يوم 19 شتنبر الجاري جرى إطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بغلاف مالي بلغ 18 مليار درهم، بعد أن صُرف على مرحلتيْها الأولى والثانية أكثر من 30 مليار درهم. لكنّ ترتيب المغرب في مؤشر التنمية للأمم المتحدة لازال متخلفا، إذ تقبع المملكة في الرتبة 123 من بين 180 دولة. في هذا الحوار يسلط عبد العزيز الرماني، الخبير في الاقتصادي الاجتماعي، الضوء على إنجازات وإخفاقات ونواقص المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أطلقها الملك محمد السادس سنة 2005، ويُعوّل عليها أنْ تحارب الفقر الذي تتخبط فيه شرائح واسعة من مواطني المملكة. وهذا نصّ الحوار... أكثر من 30 مليار درهم أنفقت على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لكنّ المملكة لازالت متخلفة على مستوى التنمية. بماذا تفسّر هذه المفارقة؟. حين نتحدث عن حصيلة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية منذ إطلاقها سنة 2005 إلى الآن، ونرى حجم المشاريع المنجزة، فإنّ الحصيلة تظهر لنا بوضوح؛ فقد تجاوز عدد المشاريع المنجزة 40 ألف مشروع، وتجاوز عدد المستفيدين 10 ملاين مستفيد، وجرى بناء المئات من المدارس والمراكز الصحية...فضلا عن دعم آلاف الجمعيات والتعاونيات، وهذه حصيلة مهمّة. قد يقول البعض إنّ هذه المشاريع صُرفت عليها ملايير الدراهم، ومع ذلك لم يتحسن ترتيب المغرب في مؤشر التنمية كثيرا؛ وهنا أريد أن أقول إنه يجب أن نفهم أنَّ هذه المؤشرات ليست سِباقا رياضيا نحقق فيه النتائج في الحين، ثم إن المغرب قبْل أن تأتي المبادرة كان في الرتبة 130، والآن رَبح 7 درجات، وهذا ليس سهلا، في ظل التنافس الحاد بين الدول في مجال التنمية. المغرب يحتل اليوم الرتبة 123 في مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، ولكن السؤال هو كم أنفق من الملايير لبلوغ هذه الرتبة؟ ما صُرف على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في مرحلتيْها السابقتين هو أكثر من 34 مليار درهم، وهناك برامج قطاعية أخرى صرفت عليها الملايير.. (مقاطعا) هل أفهم من كلامك أنه يجب صرف ملايير إضافية لتحسين وضعية المغرب في مؤشر التنمية؟. الحجم المالي ليس هو الأهم في هذه اللحظة، بل الأهم هو التنظيم، والحكامة، والانسجام، وعدم التبذير، ومحاربة الفساد، والتخطيط المُحكم والحكامة التشاركية.. بمعنى أن هذه الشروط كلها غير متوفرة في هذا الورش المجتمعي؟. لا أقول هذا؛ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أحيطت بأنظمة جيدة جدا للتتبُّع والمراقبة، ولكنْ لستُ هنا لأقوم بتجميل كل شيء، هناك أخطاء ارتُكبت في المرحلة الأولى والثانية من المبادرة، ولكنها لا يمكن أن تخفي ما حققته من إنجازات وما حققته من حكامة على المستوى المحلي والوطني؛ لكن لا يمكن القول إنها ناجحة مائة في المائة، ولا كلها فاشلة مائة في المائة. المبادرة الوطنية للتنمية البشرية حققت كثيرا من الأهداف، وخانتها العديد من الهفوات؛ وهذا أمر متوقع؛ فما دامت المبادرة يشرف عليها العنصر البشري فمن الطبيعي أن تكون هناك أخطاء. ولكن حينما نصل إلى تحقيق نسبة تفوق نسبة 80 في المائة من الأهداف المسطّرة نقول إن هذا هو المطلوب. ما طبيعة الأخطاء التي شابت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؟ هي أخطاء كثيرة جدا، وكان بالإمكان تفاديها. لحُسن الحظ أن النجاحات كانت أكبر، وغطّت على الأخطاء. ولكن ما يعاب على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هو أنها اهتمت بالمشاريع الكبرى ولم تهتم بالمشاريع الصغرى، في حين أنها هامة جدا إذا كانت مستدامة. الذين كانوا يجتمعون في اللجان لدراسة الملفات لا يتمتعون كلهم بالكفاءة اللازمة. وإقصاء الخبراء من تنفيذ وتقييم البرامج كان له أثر سيء على نجاح المشاريع. حين تُبنى مؤسسات وفضاءات وملاعب بملايين الدراهم، وتظل فارغة على عروشها، لا يستفيد منها أحد، علينا أن نتساءل هل دراسة الجدوى كانت سليمة؟ من العيب أن تدشن المشاريع من طرف الملك، ولا تؤدي الغرض الذي وجدت من أجله؛ وهناك مشاريع كثيرة على هذا الشكل. ثانيا، يجب أن نتساءل هل هناك تتبع بَعدي للمشاريع المنجزة؟ لا يعقل أن تنجز المشاريع وتترك بين أيادي مُهمِلة، فهل هذه هي الحكامة؟. دراسة الجدوى وضمان الديمومة الاستمرارية والمراقبة القبلية والآنية والبَعدية، والضرب على أيدي المفسدين، وبعض المسؤولين في بعض الإدارات الترابية والمصالح الاجتماعية الذين جعلوا من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ومشاريعها ذات الأهداف النبيلة مَطية للاغتناء. هناك من يقول إن السلطة تستغل أموال المبادرة لشراء ولاء الجمعيات؟. أنا أشرتُ قبل قليل إلى ما هو أخطر من هذا؛ برأيي، الذي أفشل بعض برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والتي أسميها المسيرة الخضراء الثانية، هو ضعف الالتقائية، وبعض الثغرات في الحكامة المالية، والزبونية التي ميزت مَنْح المشاريع للجمعيات. حين نتحدث عن الزبونية فهنا أتساءل هل هذه هي الحكامة التي ننشدها؟ وهل هذا هو التطبيق السليم للتعليمات الملكية السامية؟. إذا أردنا أن نسير إلى الأمام، سواء في هذه المبادرة أو في غيرها من البرامج الموازية، لا بد من محاربة هذه السلوكات السيئة؛ لأنه لا إصلاح بدون صلاح.. "اللي ما صالحْش وما لايْقش" لا يمكن أن يدفع بالتنمية إلى الأمام. لماذا اعتبر المغرب متخلفا عن دول مقارَنة، مثل ليبيا والعراق؟. هناك تفسير اجتماعي ومهني. أذهب في الشق الثاني فأقول إنني كمواطن مغربي لست راضيا عن الوضع الاجتماعي. وضْع التعليم والصحة وغيرها من القطاعات الاجتماعية الهامة ليس على ما يرام، سواء في القطاع العام أو الخاص، وهذا راجع في جزء كبير منه إلى العنصر البشري، الذي هو مِحور التنمية، "اللي فيه شوية د الغش". ويجب مراجعة هذا الجانب. بالنسبة للمؤشرات العلمية يجب الأخذ بعين الاعتبار أنّ المغرب حسّن ترتيبه بسبع درجات، وهذا ليس سهلا، وحتى لو ظل في الرتبة 130 ولم يتقهقر إلى الوراء فسيكون ذلك إيجابيا، لأن التنافسية كبيرة جدا، والدول المنافسة تتوفر على إمكانيات مالية هائلة. ثانيا لا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك جهودا تنموية كبيرة، وهذا تشهد عليه الأوراش الكبرى التي تشهدها مختلف جهات المملكة، ولكنّ هذا لا يعني أن كل شيء على ما يرام؛ فحين نتحدث، مثلا، عن قرب تشغيل القطارات فائقة السرعة، ونرى وضع باقي وسائل النقل العمومي، نجد أن المغرب يسير بسرعتين معكوستين، وهنا مَكمن المشكل. ثم هناك مسألة المحاسبة والحكامة. هل تعتقد أنه إذا لم ينجح المغرب في محاربة الفساد ستكون هناك تنمية؟ هذا مستحيل، لا أتحدث هنا فقط عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بل عن جميع مرافق الدولة. لا بد من الحكامة. إذا لم يكن الشخص المناسب في المكان المناسب فلن نبلغ الأهداف المطلوبة. هناك أيضا مسؤولية الأحزاب والنقابات التي ماتت، ولم يعد لها وجود. وكما تعلم فإن الوزراء الذين يسيّرون الشأن العام يأتون من الأحزاب، وإذ ننظر إلى سيَر عدد منهم نجدها فارغة. باختصار، ما تقييمك لحصيلة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؟ المشاريع الكبرى المنجزة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هامة جدا، ومفيدة للتنمية، وقد ربحنا الاستقرار الاجتماعي، وهذا مهم جدا. أشيرا هنا إلى أن تقرير الخارجية الأمريكية اعتبر أن المغرب ينعم بالاستقرار ويُشِيع الأمن في محيطه الإفريقي والأوروبي، وهذا مَكسب مهم جدا، ووسام على صدر المغاربة، لكن هذا لا يعني أن الصورة وردية. هناك مشاكل كثيرة تجب معالجتها، كما يجب تفادي الأخطاء التي شابت المرحلتين الأولى والثانية من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. ما الحل للخروج من وضعية "التخلف" التي يعيشها المغرب على مستوى التنمية البشرية؟. أقول لك إن الأمل موجود. وأنا أعتز بالقرارات المتخذة في حق عدد من المسؤولين على خلفية الاختلالات التي عرفتها بعض المشاريع، مثل مشروع "الحسيمة منارة المتوسط". ثمة ضرورة لانخراط الجميع في ورش التنمية، وبدون مزايدات. إذا نحن أصلحنا الأحزاب المغربية، وجدَّدنا النخب، واستعنّا بالعناصر الكفأة والنزيهة والمؤهلة لتسيير الشأن العام، وساهم المواطنون في هذا الورش باختيار الشخص المناسب في الانتخابات، وعالجنا الحكامة السياسية والتدبيرية والتخطيطية، فكُن على يقين أن المشروع التنموي سيعرف طفرة هائلة. ثانيا، يجب إصلاح نظام الصفقات العمومية، لتشجيع التنافسية. إذا لم يتم إصلاح هذا النظام فلن تكون هناك أي تنمية، ولو جرّبنا ألف مبادرة وطنية للتنمية البشرية. نظام الصفقات العمومية يضع عراقيل لا تُحصى أمام المستثمرين. وأنا أسمّي هذا النظام "نظام الألعاب البهلوانية". أيضا لا بد من إصلاح النظام الضريبي، حتى يكون نظاما مغريا ومحفزا للمقاولين، لامتصاص النسبة الهائلة من البطالة في صفوف الشباب، والتي تصل إلى 42 في المائة. ولا بد كذلك من إصلاح القضاء، والإدارة، والتي ظل إصلاحها منذ الخطاب الذي ألقاه الملك الراحل الحسن الثاني عام 1967 مجالا للتجارب حسب أهواء الوزراء والأحزاب، دون أن يتحقق الإصلاح المنشود. ثمة أيضا مسألة في غاية الأهمية، لا يمكن أن تتحقق أي تنمية بدونها، وهي الضرب على أيدي المفسدين بجرأة. الجميع يعرف أن الفساد ينخر البلاد، وتجب مواجهته بجرأة وبصرامة، وهذا ما سيعطي نفَسا للسير إلى الأمام.