ووازنة في المعادلات السياسية الراهنة والمقبلة. وفي هذا الإطار، تأتي أهمية وإلحاحية المبادرة إلى فتح حوار وطني بين قوى اليسار بهدف إعادة البناء للقواسم المشتركة، وفي أفق توحيد الرؤية والبرنامج والممارسة. إن مشروعا مجتمعيا لليسار وعرضا سياسيا يساريا جديدا هما اليوم المدخل الطبيعي المطلوب لاستعادة اليسار لجاذبيته وقيمه وجماهيريته ومصداقيته النضالية، كما أنه ضرورة موضوعية وذاتية لتجاوز انسداد المجال السياسي والخروج من نفق الثنائية القطبية الزائفة التي تحكمت فيه منذ سبع سنوات خلت (إسلاميون محافظون _ حداثيون علمانيون)، والتي قتلت السياسة وأفقدت العمل الحزبي نبل مقاصده وقادت في نهاية المطاف إلى هذا الفراغ المقلق في المجال السياسي الوطني. ويمكن هنا، وبتكثيف شديد تحديد العناصر الجوهرية المكونة للمشترك اليساري المطلوب، إعادة بنائه كالتالي: التاريخ النضالي المشترك: بتضحياته وإخفاقاته وخيباته وقيمه النضالية والأخلاقية من صمود وثبات على المبادئ وإصرار على مواصلة النضال من أجل بناء نظام سياسي ديمقراطي، ودولة الحق والقانون، ومجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة. حقا، هناك مظاهر كثيرة من تردي هذا العنصر المشترك بفعل ما تسرب إلى قوى اليسار من نزعات انتهازية، استثمرت في هذا الرصيد التاريخي المشترك لأهداف وحسابات بعيدة عن اختيارات اليسار وقيمه وإستراتيجيته. الهوية الاشتراكية لأحزاب وفصائل اليسار: التي تفرض، في ظل متغيرات عصرنا، خاصة بعد فشل التجارب الاشتراكية، تجاوز الفهم الجامد الدوغمائي للاشتراكية كفكرة ومشروع، والعمل على الانتظام من جديد داخلها من خلال تجديدها وإغنائها لتستوعب مستجدات العصر المعرفية والاجتماعية، وربطها عضويا بالديمقراطية؛ فالاشتراكية والديمقراطية يشكلان معا مشروعا مجتمعيا واحدا في مواجهة المشروع الليبرالي السائد والمهيمن والمشروع الإسلاموي النكوصي. إن اليسار يواجه تحديا ثقافيا وإيديولوجيا يستدعي من أحزابه وفصائله السياسية ونخبه الفكرية مجهودا نظريا كبيرا من أجل إعادة بناء المرجعية الاشتراكية المؤطرة للممارسة السياسية اليسارية. الاختيار الإستراتيجي: لا شك في أن السيرورة السياسية لبلادنا قد جعلت اليسار المغربي، ومنذ منتصف السبعينيات، يتحرر – تدريجيا- من ثنائية ثورة _ إصلاح، ويتبنى عن قناعة الديمقراطية "كوسيلة وغاية" مدخلا نحو تخطي البلاد لواقع الاستبداد بالسلطة، وتجاوز حالة التأخر التاريخي المزمنة . إن هذه السيرورة، وبعد مخاض طويل، استقرت اليوم _وبشكل واضح بعد إقرار الدستور الجديد _ على تبني مختلف أحزاب وفصائل اليسار لإستراتيجية الملكية البرلمانية ،التي يرتهن التقدم في ترجمتها إلى مؤسسات وممارسات وفصل حقيقي بين السلط بقوة وموقع اليسار في المجتمع وداخل حقل التدافع السياسي والديمقراطي الحالي. اختيارات برنامجية متطابقة على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي: ومنها، على سبيل المثال، اختيار الاقتصاد المختلط مع الإقرار بضرورة قيام الدولة بالدور الريادي والوازن في قيادة قطار التنمية خاصة ما يرتبط بالمشاريع الكبرى المتعلقة بالبنيات التحتية والتجهيزات الأساسية وبمستوى التحكم في التوازنات الاقتصادية. هذا إضافة إلى تطابق برامج اليسار في المجالات الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق بمحاربة الفساد واقتصاد الريع وإقرار نظام حماية اجتماعية حقيقية. ولا شك في أن استعادة المكانة المركزية للمسألة الاجتماعية في المشروع السياسي اليساري تعد مدخلا رئيسيا لإعادة بناء المشترك بين فصائل وأحزاب اليسار من جهة، ومد جسور متينة بينها وبين المجتمع من جهة ثانية. إن هذه العناصر المشتركة وغيرها، كالموقف المبدئي من قضية الصحراء المغربية ومن مختلف القضايا العادلة للشعوب وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ومن قضايا المساواة بين الجنسين وحماية البيئة.. إلخ، التي تجمع موضوعيا وواقعيا بين قوى اليسار المشتتة، لتشكل قاعدة صلبة لإعادة بناء وهيكلة قوى اليسار المتناثرة وربطها بمحيط جماهيري عارم هو في أشد الحاجة إلى قوة تنظيمية مؤطرة ومنظمة لحراكاته من أجل الخبز والشغل والحرية والكرامة.. إن التجاوز الواعي والإرادي "للعوائق السيكولوجية" والحساسيات الذاتية والحسابات المصلحية الضيقة الأفق يشكل شرطا حيويا لا غنى عنه من أجل ربح رهان إعادة بناء المشترك اليساري كمدخل رئيس لأي صيغة وحدوية ممكنة موضوعيا وذاتيا. فهل ترقى الإرادات اليسارية إلى مستوى هذا الرهان " الوجودي"؟