كما هو الحال بنا دائما، نرقد في سبات عميق إلى أن تقع فاجعة تهز نعومة وسائدنا ودفء أسِرَّتنا. والحقيقة أن جل قاطرات ومقطورات الدوائر الإدارية والحكومية صارت تشذ مجازا عن الطريق المخصصة لها سواء أكان ذلك عن قصد أو عن غير قصد. فلا غرابة في خروج قطار حقيقي عن سكته الحديد لأن مزاجه أوحى له بذلك الخروج فقط من باب اختبار مسار مختلف وتكسير رتابة رحلة تتكرر كل يوم. في النهاية ما هي الحصيلة؟ قطار مهترئ سيتم الرمي به في مقبرة القاطرات وقد يتم سحبه في الغالب إلى ورشات المكتب الوطني للسكك الحديدية لترميمه ووضعه من جديد على السكة الحديد. ما الحصيلة أيضا إلا بضع أشلاء بشرية متناثرة هنا وهناك يتم تجميعها وكأنها ألغاز ورقية، ومائة ونيف من الجرحى منهم من سيلقى حتفه ومنهم من سينجو ربما بعاهات مستديمة ليوضع من جديد على سكته الخاصة. وأكاد أجزم أن كل هؤلاء لن يخضعوا لفحص سيكولوجي؛ فليس مهما أن نخصص لهم من يراقبهم ويتابعهم نفسيا فهم مغاربة والمغاربة قادرون على تجاوز الصعوبات والمحن حتى وإن كانت المحنة صدمة لقاء موت كاد يكون مؤكدا والنظر في وجهه مباشرة ورؤية أجسام المسافرين تبثر وتتناثر من حد زُبْر الحديد. أعتذر للقارئ عن سخرية هذه المقدمة، فأزمة الأخلاق التي نتخبط فيها لم تعد تنفع معها معيارية اللغة ولا سجلاتها المجازية ولذاعة سخريتها. أحاول جاهدا فقط أن أضع نفسي مكان المسئول عن الحادثة وأن أتخيل مدى معقولية تغاضيه عن تنبيهات العمال إلى الخطر القائم بالمحور مسرح الفاجعة. الآن وقد حدث ما حدث، ماذا بعد؟. كالعادة نبدأ بإطلاق مسمى على الحادث فيتم تعميده "قطار بوقنادل"، ثم يخرج أول تعليق للوزارة الوصية يهدئ من روعنا ويبث الطمأنينة في أنفسنا مفيدا أن "التحقيق الجاري من قبل الجهات المختصة سيسمح بمعالجة الاختلالات التي سيتم كشفها بعد انتهاء التحري والبحث". وكالعادة سيتم تحديد كبش فداء تعلق عليه سلسلة من المؤاخدات وبنود التقصير والإهمال، كما سيتم إيجاد أفضل صيغة لإسكات غضب المواطنين وحفظ ماء وجه المسئولين الحقيقيين عن المأساة. هل ستكفي التحريات وكشف نتائجها لكف دمع من تبكي زوجها الذي قضى وهو يحاول إخراج الناس من الضيق؟ هل سيعوض كشف الاختلالات بعد فوات الأوان الأسر المفجوعة في فقدان أعز ناسها؟ ماذا عن المتابعة العلاجية لمسافري "قطار بوقنادل" من مصابين وناجين؟ يبدو أن ثقافتنا في مثل هذه الحالات لا تعى ولا تدرك هول الصدمة على المصابين وغير المصابين. أَمِنَ العبث أن تضع دول أخرى برامج تتبع سيكولوجي للناجين من كوارث كهذه؟ لا أعتقد. لكننا طبعا نوع مختلف من البشر، نوع يكتفي "بالبيطادين" والحمد لله على السلامة. والحقيقة أن كل المعنيين بهذا النوع من الكوارث، ناجون ومصابون ، هم ملزمون بالخضوع لمراحل علاجية عدة بعد صدمة جماعية كانوا فيها قاب قوسين أو أدنى من الموت. وهذه الإجراءات تبدأ من تجميعهم بمكان الحادث ومخاطبتهم بهدوء وحملهم على التذكر وإرجاعهم شيئا إلى الحياة. وقد يكلف فريق ببرنامج العلاج ما بعد الصدمة على المدى القريب ثم البعيد، كما يتم اقتراح سبل علاجية فردية على كل حالة على حدة قد تصل إلى الاتصال بالعائلة وترتيب آليات المتابعة معها. ولا نتحدث عن الأضرار البدنية التي ستترتب عن الحادث بالنسبة للكثير من المصابين والتي ستتفاوت أهميتها قطعا، ونتمنى أن يسلم كل مصاب منها. ناهيك عن وضع برنامج تعويض مادي يأخذ بعين الاعتبار تفاوت نسبة الأضرار. هل قامت الجهة الوصية التي تتحمل المسؤولية القانونية عن الحادث بوضع خطة عمل لواجهة الأزمة والتعامل مع المصابين؟ لا أعتقد، فقد كان أول خروج إعلامي لمدير المكتب الوطني للسكك الحديدة بالكاد يشير إلى نقل المصابين من ذوي الإصابات الطفيفة إلى المستشفى المحلي للإسعافات الأولية (والنهائية أيضا) وذوي الإصابات الخطيرة إلى مستشفى مدينة سلا للنظر في أمرهم. وكأن الأمر ينتهي عند التطبيب والربت على أكتاف المصابين وتهنئتهم على سلامتهم.. لن تتغير دار لقمان، وستبقى صامدة شامخة على ما هي عليه في وجه الزمن والرياح والأعاصير مهما عظمت. يحدث أن تصطدم القطارات بفعل خطأ تقني. لكن "قطاربوقنادل" خرج عن السكة وحيدا وبمحض إرادته، وعلى الأرجح، فإن مرد هذا الخروج خلل بالسكة الحديد أدى تفاقمه والتغاضي عنه إلى الكارثة. وهذا ما تؤكده المكالمات الهاتفية والتسجيلات الصوتية المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي والمنسوبة لعمال المكتب الوطني للسكك الحديدية، إذا كانت حقيقية. إذ يتحدثون عن رفع تقارير و إخبار ذوي الصلاحية بالمؤسسة عن عدم جاهزية السكة بمحور بوقنادل، وأن هذه الجهات تجاهلت تحذيراتهم وأرسلت مجموعة من الرحلات بسرعة تتراوح بين 120 و160 كيلومتر في الساعة، غير آبهة بأعطاب المحور ومعرضة حياة المسافرين للخطر. وفي حالة ثبوت ذلك، فإن الأمر سيتعدى فرضية الخطأ التقني إلى ارتكاب جرائم قتل عمد وإهمال. ذلك ما يعنيه في نظري إرسال قطار سريع مليء بالركاب على سكة غير ثابتة البنيان. إن محور القنيطرةالرباط يعد من أهم المحاور التي تشهد حركة يومية عالية. من يضمن خلوه في مناطق أخرى من الأعطاب؟ من يضمن أن محور الرباط والدار البيضاء، وهو الأشد كثافة وحركة، لا تشوبه شائبة؟ فجريا وراء لقمة عيش لا يرحم ومآرب والتزامات لا تنتهي، لا يسع المسافرين إلا السفر على كف عفريت، مسلمين أمرهم للرحمن.