غادرت الذّئاب عرائنَها مذعورةً، مسرعةً، مقرورةَ، وبرحتْ مخابئَها، وأسرعتْ مهرولةً نحو الغاب الكثيف البعيد بحثاً عن فريسة سهلة..إنّها تنظرُ إلى بعضها في قلق، وتوجّس، جَزِعةً، ملتاعة، خائفة. لقد أصبح الطّقسُ بارداً، وغدا أديمُ الثّرىَ مبلولاً، وأوراق الأشجار الصّفراء اليابسة تتطاير في الهواء، الواحدة تلو الأخرى، تتساقط بدون انقطاع من علياء أدواحها الشّاهقات، ومن أغصان أشجارها الباسقات.. إنه فَصْلُ الخَريف الشّاحب الكئيب، قد أقبل بخَرَفِه، وتَخارِيفه، ورياحِه، وعواصِفِه، وتوابِعِه، وزوابِعهِ، بغثائِه، وسيْلِه، وأتيِّهِ، وعَرَمْرمِه، وأعاصيرِه، وبَرْقِه، ورعْدِه، وبَرْدِه، وَبَرَدِه، وقرِّه، وصقيعِه، وزَمْهرِيره، وثلْجِه، ونُدَفِه..أوّلُه قيظٌ وشرر، وآخرُه شتاء ومَطر. ها قد انصرفَ فصلُ الصّيْف، مرّ كالضّيْف، كسحابةِ صيْف.. ! مَرَّ بِحَرِّه، وحَرَارتِه، وقَيْظِه....الذئابُ ما انفكّت تحدّق بإمعان في بعضها، نظراتُها حيرَى، عيونها تلمع في الظلام الدامس كأنها كشّافات ضوئية متلألئة، يعتريها ذهول وشدوه، ورعب جينيّ مُزمن متوارث.. ماذا جَرىَ..؟ ماذا جدّ واستجدّ في عِلْم الله يا ترى..؟. أمْعَنت ذئبةٌ النظرَ في عينيْ رفيق دَربها، وأنيس عُمرها في هذا الرُّبع الخالي المخيف، والقَفْر المُوحش الرّهيب. إنّه أكبرُ الذئاب سنّاً، وأخْبَرُها حكمةً، وأكْثَرُها مكراً، وأشدُّها دهاءً، وأفتكها خَطْباً، وأقواها جِسْماً، وأحدُّها أنياباً، وأثقبها نظراً، وأكثرها خِداعاً، وأفْصَحُها "عُوَاءً"... ! سألتِ الذئبةُ خليلَها..ما الخَطْبُ؟..ما الذي جرى؟..ماذا أراه..؟ ما هذه الأوراقُ الصُّفْر المتكاثرة، المتساقطة، المنثورة على أديم الثّرى التي أصبحتُ أراها وأجدها كزرابي مبثوثة في كلّ مكان من الغاب..؟ فيجيبها الذئبُ الحكيمُ على الفور: هذه الأوراق إنّما هي رسائلُ أو مراسيل تُنبِئنا بقرْب قدوم فصْل الشتاء القارص..حيث لا زادَ، ولا مؤونةَ، ولا ذرعَ ولا زرعَ، فعلينا إذن أن ندّخر قدرَ المُستطاع ما أمكننا من القُوت، والفُتات، والثريد، والقديد، إذ سيتعذّر أو سيصعب علينا الجَوَلاَن والصَّوَلاَن في ما بعد في الهزيع الأخير من الليالي الحالكات، وسيصْعُب علينا الخروج إلى المَراعي، والمُروج، والسّهول، والحقول، والجداول، والجدائل التي تكون خاليةً في هذا الفصْل الكئيب من الأغنام، والماعز، وتكون الإسطبلات والزروب التي تغصّ بالديكة والتيوس، والدواجن والطيور، مُحْكَمَةَ الأبواب ومُغْلقة المسالك والنوافذ، ومُوصَدةَ الشبابيك والمنافذ، مع تزايد هطول الأمطار، وتكاثر وتفاقم الأخطار...ثمّ سرعان ما عَوَى في جنح الليل البهيم، ثمّ أَقْعَى، فاهْتجتُ، ثمّ هِجْتُه...فَصَارَ كالبّرقِ يتبعه الرّعدُ..! هذه لمحةٌ، أو لقطة، أو لحظة، أو برهة، أو هنيهة، أو مَشْهد من حياة الذّئاب، أو الثعالب، ذات المخالب، والمقالب، والمثالب، التي يذكّرنا بها فَصْلاَ الخريف والشتاء المتقلّبين، الشَّاحبين، الحزينين، المكفهرّين. هذا المشهد لا يغيب قطّ ّعن حياة بعض البشر، ولا يعزُبُ عن تفكيرهم، ولا يغيب عن أمثالهم، وهو قائمٌ منتشر في حياتهم، ومعايشاتهم، وكامنٌ في سلوكهم، وتصرّفاتهم، ومعاملاتهم، وصراعاتهم، وشراستهم، وغَدرهم، ومَكرهم، وغيّهم، وخِداعهم. ألمْ يقلْ أحمد شوقي ذات يوم: بَرَزَ الثعلبُ يوماً ..في ثيابِ الواعظينَا .. يَمشى في الأرض يَهدى.. وَيَسُبّ المَاكرينَا .. ويقولُ الحمد لله.. إله العالمينَا .. يا عبادَ الله تُوبُوا.. فَهُوَ رَبُّ التّائبينَا .. إنّهم قالوا وَخَيْرُ الق.َ. وْلِ قولُ العارفينَا .. مُخْطِئٌ مَنْ ظَنَّ يَوْماً... أنَّ لِلثَّعْلبِ دِينَا..!. وحريّ، أو جدير، أو حقيق، أو قمين بنا نحن أن نقول اليوم معه، تبّاً لك زَمَنَنَا هذا (اللّعِينَا).. يا سَائلِاً لا تَعْجَلْ علينَا.. وَأَنْظِرْنَا نُخبِّرْكَ اليقينَا.. كَمْ مِنْ ذئبٍ أو ثعلبٍ..أضحى اليومَ يعيش بيننا، أو كامناً فينَا.. !!!. عالمنا الصّغير عالمنا المعاصر أصبح اليومَ عالماً صغيراً ومحدوداً، هذا ما يقوله ويؤكّده مثلُ إيطالي سائر، ويردّده مثلٌ إسباني دارج آخر تتداوله، وتتناقله، وتلوكه الألسنُ كلّ يوم. لقد أصبح العالم في حجم "منديل" الجيب الصّغير، ولكنّ مشاكله غدتْ مشاكلَ كبيرةً لا عدّ، ولا حدّ، ولا حصر لها . تُرى هل فتحتَ المذياعَ، أو رأيتَ المشوافَ، أو مررتَ بحسابات التواصل الاجتماعية يوماً، والتي أصبحت تملأ حياتنا في كلّ لحظة وحين، وَحَمَلتْ إليكَ هذه الوسائلُ جميعُها خبراً سارّاً يُفرحُ القلبَ، ويُثلج الصّدر..!؟. كلاّ.. لم يحدث ذلك إلاّ لماماً. كلّ الذي ينتهي إليك من الأخبار في الغالب إنّما هي ذات صلة بالفواجع الطبيعية، والحوادث المؤلمة، أو جرائم الإنسان، وويلات حروبه، وفتكه بأخيه الإنسان؛ ثم أخبار القتل والتقتيل، وأخبار المحاكم، والمظالم، والتعنّت والتنكيل، والحزازات، والمواجهات، والمناوشات، والمشاكسات، وتفاقم البِطالة، وتضخّم العَطَالة، وتواتر الزلازل، وتكاثر الفيضانات، أو الظلم والتظلّم، والقحط والجفاف، وتفشّي الأمراض الهالكة، والأوبئة القاتلة، وانتشار الجراثيم الفتّاكة التي أمستْ تنتشرُ بيننا انتشارَ النّار في الهشيم . ذلك هو حالُ عالمنا الكئيب اليوم، والحقيقة أنّ هذا العالم لم يَنْعَم قطّ بقسط من السّكينة والهدوء، بل إنّ ما يحدث هو من صميم الواقع الذي هو جزءٌ لا يتجزّأ منه، ولذا تصدق قولة أحد الفلاسفة القدامى القرطبي الحكيم "سِينِيكَا" الذي كان قد أعلن أنّ العالم لن يهدأ قطّ، وأنّ الحروبَ حتى إن هدأت، وَخَبَا أوارُها في بقعةٍ مّا من بقاع المعمور، فإنّها سرعان ما تثور، أو تثار، أو تندلع في بقع أخرى منه. هذه حقيقة لا ينكرها أحد، ولكنّ هل تساءلتَ يوما مّا عن سرّها؟ إنك تظلّ عاجزاً عن معرفة هذا السرّ الغامض الذي لا يستطيع أحد أن يدلي فيه برأي. وأمّا ما يحدث من الفواجع الطبيعية، والكوارث البيئية على اختلاف أشكالها وألوانها، فهو لا جَرَمَ من تدبير البشر نفسِه الذي تَمَادَى في غيَه بإلحاق الضّرَر والأذَى بأمّنا الكبرى الطبيعة وإتلافها، بعدم الكفّ عن تلويث البيئة، واقتلاع الأشجار، وتدمير الغابات، وبتر الأدغال، والذي ملأ الأجواء، والفضاءات بسخام، ويباب العوادم، وكبريات المصانع الضخمة. الإنسانُ هو المسؤول الأوّل كذلك عمّا ترتكبه وتقترفه يداه في العديد من ويلات الحروب، وجرائم التقتيل، والتنكيل والتمادي في التظلّم، والغيّ، والتجنيّات، والتطاولات، والتجاوزات، والاغتراب، والاستلاب، والهجرات التي لم تعد اختيارية طوعية، بل أضحت تتمّ قهراً، وقسراً، وعنوةً. ولعلّك سمِعتَ عن الأخبار التي تنبيك كلّ صباح ومساء عن التجارب المناورات الحربية التي غالباً ما تتمّ بالذخائر الحيّة التي تقوم بها دولٌ وبلدانٌ كبرى تصطفّ في صفوف ما يُسمّى العالم الأوّل المتحضّر، وحتّى لو تعالت أصوات الاحتجاجات، وارتفعت صْيحات الإدانات في مختلف أرجاء المعمور، فلا رادع، ولا قارع، ولا واعز يجعل تلك البلدانَ تتراجع، أو تتوقّف، أو تكفّ عن هذه التجارب المُرعبة الرّهيبة التي تصطكّ لها الأسنان، وترتعش بها الفرائص والرُّكبان، في كل مكان. كان ذلك كما يزعمون لحماية هذه البلدان "المتقدّمة والمتمدينة" من الأخطار الخارجيّة التي تهدّد أمنَها القومي..!! قد تفهمُ من هذه القولة السّخيفة معاني شتّى، ولكنك لن تستخلصَ منها سوى عجرفةَ الإنسان وغرورَه، وغطرستَه، ومروقَه، وتكبّره، وحُمقَه وجُنونَه كذلك، فحتى لو قُلِّمَتْ أظافرُه، فإنه لا يزال لصيقاً بحيوانيته الهجينة الدّفينة الأولى، يرتكبُ باسمها وبإيعازٍ منها أفظعَ الجرائم، وأفدحَها بأسلوب مهذّب، حسب شيخ الفلاسفة الإغريق سُقراط..! وكان الضّحكُ مِنّا سفاهةً! قالها رهين المُحبسين شيخُ المعرّة الذي حتىّ وإنْ كان آخرَ زمانه فقد أتى بما لمْ تأته الأوائلُ.. قال: تعبٌ كلّها الحياة فما أعجبُ إلاّ من راغب في ازدياد ...كم من أناس يعيشون غارقين في بحور الآلام، لا يستطيبون، ولا يستطعمون لذّةَ العيش ولا هناءةَ الحياة، وهم يَحيوْنَ اعتباطاً أو جُزافاً ..إنّهم يعملون، ويأكلون، ويتزاوجون، ويتناسلون، وتنزل السّياطُ على ظهورهم من كلّ صَوْب، سياط الطبيعة والإنسان معاً..! ليس لبعض الناس عزاء سوى الصّبر والسّلوان، ومرارة التحمّل ومضضه مهما عَظُمَ المُصاب. ألم يقولوا في القديم إنّ الصّبرَ مفتاح الفَرَج، وهو حيلةُ من لا حيلةَ له..!؟، وبعض النّاس صبروا على الصّبر، حتّى ضاق الصّبرُ من صبر صبرهم..! .وقديماً قيل كذلك: الصَّبر كالصِّبر مُرٌّ في مذاقِه.. ولكنّ عواقبَه أحلىَ من العَسَلِ..!. وهناك مَنْ يلوذ بالفرار إلى عوالم الفنون، والجنون، والألوان، والأشجان، والخلق، والإبداع، يُفرغون فيها ما تختزنه نفوسُهم من ضغوط، وما تضيق به صدورُهم من مَضَضِ العيش وغيظه، ونكده وغيّه، بعضهم يجد في ذلك ضرْباً من التسرْية والتسلّي، والعَزاء النفسي، أو التعويض الوهمي لمعاناتهم وأنّاتهم، وآهاتهم، ومصائرهم. وهناك نوعٌ آخر لا يقوى على تنفيذ الاختيار الأوّل، ولا الثاني فتراه يهرب بجلده فارّاً خارج الحياة المألوفة والمعروفة، أيّ بمعنى أوضح يبيع نفسه لشيطان الرّدَى، وضلال التّوَى رخيصة اختياراً وطواعيةً ورضىً حيناً..أو مسوقاً مُجْبراً ومجروراً إليها قهراً وقسراً رغم أنفه حيناً آخر..! وهناك من يَعْجِز عن القيام بما فعله هذا، أو ذاك، أو ذيّاك. أمثال هذا النّوع لا تلبث أن تراه ضائعاً تائهاً، مارقاً، مُجندلاً بين دهاليز الجنون، وبراثن الخَبَل النفسي، والخَلل العقلي. وتلك لَعَمْرِى من أقسى، وأعتى ضروب المعاناة والمآسي قاطبةً..وليس من قبيل الصّدفة والاعتباط أن يكون أبو العلاء نفسُه الذي جَنىَ عليه أبوه، وهو لمْ يَجْنِ على أحد، هو صاحب البيتين الشّهيرين كذلك : ضَحِكْنا وكان الضّحكُ مِنّا سفاهةً ** وحُقّ لأهلِ البسيطةِ أن يُبْكُوا.. تُحَطّمُنا الأيّامُ حتّى كأنّنا **زُجَاجٌ ولكنْ لا يُعادُ لهُ سَبْكُ. فَاوْسْتْ المَنْكُود الطّالِع أَلَم ْ تَرَ إلى قولِ "فَاوْسْتْ" المسكين المنكود الطّالع، الذي ينتمي إلى هذه الفئة الأخيرة: "لقد أجهدْتُ نفسي في دراسة الفلسفة، والطبّ، وتفقهْتُ في القانون، ولكنْ هيهات، وألممتُ أيضاً ويا للأسف بعلم اللاّهوت، ثمّ أراني أنا الأحمقُ المسكين، مازلتُ كما كنتُ من قبل، لم أزْدَدْ عقلاً"؛ ألمْ يدفع به كلّ ذلك إلى الإعلان أو الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة، ألا وهي عجزُه عن المعرفة والإدراك الحقيقيين، واستيعابِ حقيقةِ حياته، وكنهِ وجودِه، وجوهرِه، وعدم قدرتِه، أو قصورِه على مواجهة أو مجابهة ما يحدث في عالمه الشّاحب، الكئيب، المدلهمّ من اضطرابات من كلّ نوع..؟ حتى بلغَ به الأمرُ أن أبرم عقداً وباعَ نفسَه للشّيطان ..سَامَحَكَ اللهُ يا يُوهَانْ غُوته..!. المشكلة في الواقع إذن ليست مشكلةُ فاوست وحده، وإنما هي مشكلة كلّ إنسان. وتلك هي حال الدّنيا، وذلك هو حال صندوقها العجيب الذي تدفعه، وتتقاذفه الرّياحُ، وتلعب به التوابعُ، وتعبث به الزوابعُ وهبوبُ الأعاصير. ولا يجدُ الكثيرون من هؤلاء مفرّاً، ولا مناصاً، ولا مهرباً، ولا ملاذاً، ولا مخرجاً، ولا منفذاً سوى الرّضوخ للأمر الواقع، حُلوِه، ومُرِّه، وخَيرِه، وشَرِّه، وآمَالِه، وآلامِه، ونَعيمِه، وشَقائِه، وتَخوّفاتِه، وتَوجّساتِه، وهُدُوئِه، وقَلقِه..!. *كاتب، وباحث من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم.