لعل أهم أطروحة فكرية، كشف عنها الدخول البرلماني لهذه السنة، صورة التقطت لحشد من "نواب الأمة المحترمين"، وقد ارتموا بكل ما أوتوا من قوة، صوب أطباق حلوى ثابتة في مكانها، وأقداح المشروبات والعصائر. كأن الإخوة، غادروا للتو معتقلا، تحت أرضي، فعانوا حرمانا لا يضاهى. لقد ملؤوا، أولا بطونهم بشراهة، قبل أن يلجوا القبة الأسطورية، كي يغضوا في سباتهم الشتوي العميق. وأنا، أتأمل الأفواه المشرّعة. أول، تعقيب طاف بخاطري، عاد بي سريعا إلى مسرحية "العيال كبرت"، عندما يقول سعيد صالح، "كل يا بن إيه.. ! مطْرح ما يسْري يهري،مطْرح ما يسْري يهرش، مطْرح ما يمشي يمشي...". المفارقة، أن أول تلصص، يرصد جغرافية أجساد هؤلاء الشرهون، تبين سريعا وبغير فحص طبي، خريطة أمراض كثيرة تنخر دواخلهم مثل جلودهم. فدون استحضار، كذبهم ولا مبالاتهم، وضحكهم على ذقون شعب، لم يعد يثق بهم أبدا، اللهم إلا الذين على شاكلتهم من الهائمين خلف منظومة الحلويات، تبرز أمراض الهضم والسكري والضغط والكولسترول والقصور الكلوي... . مع كل ذلك، لا يفوتون أية فرصة من أجل غزو، القشدة والكاكاو والفانيليا. بمناسبة حكاية الحلوى، أستعيد هنا طفولة الزمن الجميل، لما كانت حياتنا المجتمعية بسيطة، لكنها، حبلى بالنبل والمرجعيات الإنسانية. كانت أمي، تحضر لنا، طبق حلوى، نتاج خليط من الدقيق والسكر والزيت. تقضي، عشية بأكملها، إلى جانب نساء جيراننا أو أقارب لنا ، وهم يدلكون ويمططون عجينا، نترقبه نحن الصغار بدهشة، وقد استخلصوا منه أقراصا في نفس الحجم، ستغدو لذيذة، بعد أن تتبنى نهائيا شكلها الطبيعي، تحت زفرات نار فرن حينا بالمدينة القديمة . نعود بها فرحين إلى البيت، ونتحلق حولها على رنين كؤوس الشاي، والبهجة تؤثث قلوبنا، طيبوبة وحنانا. أخذ مفهوم الحلوى، في الاتساع والانمساخ ثم التغول. وبقدر انتفاخ حمولته، ضعفت واندثرت في المقابل، المثل العليا ، واكتست العلاقة داخل المجتمع طابع الأنانية القاتلة. هكذا، صارت الحلوى، بنية متعددة الأطراف، بل مؤسسة مادية ورمزية، مداخلها ومخارجها، الاندحار والانحطاط. لم نعد، نتمثل غير حيثيات شعار : "حليّ، بش تعليّ..."، وشرعت قنوات "الحْلاوة"، تفعّل فعلها في أجهزة البلد، من أتفه ورقة إدارية إلى الاستوزار. فرجل الأعمال يفكر، في "الحْلاوة" التي سيقدمها ل "جهابذة" حكومة الظل، كي يدرجوا اسمه ضمن قوائم، المقبل من حكومات الواجهة. إذا ابتغيت شراء مسكن، يجدر بك قبل كل شيء بعثرة "الحْلاوة" يمينا وشمالا، أو ما يمرر تحت المائدة وبين كراسي المكاتب، وهكذا دواليك، إلى أن أضحت لوبيات العقار، قطعة حلوى ضخمة، بمذاق الحنضل، يشربون عليها أقداح الاستنزاف على ضربات قطع السكاكين. من أراد اجتياز مباراة، للالتحاق بوظيفة، يلزمه شرعا وقانونا وعرفا، أن يبحث عن الرأس المدبرة ، كي يمده بما لزم من "الحْلاوة". أثناء مواسم الانتخابات، يتفنون في ابتلاع ما تبقى من ذكاء المغاربة ، بكلام حلو ومعسول، كي يظفروا، بالدجاجة التي تلد ذهبا المسماة تجاوزا، برلمانا. المهم، أن الحلوى، التي كانت في الأصل رمزا للحبور والسرور وحسن النية ، وتعميق أواصر المحبة والتآلف، انقلبت إلى أسّ للتهاوي والسقوط والمكائد. فضاء الجامعة، لا يختلف في منحاه عن البرلمان، وقد صار وازع الحلوى، والتماهي في بسطها، سبيلا جوهريا للإيجاب والسلب، الاستحسان أو الرفض... . وإذا كان يفترض، بأن المنظور الذي ينبغي الانتصار له في الجامعة هو تنافس أهلها من أجل نحت المفاهيم وتركيب النظريات، وتجذير آفاق البحث والسؤال، فإن ربابنة منابر العلم عندنا، قد انتهى بهم للأسف، المسار الحضاري، عند التبرير "الحلواني"، وفقط عاشت قطع الحلوى. حينما تنتهي مثلا، من إنجاز بحث دكتوراه، وتريد أن تطرح مع المشرف، مكونات اللجنة العلمية، ومضامين التقرير، وكذا طبيعة النقاش الممكن، يلقي كل هذا جانبا، كي يفاجئك بالحرف الواحد : ((نريد منك أن تحمّر وجوهنا، بما لذ وطاب. حاولْ، ما استطعت من الحلويات والمأكولات والسوائل المثلجة والساخنة...))، بل قد يستغلها فرصة في طيات حديثة، كي يوجه لك شتيمة ذم بما يشبه المدح، ((إنك معقول بزاف، ولست عارفا دقيقا بفلسفة و ما وراء الحلوى...)) ، يعني في سنده أن تموضع لنفسك، بأي طريقة من الطرق، مكانا ضمن قافلة الانتهازيين والوصوليين، الذين يلهثون صباحا ومساء، بكل الطرق نحو مراعي الكلأ والعشب، بين جنبات هذه الصحراء. ويتحول مقياس الفطنة والنباهة، إلى استيعاب جيد لخاصية الليونة المميزة لهندسة الحلوى، ومن ثمة التدحرج والتزحلق والتسلق. إن نوعية الانطباع العام، الذي يخلفه مسارك الدراسي، يستند قطعا إلى مدى إشعاع زخم منجز الحلوى، الذي سيتردد صداه طويلا. مرة، استدعي أحد المدرسين، كي يقدم مداخلة في ندوة. صبيحة اليوم الموالي، أفصح لزميل له عن امتعاضه وتذمره من تعب الندوات، وصاحب فكرة الندوات، وضياع وقته هباء منثورا. السبب : طمع الرجل، في وليمة سمينة، بيد أنه لم يصادف شيئا، فخاب ظنه. وقال، بصوت غاضب : ((ميرد merde ! والو، ما كايْنْ حتى زلافة الحريرة)). حينما أدرك بعض الطلبة، أن استدراج المدرس لقضاء أغراضهم، يبدأ من جوفه أولا و أخيرا ، أخذوا يتنافسون بخصوص تهيئ جلسات للذواقة وفنون المعدة. في السياق دائما، نظمت إحدى كليات الحقوق، يوما دراسيا، تناول الأبعاد الحقوقية والاقتصادية والسياسية لمقترح الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية. لما انتهى المتدخلون من عروضهم، أعلن رئيس الجلسة عن فتح المجال للأسئلة و النقاش. لم يهتم أحد. خيم، صمت محرج، استدرك صاحبنا الأمر، فدعا الحاضرين إلى حفل شاي. أسرع الحشد، هيمن الهرج والمرج، وفي طرفة عين، وقع إجهاز على الأطباق بأسلوب القصف الجوي. كم هو ، مؤلم مشهد ! أن يختزل الكائن هويته بهذه الوضاعة، إلى محض مثيرات بيولوجية. ثم، تتميز الحصيلة برعب أكبر، حينما ينمي الأمر، دعاة حقيقة الانتماء إلى فئة، موكول لها أمر توليد المعاني لشعبها. [email protected]