المدخل: المجتمع، إما أن يكون منغلقا، أو محافظا مرنا، أو منفتحا على كل المستجدات...وهذه دينامية ملازمة لكل مجتمع إلى أن تدفع به اضطراريته إلى الحسم..والمجتمع المغربي يمر بنفس السياق من هذا القبيل..فانطلاقا من موقعه على ملتقى بوغاز مكون من بحرين كبيرين وهامين، وبحضارة متوسطية وشساعة أطلسية، ساهمت الجغرافية في توجيه تطوره نحو الغرب الأوروبي أكثر، كما جذبت إليه بعض هبوب ريح، قادمة من القارة الأمريكية المقابلة لضفته الغربية..فهذه العوامل الموضوعية هي السبب الرئيسي للتأثر بصدى التغيرات القادمة، عن طريق الجوار، والاحتكاك السياحي، وانخراط الجاليات في حركية التعايش والتثاقف...فكيف أخذ التطور يزحف جذريا إلى جغرافية البرزخ؟ العوامل الرئيسية للتطور: بدءا، تجدر الإشارة إلى أن هناك بالضرورة عناصر تضبط التطور المتحرك في أوساط المجتمع المغربي، ومنه ما هو ذاتي وما هو موضوعي.. ويتجسد ذلك في ثلاثة ظواهر مركزية، وهي كما يلي: 1) توسع الاستهلاك العولماتي ويتمثل في اقتراب كل المستجدات الاستهلاكية العالمية إلى أبعد منأى، حيث اكتسحت كل المرافق الحضرية، معيشية وعملية وترفيهية، بوسائل وأدوات حديثة خاصة... كما بدأ بعضها يفرض نفسه حتى على أسواق البوادي بما فيها القرى والدواوير..وهكذا بدأ يتغير الطبع التقليدي، إذ انتشرت الأطعمة والمأكولات خارج المنازل وتكاثر روادها، من الشباب الصاعد، كما انتشرت الهواتف الذكية بنسبة مئوية قياسية.. وتحرك القطاع الإشهاري، بدافع العولمة، ينشط في كل المناطق لإدخال كل ما هو مستجد وملح، سواء منه الصناعي أو التجاري أو الفلاحي أو السياحي...وذلك عبر السمعي البصري أو الورقي كالملصقات وغيرها...وهنا تحضر الدولة فقط لاستجلاب الواردات المطلوبة، وتحريك الرواج، دون تخطيط لأي رأي عام، لكن هذا الأخير يلتقط الكل بدراية مسبقة وحماس.. ولا ننسى أيضا وسائل الإعلام القنواتية الخارجية، بجميع أشكالها ومستوياتها الجذابة، إلى جانب أشكال التواصل الرقمي...وكلها هي الأكثر اشتغالا في هذا المضمار، نظرا لاستقطابها الجمهور المتطلع، بمنأى عن القنوات المحلية، التي لم تفلح برامجها في مواجهة منافسة الاستقطابات..وهكذا وصلت، وبسرعة مبهرة وغير مباشرة، التطورات المعرفية والتكنولوجية والإستهلاكية المستوردة، وشاعت في الأوساط إلى حد تبني نمطية شبه مستغربة... 2) الوعي الاجتماعي: إن كل هذا التواصل الاجتماعي المدني، الرقمي والقنواتي والإشهاري، ليس وحده هو المؤثر..فلقد ظهرت عوامل أخرى أكثر تأثيرا لأنها جذرية...ومن ذلك الوعي بالفوارق الطبقية المتفاقمة أساسا، ثم التحرك من أجل مناصرة الصراع القائم فيما بينها علنا... الشيء الذي أنضج الوعي الاجتماعي، ودفعه إلى التمييز بين الحقوق والواجبات، والتركيز عليها في الخدمات الاجتماعية، من تعليم وصحة وشغل...فطفق هذا الرأي العام، بنقاشاته واحتجاجاته، يصعد الانتقاد موجها إياه إلى الدولة وأجهزتها، وحتى إلى هيئات المجتمع المدني، بعد أن تردى مستوى هذا الأخير وفشلت نجاعته لرفع حيف الاستغلال والضياع، عن الطبقات المسحوقة أسرا وأطفالا..و هكذا صار المغاربة يدافعون عن حقهم في المنافع وفي الاعتبار..فقد مضى زمن الانطواء عن النفس، وصار التكافؤ مطلبا ملحا ...ومن هنا ألفت الانتباه بتركيز وإلحاح، إلى القطاع السياسي وترديه. 3) الوعي السياسي: هكذا إذن اكتملت البؤرة بعد التجربة الطويلة للشعب المغربي، على مستوى التحزب والانخراطات في القطاع النقابي، وتكرار العمليات الانتخابية لعدد كبير من الولايات التشريعية، دون طائل...وهذا ما جعل المجتمع المغربي يشعر بالخذلان، بعد خيبة أمل في العمل السياسي الذي لم يساير ويرضي التطلعات...إنه خذلان زاد حدة بعد تغيير أحزاب اليسار لمواقعها المألوفة، بميلها عشوائيا إلى التحالفات الهجينة، بغاية المشاركة في توزيع كعكة المصالح والامتيازات العامة، فيما بينها...فقد انقلبت، هي ونقاباتها، على نفسها وعلى مشروعها التقدمي، الذي كان مصطبغا بصبغة النضالية الطلائعية...ثم صارت هي أيضا، مثلها مثل الفرقاء معها، مرتع كل ذي طموح مصلحي وفرداني، فضاع سلبا مفهوم النضالية...مما أعدم الثقة في آليات القطاعات السياسية برمتها..وهكذا بدأت تتسع المناداة بالمقاطعة والرفض، بشكل أكبر، جراء خيبة أمال الجماهير. أجهزة الدولة والوعي الضائع: بالموازاة مع كل هذه العناصر، التي قربت ضرورة النهوض إلى المستوى المطلوب، تجدر الإشارة إلى أن بلد المغرب يتوفر على ساكنة كبيرة من فئة الشباب لأقل من 40 سنة، والتي تشكل أكثر من 35 بالمائة وفق إحصاء 2018 ..وهكذا، وبإثبات حسي وطني لدى الرأي العام في الواقع الملموس، وأيضا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الرقمي، وبما ليس فيه شك، أن هناك وعي واحد هو الذي بقي جامدا لم يتجدد، ولم يلتحق بالركب...إنه الدولة هي وأجهزتها.. فقد تخلفت وعدمت القدرة على تدبير أزماتها القطاعية والاجتماعية والشعبية..فتراكمت المآسي على الجميع..ومن ذلك تفشي الفساد بكل أنواعه، كما تفاقمت أفة الإهمال لشريحة الشباب النشيط، ذي الكفاءات التي تستنزف وتهدر بالهجرة إلى الدول المستقبلة لها..وبالطبع فإن سبب ذلك، هو عدم تخطيط الدولة للطاقات والقدرات المتوفرة لديها، وعدم تهييئ عوامل إنجاح مشاريعها بمسؤولية قاطعة ...ومن هنا أخذ الضياع يستفحل باستمرار ويضعف الإمكانات، إلى حد ألا أحد استطاع أو يستطيع التغلب على الإشكالات الشبه مزمنة...ولن تنتهي بتاتا مآسي البلاد، مادام لم يشرك الشعب في تسيير الشأن الاجتماعي والسياسي، مشاركة فعالة وبتمثيلية حقيقية، بعيدا عن كل ديمقراطية صورية...