لا يكاد النقاش حول القضية الأمازيغية بالمغرب يخمد حتى يستعر أواره من جديدحيث لم يفلح الإقرار الدستوري بالطابع الرسمي للغة الأمازيغية وبالبعد الأمازيغي للهوية المغربية في انهاء الطابع السياسي للقضية. وقد ظل مشروع القانون التنظيمي رقم 26.16 المتعلق بمراحل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية مثار جدل، واعتبرتهمكونات من الحركة الأمازيغية محاولة للالتفاف على الهوية الأمازيغية للمجتمع والدولة بحسب تعبيرها. وكذلك حال بقية القوانين والسياسات المتصلة بالثقافة. ولا يقف النقاش في هذه القضية عند الجوانب المتعلقة بالكيفية المتبعة في تفعيل وتنزيل المقتضيات الدستورية بل تجاوزه إلى مستوى أكثر تعقيدا وإثارة للجدل في موضوعات من قبيل موقع اللغة العربية ومكانة الإسلام في المجتمع. وإذا كانت هذه المناقشات تستند لقراءة خاصة بها للتاريخ الحديث والمعاصر للمغرب فإن المؤكد أنها ليست موضع اجماع من طرف كل النسيج الأمازيغي الذي يعتبر جزء من ههذه الدعوات محاولة لخدمة أجندة خطيرة على تلاحم المجتمع المغربي. وتأتي هذه المقالة في إطار الجهود الرامية لترشيد الفعل الأمازيغي عبر إعادة تأطير المسألة الأمازيغية كقضية سياسية لا سبيل لحلها إلا عبر توافق سياسي في إطار الوحدة الوطنية. في الطابع السياسي للمسألة الأمازيغية: ينطلق عدد غير قليل من تيارات الحركة الأمازيغية في تعاطيهم مع القضية من فترة دخول الإسلام إلى المغرب. وإذا كان الغالب عندهم هو اعتبار لحظة “الفتح الإسلامي” غزوا فإن غرضهم من ذلك هو التأسيس لدعوى توظيف الغزاة للرمزية الروحية للإسلام في تعريب الثقافة المغربية. وإذا كنا لا نسلم بالأسس العلمية والتاريخية لهذه الدعوى فقد وجب التأكيد من جهتنا على أمرين اثنين: فمن الناحية التاريخية، يصعب ربط دخول الإسلام إلى المغرب بلحظة التوسع الأموي في ظل وجود شواهد تؤكد تعرف القبائل المغربية إلى الإسلام واعتناقها له قبل هذا التاريخ. ومن جهة ثانية، فإن تصرفات الفاتحين الأمويين، وعلى الرغم مما يمكن أن يسجل بشأنها من تحفظات، لا تنهض دليلا على دعوى توظيف هؤلاء الفاتحين للإسلام في اضطهاد المغاربة. ومما يدعم موقفنا هذاالجهد الدعوي لهؤلاء الفاتحين، واتساع دائرة القادة المغاربة الأمازيغ في جيش الفتح الإسلامي في اتجاه أوربا وإفريقيا وبطولاتهم التاريخية في هذا الشأن من جهة ثانية؛ وهوما يؤكد طبيعة علاقة المغاربة بالإسلامفضلا عن التزاوج الخلاق الذي حصل منذئذ بين الإسلام والأمازيغ والذي أنتج لنا حضارة الغرب الإسلامي الغنية بخصوصياتها ومميزاتها. تأسيسا على ما سبق، واستنادا للتاريخ السياسي والاجتماعي للمغرب منذ ذلك، يمكننا أن نخلص لحقيقة لا مراء فيها مفادها أن كل الحركات السياسية في هذه المساحة الجغرافية ظلت منذ تلك اللحظة التاريخية مصطبغة على الدوام بالمرجعية الإسلامية على اختلاف تأويلاتها لها. فكل الدول التي نشأت في تاريخ المغرب كانت تستند في دعم مشروعيتها على تأويل معين للإسلام وعلى تحكيمها له في تقويض مشروعية وأداء الدولة التي قبلها. وإذا كان من نقد يمكن أن يوجه لهذه الحركات السياسية، التي صارت في معظمها دولا، فهو اعتمادها على العصبية القبلية في التصفيات السياسية كاستناد الموحدين على العصبية المصمودية في تنحية المرابطين ذوي العصبية الصنهاجية على سبيل المثال.ومن هنا، يمكن التأكيد أن المغاربة الأمازيغ لم يكن لديهمعلى امتداد تاريخهم أي مشكل مع الإسلام باعتباره دينا على الإطلاق؛بل أكثر من ذلك ظل الإسلام موجها لكل التحولات السياسية والاجتماعية لبلاد المغرب وشمال افريقيا. فكيف نشأت المسألة الأمازيغية في المغرب؟ وكيف يمكن النظر إليها؟ ارتبط ميلاد النزعات القومية في العالم الإسلامي بنشوء الدولة الحديثة على أنقاض الاستعمار الأوربي. ولا تشد المسألة الأمازيغية عن ذلك،مثلها مثل القضية الكردية في منطقة الشرق الأوسط بتعبير جيوبوليتكا الهيمنة الغربية، ومثل النزاعات العرقية في أفريقيا والبلقان وغيرها من مناطق العالم. وبالعودة إلى المسألة الأمازيغية، فإن نشوء الدويلات القطرية إثر الجلاء العسكري للمستعمر وتبني الأنظمة التي استلمت زمام الأمور من المستعمرين للقومية العربية، كان الدافع الذي برر ميلاد النزعات المعادية للطابع العروبي لهذه الأنظمة. وإذا كنا لا نستبعد دور التخطيط الاستراتيجي للاستخبارات الامبريالية في هذا الواقع فلا يسعنا-في الوقت ذاته- غض الطرف عنالمسؤولية التاريخية والسياسية لهذه الأنظمة في تغذية هذه النزعات من خلال سياساتها غير المتبصرة والمتعسفة والمشبوهة. استنادا لهذه القراءة، فإن المسألة الأمازيغية في المغرب وشمال افريقيا هي في جوهرها قضية سياسية تتعلق بالتعاطي السياسي مع الحقوق الثقافية والسياسية لفئة عريضة من المغاربة الناطقين بالأمازيغية. وعندما نتحدث عن التعاطي السياسي فإننا نستدعي مسؤولية فاعلين أساسيين في القضية. فمن جهة أولى، وجبت مساءلة أداء وسياسة الدولة الوطنية لما بعد الاستقلال بنخبها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية؛ وهي دولة قامت على اتفاقيات سريةلا تزال تفاصيلها مجهولة حتى الآن. ومن جهة ثانية، فإن التعاطي السياسي للفاعل الأمازيغي مع المطالب الأمازيغية والحقوق الثقافية والسياسية للأمازيغ يحتاج إلى إعادة تقويم. وهو في هذه الحاجة يتساوى مع الدولة ونخبها. الثابت والمتحول في المسألة الأمازيغية: إذا ترسخ أن المسألة الأمازيغية هي -في جوهرها- قضية سياسية تتعلق بتعاطي الفاعلين فيهامع الحقوق الثقافية والسياسية “للهامش” المغربي الأمازيغي لسانا فقد أمكننا أن نخلص من ذلك إلى استنباط وتصنيف عناصرها من حيث ثباتها وقابليتها للتحول. فارتباطا بالعناصر الثابتة، نكون إزاء الانسان الأمازيغي والاستبداد السياسي وبشكل مختلف الثقافة الأمازيغية. وبالنسبة للمتحول منها فإننا نكون إزاء الفاعل الأمازيغي. وهذا التصنيف هو فرع عن تصورنا للطابع السياسي للقضية وغايته تقديمها وفق صورة تسمح باقتراح حلول سياسية ناجعة لها. ويستند تصنيفنا للاستبداد السياسي والانسان الأمازيغي ثابتين في المسألة على كونهما أساس المسألة وقوام وجودها واستمرارهاحيث إن الاستبداد السياسي، باعتباره منظومة سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية تتسم بالوحدة والكلية ولا تقبل المنافسة في أي من المجالات المرتبطة بتدبير المجتمع، يعتبر السبب في نشأة المسألة وتفاقمها وعامل استمرارها بينما يعد الانسان الأمازيغي موضوع المسألة وضحيتها الذي يكتوي بنارها. وحقيقة الاقصاء السياسي والاقتصادي للهامش المغربي الأمازيغي في ظل الاستبداد السياسي لا تحتاج لبيان .ومن هنا، لا نتيجة ترجى من أية محاولات لا تشتغل سياسيا على هذين العنصرين نقضا لدعائم أولهما وتمكينا لثانيهما. بعد الاستبداد السياسي باعتباره عنصرا منتجا، والانسان الأمازيغيباعتباره ضحية لإواليات اشتغاله، تأتي الثقافة الأمازيغية عنصرا ثالثا من عناصر القضية. ورغم كونها عنصرا ثابتا إلا أنه في ثباته مختلف عن سابقيه. فإذا كان التوظيف المكثف والانتقائي للعناصر الثقافية في الصراع يجعل منها ثابتا تعززه مركزية الثقافة في الوجود الاجتماعي فإن الثقافة الأمازيغية -وككل ثقافة إنسانية-تتسم بالتطور والتلاقح مع باقي الثقافات. ولا نبالغ إذا قلنا إننا نقف حاليا على أعتاب مرحلة انمحاء الحدودبين الثقافات في ظل كثافة عمليات التبادل الثقافي الجارية. وفي سياق هذا الثابت المتحول، وجب التنبيه لأمرين يتسمان بالخطورة في تحليل الفاعل الأمازيغي. فمن جهة، أدى اعتبار جزء من هذا الفاعل الأرض جزء من الثقافة إلىتحويل المسألة الأمازيغية إلى قضية تحرر وطني على أساس عرقي. وإذا كان من مقتضيات ذلك مساءلة شعارات مدنية وديمقراطية الحركة الأمازيغية فإن أخطر ما فيه هو صده الأبواب أمام أي حل سياسي لها علاوة على تخلفه عن أساسيات ومبادئ حقوق الإنسان وتعارضه مع مسلمات العلوم الانسانية فضلا عما يكتنف هذا التوجه من تهديد للنسيج المجتمعي وفتح الطريق للتوظيف الامبريالي. والأمر الثاني الذي ينبغي التنبيه إليهفي سياق هذا الثابتيتعلق بخطورة التوظيف والانتقاء الأيديولوجي لعناصر الثقافة الأمازيغية من خلال استدعاء وتمجيد عناصر منها دون غيرها. وأخطر ما في هذا التوظيف الانتقائي الذي يؤكد على الاستقلال المزعوم للثقافة الأمازيغية هو استناده على قراءة موجهة لتاريخ المغرب وشمال إفريقياتستبطن عداء تاريخيا للعربية من خلال تقديمها لغة عرقية وقومية وللإسلام عبر تقديمه في صورة أيديولوجية دينية عروبية مشرقية. في ختام رباعية عناصر مسألتنا،يأتي الفاعل الحركي الأمازيغي. وتتأسس مركزية هذا الفاعل-على تنوعه وتعدديته واختلاف مشاريعه وتوجهاته-على أهمية وظائفه السياسية في تعاطيه مع القضية حاليا ومستقبلا.فمن حيث كونه فاعلا سياسيا،ابتداء وانتهاء، لا يمكن تصور أي حل للمسألة دون انخراطه الفاعل في سيرورات بلورة التوافقات وتنزيل الحلول المتوافق عليها. ومن حيث هو كذلك أيضا فإن فعله وأداءه السياسي والاجتماعي تؤطرهما الخلفيات الإيديولوجية وتتنازعهما المصالح السياسية وتتحكم فيهما الارتباطات الوطنية والدولية. وإذا ترسخ ذلك فقد وجب نزع “القداسة الحقوقية” عن الخطاب الأمازيغي من خلال التعاطي مع المصالح والارتباطات السياسية والتوجهات الأيديولوجية لكل فصيل من فصائل الحركة الأمازيغية المتعددة في إطار سياسي يقوم على التوافق. نحو حل للقضية الأمازيغية من خلال مدخل التوافق السياسي: الآن وقد أوضحنا أن المسألة الأمازيغية هي مشكلة سياسية منشأها وجوهرها هو الإقصاء الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي مارسته وتمارسه منظومة الاستبداد على الهامش المغرب يالأمازيغي، وأن هذا الاقصاء الذي برز سياسيا مع نشأة الدولة الوطنية المستقلة قد تولدت عنه “مقاومة” سياسية توسلت الخطاب الحقوقي بشأن المطالب الثقافية والسياسية، وأن هذه المقاومة التي تجسدت في تكثلات سياسية وتنظيمات جمعوية تحكمها أجندة سياسية وتؤطر أداءهاخلفيات إيديولوجية ومصالح وارتباطات متشعبة وطنيا ودوليا، نمضي لنؤكد أن حل هذه المسألة هو حل سياسي ضرورة. ومدخل هذا الحل هو إعادة بناء النظام السياسي على أسس ديمقراطية باعتباره مقدمة لازمة -وضامنة في الوقت ذاته- لتجاوز إشكالات المغرب السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وإعادة البناء هاته لا يمكن أن تؤتي أكلها إلا بقدر دمجها لأربعة عناصر أساسية كما يلي: اعتبار القضية الأمازيغية مشكلة وطنية تتعلق بالتدبير السياسي للحقوق السياسية والثقافية وليس قضية قومية تتعلق بتقرير مصير الشعب الأمازيغي. وهذا الاعتبار هو الذي سيضمن التماس حل المسألة في إطار سياسي يعالج كل أعطاب المنظومة السياسية الوطنية؛ الانطلاق من المسؤولية المركزية للاستبداد السياسيباعتباره أصلالبلاء الذي تفرعت عنه كل الأعطاب والاختلالات؛ وبالتالي ينبغي أن تنصب كل الجهود على استئصاله وتقويض دعائمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ استحضار مركزية الدين الإسلامي باعتباره دينا للمجتمع المغربي لا ينبغي بل لايمكن المساس بمركزيته القيمية والدينية، كما لا يقبل الاحتكار والتوظيف السياسيين بما في ذلك من طرف الدولة، وباعتباره إطارا جامعا مستوعبا للتنوع الثقافي وللاختلاف السياسي وهوية حضارية تستوعب كل الروافد الثقافية للمغرب الأمازيغية والعربية والحسانية والإفريقية… التأكيد على الوظيفة والمسؤولية السياسية والاجتماعية للنظام السياسي في إرساء وحراسة العدالة الاجتماعية عبر توفير ما يكفي من الضمانات السياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية لتحقيق العدل في توزيع الثروة الوطنية والتوازن في توزيع السلطة أفقيا وعموديا. * باحث في القضية الأمازيغية والمجتمع المدني بالمغرب