تميزت العقود الثلاثة الأخيرة في المغرب بتنامي أدوار ومساهمات المجتمع المدني في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية؛ وفي هذا السياق، اضطلع الفاعل الجمعوي بدور نشط تارة من موقع الشريك، وتارة أخرى من موقع المرافع المدافع عن القضايا التي يشتغل عليها. وإذا كانت مجالات تدخل الفاعل الجمعوي قد اتسمت بالتنوع، وإذا كانت خلفياته الفكرية والمرجعية قد تميزت باختلاف وتضارب شديدين فإن اشتغال بعض مكونات الحقل الجمعوي على المسألة الأمازيغية قد نتج عنه -علاوة على ذلك- انقسام شديد في النظر لنشاط هذه الجمعيات وأهدافه؛ فرغم المشروعية الدستورية والقانونية لهكذا عمل جمعوي، فإن جدلية السياسي والثقافي وتداخلهما في المسألة الأمازيغية قد أثارا مواقف تتخوف من توظيف سياسي مغرض لقضية ثقافية ذات مشروعية في خدمة أجندة سياسية معينة؛ وهو ما من شأنه أن يثير التنازع حول مشروعيتها. قد يعد من نافلة القول، التأكيد على اجماع أنصار الحركة الأمازيغية على أن المسألة الأمازيغية بالمغرب لم تكن، في يوم من الأيام، مجرد مسألة ثقافية محضة، وأن وراء المطالب الثقافية واللغوية التي رفعتها الحركة الأمازيغية رؤى سياسية تسائل الدعائم الإيديولوجية والسياسية للدولة في المغرب. لكننا، في هذه السطور، معنيون أكثر من أي شيء آخر بالبحث في مشروعية النضال الثقافي للجمعيات الأمازيغية، وفيما قد تثيره المطالب التي ترفعها هذه الجمعيات من تحفظات. فكيف يؤسس دستور 29 يوليوز 2011 لمشروعية النضال الثقافي للجمعيات الأمازيغية؟ وكيف تلبست المطالب الثقافية بالطابع السياسي؟ وما هي أهم التحفظات المرتبطة بالتوظيف السياسي للقضية الأمازيغية؟ قبل الشروع في تلمس الإجابات عن هذه الأسئلة، وجب دفع التباس قد يثيره إطلاق وصف الأمازيغية على جزء من النسيج الجمعوي الوطني؛ فقد يوحي هذا الوصف للبعض أننا بصدد تصنيف مغرض لطائفة من الجمعيات على أساس عرقي أو عنصري يمهد السبيل لنزع الشرعية عنها استنادا للتشريعات الوطنية والمواثيق الدولية التي تجرم -أو على الأقل تستهجن- كل فعل نشاط جمعوي يقوم على أسس عنصرية أو يستهدف خدمة أجندة تمييزية. وفي هذا الصدد، نؤكد للقارئ الكريم أن هذا الأمر ليس موضوع نقاشنا، ولم يكن في يوم من الأيام غاية نسعى إليها، وسوف لن يكون في المستقبل؛ بل إننا نعتبر أن الحركة الثقافية الأمازيغية، رغم كل شيء، جزء من التدافع المجتمعي في مغرب يتلمس طريقه نحو الديمقراطية وتدعيم التعددية السياسية والثقافية. ومن هذا المنطلق، فإن استخدامنا لهذا التوصيف لا يكتسب أية دلالة تتجاوز الإحالة على القضية الأساسية التي تشكل محور نشاط واشتغال هذه الجمعيات. وعليه، فالمقصود بالجمعيات الأمازيغية -إذن- هو تلك التنظيمات الجمعوية التي تشتغل على قضايا اللغة والثقافة الأمازيغيتين. وإذا كانت هذه الجمعيات قد نشأت أول ما نشأت مستقلة عن الفاعل السياسي وفي سياق الدفاع عن مطالب ثقافية فإن مسار عدد منها قد عرف تحولا من الدفاع عما هو ثقافي إلى المطالبة بما هو سياسي. أولا: في مشروعية النضال الثقافي شكل تبني دستور جديد غداة الحراك الاجتماعي، الذي عرفه المغرب في ظل حركة 20 فبراير في غضون العام 2011، منعطفا ذا أهمية خاصة بالنسبة للقضية الأمازيغية بما تضمنه من اعتراف دستوري بالهوية واللغة الأمازيغيتين. ورغم تباين مواقف الجمعيات الأمازيغية تجاه المقتضيات الدستورية المتعلقة بهذه المسألة، فإننا نعتقد أن هذه الوثيقة قد وفرت-ولأول مرة- ما يكفي من المشروعية الدستورية والسياسية للنضال الثقافي للجمعيات الأمازيغية. وفي هذا الإطار، فقد تضمنت الوثيقة الدستورية ثلاثة مرتكزات أساسية تؤسس لهذه المشروعية وتدعمها. وهذه المرتكزات يمكن تقديمها على النحو التالي: اعتبار الشرعة الدولية لحقوق الانسان مرجعية عليا للدستور فيما يتعلق بالحقوق والحريات، والتأكيد على سمو هذه المواثيق والمعاهدات فوق التشريعات الوطنية، ووجوب تكييف وملائمة الأخيرة مع الأولى. وبما أن الحقوق الثقافية هي جزء من الشرعة الدولية لحقوق الإنسان فقد بات من واجب الدولة المغربية توفير الضمانات اللازمة لحماية النشاط الجمعوي المرتبط بالدفاع عن الحقوق الثقافية الأمازيغية باعتبارها جزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان. الإقرار الصريح بالتعددية الثقافية واللغوية والهوياتية؛ فإلى جانب اللغة العربية يعتبر الدستور اللغة الأمازيغية لغة رسمية يتعين على السلطات العمومية العمل على تفعيل طابعها الرسمي. وإلى جانب المكونين العربي الإسلامي والصحراوي الحساني يعد المكون الأمازيغي -دستوريا- ثالث أضلاع مثلث الهوية المغربية. وإذا كان هذا التنصيص لا يغير شيئا في طبيعة الهوية المغربية التي كانت دائما متعددة المكونات على مستوى القاعدة الاجتماعية، فإن أهميته السياسية والقانونية تتحدد فيما يوفره من حصانة دستورية لهذا التعدد عبر نزع المشروعية عن كل دعوة لإقصاء أي من هذه المكونات ولو كان لفائدة واحد منها. الإلزام الدستوري للسلطات العمومية بتوفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين ومشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ واقرار مبدأ الديمقراطية التشاركية، وحق الفاعل الجمعوي ومساهمته في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية. وتتجلى أهمية هذا الإقرار والإلزام فيما يفتحانه من آفاق أمام الفاعل الجمعوي الأمازيغي في نضاله الثقافي، وما يوفرانه له من ضمانات دستورية وغطاء سياسي لنشاطه. ويكفي أن نشير هنا إلى أن تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية وإقرار النصوص التنظيمية ذات الصلة يمكن أن تشكل قضايا نضالية للفاعل الجمعوي الأمازيغي. لا شك إذن أن المتن الدستوري يوفر نوعا من المشروعية للنضال الثقافي للجمعيات الأمازيغية من خلال الاعتراف بالتعدد الهوياتي واللغوي، وأنه في المقابل، قد استطاع تفنيد الأطروحة القائلة بعدم الاعتراف بالحقوق اللغوية والثقافية للأمازيغ. وانطلاقا من هذا التطور، يمكن القول إن هذا التعديل الدستوري قد استطاع أن يوفر ما يكفي من اعتراف يستدعي الانتقال بالمسألة الأمازيغية من قضية ثقافية ذات أبعاد سياسية إلى قضية ثقافية مرتبطة بالسياسات العمومية. لكن المتتبع للشأن الأمازيغي يجد نفسه أمام استنتاج عام مفاده أن الكثير من الجمعيات الأمازيغية لا تزال متمسكة بالمعالجة السياسية للقضية ولا يكتفي بأبعادها الثقافية؛ وبالتالي فهي أحرص ما تكون على مقاربة المسألة من منظور سياسي ينقلها من صيرورة ثقافية سقفها المطالبة بتفعيل الحقوق اللغوية والثقافية إلى مسار سياسي عنوانه الحكم الذاتي وحق الشعوب في تقرير المصير. وإذا كان التأصيل لهذا التحول يجري التأسيس له من داخل الشرعية الدولية والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب بحسب الفاعلين الأمازيغيين، فإن هناك أصواتا تنظر بعين الريبة لهذا التحول وتعتبره مؤشرا دالا على توظيف غير بريء من طرف هذه الجمعيات لمسألة ثقافية ذات مشروعية في خدمة أجندة سياسية ليست محل اجماع؛ وهو ما ينزع عنها الغطاء السياسي والأخلاقي. ففي أي سياق تحول الفعل الجمعوي الأمازيغي من الثقافي إلى السياسي؟ ثانيا: في سياق التحول من العمل الثقافي إلى المطالب السياسية عرف المغرب المستقل أول ظهور تنظيمي للفاعل الأمازيغي من خلال الجمعية المغربية للبحث والتبادل التي تأسست في أواخر ستينيات القرن الماضي. وإذا كانت العقود اللاحقة قد عرفت تكاثرا مطردا للجمعيات الأمازيغية، ورغم التوسع الملحوظ في نطاق تغطية الفاعل الجمعوي الأمازيغي على المستويين الجغرافي والتخصصي فإن مجمل نشاط ونضال هذه الجمعيات ظل مركزا حول مطالب ثقافية غايتها المنشودة هي التمكين للثقافة الأمازيغية باعتبارها ثقافة شعبية لفئات عريضة من المجتمع المغربي. وفي هذا السياق، كانت مطالب الجمعيات الأمازيغية تتحدد في: دسترة اللغة الأمازيغية كلغة وطنية رسمية، وإدماجها في التعليم وفي الحياة الإدارية، وإعادة الاعتبار للثقافة الأمازيغية عبر إحياء الموروث الثقافي الشعبي، ودعم نشر الانتاجات الأدبية وإقامة المهرجانات، ... وفي ظل تنامي الوعي بالقضية الأمازيغية لدى فئات من خريجي الجامعات، تزايدت قوة الجمعيات الأمازيغية وبالتالي ضغطها على السلطات السياسية، وهو ما دفع بالملك محمد السادس إلى الإعلان عن تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2001. وإذا كان عدد من المراقبين للشأن الأمازيغي قد اعتبر هذا الحدث إقرارا سياسيا بالقضية الأمازيغية، وانفتاحا رسميا من أعلى سلطة سياسية في اتجاه تحقيق المطالب الثقافية التي شكلت محور نضال الجمعيات الأمازيغية لعقود فإن هذا الحدث قد شكل عمليا منعطفا بارزا تحول معه نضال عدد من الجمعيات الأمازيغية من المطالبة بما هو ثقافي إلى تبني مطالب ذات طابع سياسي. فما هي ملابسات هذا التحول؟ وما أبرز المطالب السياسية للجمعيات الأمازيغية؟ لقد ساهم عاملان أساسيان في نشوء تيار جمعوي ينادي ويعمل على مقاربة المسألة الأمازيغية من زاوية سياسية؛ فمن جهة، اتسم مطلع تسعينيات القرن بتراجع نفوذ الإيديولوجية الاشتراكية في مقابل بروز الحركات الإسلامية كفاعل سياسي قوي ذات نفوذ اجتماعي وشعبي. وقد أدى هذا الواقع، في سياق الانفراج السياسي ورهانات النسق السياسي المحلي، وتزايد الاهتمام بالحقوق الثقافية عالميا، إلى تسييس وأدلجة المطالب بالحقوق الثقافية الأمازيغية. ومن جهة ثانية، كان انتشار الوعي بالقضية الأمازيغية في صفوف خريجي الجامعات، لاسيما منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، أهم عامل في تنامي نشاط الجمعيات الأمازيغية وفي تحولها نحو المقاربة السياسية ابتداء من ذلك التاريخ. فإذا كان اهتمام فئة مهمة من النشطاء الأمازيغيين من ذوي الخلفية الأكاديمية موجها في جوهره نحو إدماج اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية تماشيا مع طموحاتها العلمية والعملية فإن فئات أخرى كانت لها رؤى وتصورات مختلفة للقضية الأمازيغية. وهكذا، فقد كان إنشاء المعهد الملكي كافيا -كحدث على الأقل- لشق صف التنظيمات الأمازيغية وتقسيمها إلى تيارين: تيار متمسك بالطابع الثقافي للقضية الأمازيغية؛ وفي نظر هذا التيار، يعد إنشاء المعهد، وإدماج اللغة الأمازيغية في المناهج التربوية، ودسترتها فيما بعد، خطوات جريئة في طريق تحقيق المطالب الأمازيغية. أما التيار الثاني، فقد اعتبر الحدث محاولة التفافية من السلطة السياسية غايتها احتواء القضية الأمازيغية. وأمام هذا الواقع، نادى هذا التيار بضرورة العودة إلى معالجة القضية من أصلها السياسي انطلاقا من مقولة: إن المسألة الأمازيغية سياسية في جوهرها، وإن المطالب الثقافية للجمعيات الأمازيغية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال النضال السياسي. وهكذا تم تبني عدد من المطالب السياسية تعتبرها هذه الجمعيات متطلبات ضرورية للتمكين للمطالب الثقافية الأمازيغية. فما هي أهم هذه المطالب؟ لقد ظل الخلاف حول طبيعة المسألة الأمازيغية -كما أسلفنا- سمة ملازمة لنشاط الجمعيات الأمازيغية وخطابها منذ النشأة. وعليه، فإذا كانت المطالب ذات الطبيعة الثقافية ممثلة في ترسيم اللغة الأمازيغية، وإدماجها في المنظومة التربوية وفي الحياة العامة، وإعادة الاعتبار للموروث الثقافي والتاريخي الأمازيغي تحظى بنوع من الإجماع بين جل الجمعيات لا سيما من حيث أهميتها وضرورتها، فإن تداعيات ما بعد تشكيل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وما تلا ذلك من أحداث لا سيما حراك 20 فبراير والتعديل الدستوري قد أظهرا إلى العلن اصطفافا ثنائيا للجمعيات الأمازيغية من حيث المطالب والأولويات على الأقل. ففي ظل الاعتراف الدستوري بالمكون الأمازيغي للهوية المغربية، وترسيم اللغة الأمازيغية، وجهت مجموعة من الجمعيات الأمازيغية نشاطها في اتجاه الضغط من أجل تفعيل ديمقراطي للمقتضيات الدستورية الجديدة على أمل تعزيز المكاسب التي تحققت في الوثيقة الدستورية وتحصينها. وفي هذا السياق، تمثلت أبرز المطالب في الإسراع في تبني القانونين التنظيميين المتعلقين بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية وبالمجلس الاستشاري الأعلى اللغات والثقافة، وتكريس النهج التشاركي في إعدادهما. وفي مقابل هذه النشاط الترافعي الذي يؤسس لنفسه من داخل الإطار الدستوري، تولدت من رحم الفاعل الجمعوي الأمازيغي مطالب سياسية تتجاوز السقف الثقافي الحقوقي الذي شكل محور اشتغال الجمعيات الأمازيغية لعقود. ويأتي على رأس هذه المطالب الدعوة إلى إعادة النظر في هوية وفي طبيعة النظام السياسي؛ ففيما يتصل بالهوية السياسية للنظام يأتي تبني علمانية النظام السياسي على رأس المطالب؛ وبشأن طبيعته، تنادي هذه الجمعيات بإعادة النظر في مشروع الجهوية الموسعة بالشكل الذي يعتمد المعايير التاريخية والثقافية والتنموية عوض المقاربة الأمنية التي أفضت إلى تشتيت عدد من الوحدات الترابية المنسجمة، ويمنح الجهات حق التسيير الذاتي في إطار تقسيم عادل للثروة والسلطة؛ وفي هذا الإطار، فإن الخيار هو تبني النظام الفيدرالي. وإذا كان من أهداف مطلب إعادة النظر في شكل الدولة ترقية اللغة والثقافة الأمازيغيتين في المجالين الاجتماعي والسياسي، فإن هناك أهدافا أخرى لا تقل أهمية في خطاب جزء مهم من الجمعيات الأمازيغية؛ ويتعلق الأمر بتعزيز موقع الأمازيغ في دواليب الدولة ومراكز القرار السياسي والإداري. وهكذا، إذا كان الاعتراف الدستوري بالهوية واللغة الأمازيغيتين مقدمتين لترقية اللغة والثقافة فإن تعزيز الموقع السياسي والإداري للأمازيغ -حسب خطاب هذه الجمعيات دائما- يستدعي، موازاة مع إعادة كتابة التاريخ السياسي والاجتماعي للمغرب، الاعتراف بالشعب الأمازيغي أمة سياسية ذات تميز من جهة، وتبني الهوية الأمازيغية لشمال إفريقيا محددا أساسيا وحاسما لتحديد العمق الاستراتيجي للمغرب ورسم امتداده الإقليمي من جهة ثانية؛ ولا تنحصر مقتضيات هذا الاعتراف في العمل على ضمان انسجام الأبعاد المتعددة في تعريف الهوية الاجتماعية والسياسية وبالتالي في الاصطفاف الاستراتيجي للمغرب بل إن ذلك يقتضي إعادة النظر في هذا الاصطفاف الاستراتيجي في اتجاه مزيد من التحرر من مقتضيات الانتماءين العربي والإسلامي لصالح الانتماء الإفريقي والمشروع المستقبلي لما يسمى باتحاد أقطار تامازغا. ثالثا: تسييس القضية الأمازيغية وسؤال التوظيف لقد بات واضحا من خلال هذا الاستعراض أن القضية الأمازيغية في مقاربة طائفة من الجمعيات الأمازيغية هي في أصلها قضية ذات أساس سياسي. وإذا كنا نسلم أن الطابع الثقافي للمطالب الأمازيغية لا ينفي عن القضية ارتباطها بمجمل الإشكالات والأعطاب السياسية التي يعيشها المغرب، وبالتالي يتعين معالجتها في سياق معالجة شاملة للمنظومة السياسية على أسس توافقية، فإننا مع ذلك نعتقد أن مضمون المطالب السياسية التي تنادي بها طائفة من الجمعيات الأمازيغية تثير فعلا أسئلة وتحفظات بشأن التوظيف السياسي لهذه القضية بشكل يخرجها عن الاجماع حولها حتى في صفوف قطاع من الحركة الثقافية الأمازيغية. إن الحديث عن التحفظات بشأن تسييس القضية الأمازيغية هو في جزء منه مرتبط بالخطاب الذي تنتجه الجمعيات الأمازيغية ونشطاؤها في مقاربتهم لجملة من القضايا السياسية التي يعتقدون أنها ذات صلة مباشرة بقضيتهم. وفي مقدمة هذه التحفظات، تأتي مسألة المطالبة بعلمنة النظام السياسي كمدخل أساسي لإعادة الاعتبار للثقافة والهوية الأمازيغية. وينطلق دعاة هذا المطلب من مقولة الأبعاد المتعددة للهوية المغربية تارة، ومن الربط غير الواضح بين الإسلام كمكون ثقافي في اعتقادهم وتعريب بلاد تامازغا كما يسمونها تارة أخرى. وعلاوة على المغالطات التاريخية والاجتماعية التي يتضمنها هذا الطرح فإن الخطورة التي ينطوي عليها تتمثل أساسا في مسألتين: فمن جهة يساوي بين الإسلام وبقية الأبعاد المشكلة للهوية المغربية، ومن جهة ثانية فإنه يستهدف إقحام الإسلام في ساحة الصراع الثقافي بين المكونات في وقت كان الأجدر النظر إلى الإسلام باعتباره حلا لهذا الصراع ومحتويا له وليس طرفا فيه. وحيث إن التضاد بين الإسلام كإطار جامع والأمازيغية كمكون ثقافي انصهر تاريخيا مع بقية الأبعاد في بوتقة الإسلام هو تضاد مفتعل، ويناقض معطيات التاريخ الاجتماعي والسياسي للمغرب فإن التساؤل حول الأهداف السياسية التي تقف وراء هذا المطلب يبقى مشروعا؟ وإلى جانب التساؤل والتحفظات التي تثيرها المطالبة بإعادة النظر في هوية النظام السياسي، فإن مطلب الفيدرالية لا يقل إثارة للشكوك والجدل حول جدواه في تحقيق الأهداف المعلنة وبالتالي حول الأهداف السياسية الحقيقية التي قد يخفيها أنصار ودعاة هذا الطرح. فإذا كان بإمكان النظام الفيدرالي أن يحقق نوعا من التوزان في تقاسم السلطة بين المركز والجهات فهل هل سيحل فعلا مسألة التهميش والتفاوت في توزيع المنافع بين مناطق المغرب؟ وإذا كان الجمعيات التي ترافع عن هذا المطلب تؤكد على أمازيغية شمال إفريقيا كلها فكيف يمكن للنظام الفيدرالي أن يساهم في تعزيز النضال من أجل هذا المطلب دون أن يؤدي في المستقبل لتغذية الصراعات السياسية والإثنية بين الوحدات الصغرى المشكلة للأقاليم؟ ألا يمكن أن يؤدى هكذا نظام إلى مزيد من تفتيت الجهود وإحياء الانتماء القبلي في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لمزيد من التكتل والتوحد؟ ويتعلق ثالث التحفظات التي نسجلها بشأن المطالب السياسية للجمعيات الأمازيغية بالنزوع المتزايد لدى نشطاء هذه الجمعيات في اتجاه قطع جذور الأمازيغية لغة وحضارة عن العمق العربي والإسلامي للمغرب ودول شمال إفريقيا بدعوى تعزيز موقع الأمازيغ في العمق الإفريقي من جهة وبناء المشروع المستقبلي لما يسمى باتحاد أقطار تامازغا من جهة أخرى. وهذا النزوع، الذي نعتقد أن اعتماد حرف التيفيناغ في تدريس الأمازيغية والتأليف بها يشكل أحد خطواته وتجلياته، وعلاوة على كونه سيؤدي لا محالة إلى قطع صلة الأمازيغ مع خمسة عشر قرنا من تاريخهم المجيد، فإنه يتجاهل حقائق التاريخ ولا يمتلك القدرة الاقناعية على المستوى السياسي والمشروعية العلمية التي يمكن أن تبرره. وإذا أضفنا إلى كل هذا تنامي الخطاب الداعي لتدويل القضية الأمازيغية في صفوف الجمعيات الأمازيغية، والسعي الدؤوب نحو تمتين العلاقات بين هذه الجمعيات وأطراف خارجية تحت مظلات من قبيل مناهضة اللاسامية وتقرير المصير من جهة، وواقع توظيف النزاعات الإثنية والطائفية في الصراعات الدولية حول المنطقة من جهة ثانية، فإن التخوفات من وجود أهداف غير بريئة وراء هذا النزوع تستهدف بشكل أساسي وأد أي توجه نحو التعاون والتضامن بين شعوب المنطقة تبقى وجيهة ومشروعة، وتحتاج من الجمعيات التي تتبنى هذا التوجه تبديد التخوفات التي يثيرها. تبقى هذه التحفظات جزء من التساؤلات والمخاوف الكثيرة التي تثيرها طائفة من المطالب السياسية التي تنادي بها الجمعيات الأمازيغية. وإذا كان واقع القضية الأمازيغية هو نموذج ونتيجة في الوقت ذاته للإخفاقات التي وقع فيها بلدنا في تدبيره لقضاياه السياسية والثقافية على حد سواء فإننا نعتقد أن العجز عن التخلص من الإرث الاستعماري الذي يوظف هذه المسألة في تكريس تخلف وتبعية مستعمراته من جهة، وهيمنة المقاربة الأمنية المحضة على سلوك الأنظمة السياسية وحكومات ما بعد الاستقلال من جهة ثانية يعدان عاملا مسؤولان في هذا الواقع المتأزم. ومن هنا المنطلق، نعيد التأكيد على أن المسألة الأمازيغية هي قضية ثقافية وطنية ذات أبعاد سياسية، وأن الحركة الأمازيغية تبقى حركة ثقافية جاءت كرد فعل على وضع البعد الثقافي الأمازيغي في المشهد العمومي المغربي، ومن ثم فإذا كانت المطالب السياسية لجزء من هذه الحركة تثير جدلا سياسيا بشأن أهدافها ومشروعيتها فإن ذلك لا ينبغي أن يحجب عنا مشروعية جزء من مطالبها الثقافية. وفي الختام، نود أن نوضح أن إيماننا بالطبيعة السياسية للقضية الأمازيغية لا يعني التسليم التام والمبدئي بالمشروعية السياسية للمطالب السياسية التي تنادي بها الجمعيات الأمازيغية ولا بخلفياتها وأهدافها؛ وإنما هو تأكيد على ضرورة معالجتها –كباقي القضايا السياسية- ليس فقط في إطار دستوري وإنما في ظل تفاوض وطني تأسيسي يفضي إلى توافق سياسي حول إطار عام وشامل للعمل الوطني يضمن للشعب والوطن الحد المطلوب من الوحدة في عصر تجتاحه العولمة وتتحكم فيه التكتلات الاقتصادية والسياسية والمصالح الحيوية للقوى العظمى في المجتمع الدولي بعيدا عن أية مقاربة تجزيئية وتعزيزا للوحدة الوطنية للمناعة الداخلية للأمة وشعوبها. *باحث مهتم بقضايا العمل الجمعوي بالمغرب.