قبل خطاب الرئيس التركي المنتظر، كانت الأسئلة المطروحة بإلحاح هي: هل مقتل جمال خاشقجي كان ( عملية استخباراتية فاشلة ) أو( جريمة سياسية فاشلة )؟ هل هذه هي تلك؟ ومن هي الأقرب إلى المنطق والحقيقة؟ بعد خطاب أردوغان، تعددت المواقف والآراء بين مقتنع بالخطاب ومتفاجئ به ورافض له، على اعتبار أن أفق انتظار العديد من المتتبعين كان مرتبطا بكشف الحقيقة بالدليل والبرهان، الشيء الذي لم يحدث في نظرهم. هل بالفعل، خطاب أردوغان لم يأت بجديد؟ ومن كان يعتقد أن أردوغان، وهو السياسي البارع، سيدمر علاقته بالسعودية؟ هل كان على أردوغان ممارسة ( الشو الإعلامي ) وتفجير قنبلة دبلوماسية مع السعودية، تكون من الحجم الكبير، ليرضي المنتظرين من كارهي المملكة العربية السعودية، سواء كانوا من الإخوان المسلمين أو في قطر أو سائر بلدان العالم؟ العارفون بأردوغان لم يكن أي أحد منهم يشك بأن الرجل لن يتخلى عن دهائه وحنكته السياسية، وبالتالي فالخطاب كان في مستوى التطلعات السياسية لتركيا الهادفة إلى الحفاظ على مصالحها العليا. دهاء أردوغان في خطابه برز في الإقرار والتصريح بأن مقتل جمال خاشقجي هو جريمة سياسية مرتبطة بدولة وليس خطأ استخباراتيا ارتكبه شخص أو أشخاص، الأمر الذي اعتبر رفضا للطرح السعودي ونسفا له. أردوغان، في نفس السياق، وبنفس الدهاء السياسي، وضع سؤالا مهما هو، من أمر بقتل خاشقجي من داخل دائرة الحكم في السعودية، مع التنصيص على أن الملك سلمان هو مصدر الثقة الوحيد، والمخاطب الوحيد لتركيا! هذا مع العلم أن أردوغان أشار في خطابه إلى الملك سلمان ولم يشر بأي شكل من الأشكال إلى ولي العهد. في نفس الوقت، وبتلميح مدروس، يؤكد أردوغان أن القضية يجب أن تسير في اتجاه المحكمة الجنائية الدولية، بالرغم من الاعتراف والتعاون السعودي. كل هذا، جعل الكثير من المحللين يعتبرون الخطاب رسائل مشفرة لمن يهمه الأمر، ومن كان ينتظر تفجير القضية بمنطق المعارك الدبلوماسية بين الدول خاب ظنه، ومن كان ينظر إلى القضية بمنطق تحليلي سياسي وجد الخطاب شافيا. تبقى ملاحظة أساسية في خطاب أردوغان لم تلق الاهتمام اللازم، ونعني بها إشارته إلى الدول الأجنبية المتورطة في الجريمة. هل يقصد بهذه الدول الاستخبارات الأمريكية، أم الأمر مرتبط بالدول التي اتجه إليها الفريق الذي قام بعملية القتل، والذي ذهب جزء منه إلى دبي بالإمارات، وجزء آخر إلى القاهرة؟ وماذا يعني الإشارة إلى هذه الدول؟ وهل الأمر متعلق بطلب تركي برفع الحماية عن نظام السيسي ورفع الحصار عن قطر، كما أشارت إذ ذلك بعض التحاليل، أم أن أن الأمر له تفاسير أخرى؟ خطاب الرئيس التركي أكد بأن قضية خاشقجي جريمة منظمة وراءها دولة، وأن الرواية السعودية أكاذيب، وأن ثقة تركيا في الملك سلمان فقط، وليس أي أحد غيره. هذا هو الانفجار الكبير الذي أحدثه خطاب أردوغان، وهو انفجار مختلف، من حيث الأثر، عن الانفجار الذي تحدثه القنابل الإعلامية التي كان الكثير من المتتبعين ينتظرونها. يبقى مِلْح الخطاب هو سؤال أردوغان: أين الجثة؟ ومن هو المتعاون التركي؟ بكل ما يحمله هذين السؤالين من إحالة بأن التحقيق في القضية لم ينتهي بعد. أخيرا، تصريح وتأكيد أردوغان بأن اغتيال جمال خاشقجي هو جريمة سياسية منظمة قامت بها دولة، أدخل الدولة السعودية في مأزق جديد، وهذا في نظر الكثيرين كان كافيا لاعتبار الخطاب أدى دوره كاملا. اتهام دولة وليس أشخاص، هو مربط الفرس، في الخطاب، والباقي تفاصيل، والشيطان دائما يكمن في التفاصيل.