قرار واشنطن يوم العاشر من سبتمبر الجاري بإغلاق مقر منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، بالرغم من دلالته السياسية الخطيرة ومجيئه في سياق جهود أمريكية لتصفية القضية الفلسطينية، إلا أنه لا يخرج عن سياق سيرورة متواصلة منذ سنوات لإزاحة منظمة التحرير الفلسطينية كعنوان لمرحلة التحرر الوطني عن المشهد السياسي، ليس فقط على يد القوى المعادية للشعب الفلسطيني، بل من طرف الفلسطينيين أنفسهم. وهذا ما رصدناه من خلال إفشال محاولات استنهاض المنظمة لتستوعب الكل الفلسطيني، ومن خلال اعترافات الدول بحق الفلسطينيين في دولة؛ فهذا الاعتراف هو على حساب اعترافها بمنظمة التحرير وعلى حساب مكانتها، وحتى المفاوضات والحوارات، سواء حول المصالحة الوطنية أو التسوية السياسية مع الاحتلال، وقد تداخل الموضوعان في الحوارات الأخيرة في القاهرة، تجري بين الفصائل الفلسطينية منفردة، وخصوصا حركتي فتح وحماس، أو بين بعضها والأطراف الخارجية، مع غياب منظمة التحرير الفلسطينية؛ إذ كان من المفترض أن الذي يفاوض حركة حماس فريق يمثل منظمة التحرير، وليس فريق مفاوض فتحاوي. بلا شك، يجب إدانة قرار واشنطن الأخير بخصوص منظمة التحرير وكل قراراتها وسياساتها تجاه الشعب الفلسطيني، كما نؤكد على تحميل إسرائيل المسؤولية عن الاحتلال وعن الانقسام وفشل جهود المصالحة... الخ، ولكن لا يمكن تحميلهما المسؤولية عن فشل جهود إعادة بناء واستنهاض منظمة التحرير لتستوعب الكل الفلسطيني؛ الأمر الذي يطرح تساؤلات: هل توجد إرادة فلسطينية، وخصوصا من حركتي فتح وحماس، أو تواطؤ غير معلن منهما على تغييب منظمة التحرير عن المشهد السياسي كل طرف لحساباته الخاصة؟ لا ينتابنا وهم بأن إسرائيل والولايات المتحدة لا تريدان إحياء منظمة التحرير كعنوان لحالة التحرر الوطني الفلسطيني، بل ما زالتا تتعاملان معها كحركة إرهابية، ولكن الضربة الأشد إيلاما لمنظمة التحرير هي التي تأتي من داخل المنظومة السياسية الفلسطينية؛ بحيث يمكن القول إنها أصيبت بنيران صديقة، وهو الوصف المُبدع للكاتب أكرم عطا الله عندما تحدث عما أصاب المشروع الوطني. ما آل إليه حال المنظمة يستدعي الرجوع قليلا إلى الوراء مستحضرين تأسيس المنظمة ومنطلقاتها الأولى. قبل أربعة وخمسين عاما تأسست منظمة التحرير الفلسطينية لتجسد آمال الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة؛ حيث جاء في المادة 26 من الميثاق الوطني: "منظمة التحرير الفلسطينية الممثلة لقوى الثورة الفلسطينية مسؤولة عن حركة الشعب العربي الفلسطيني في نضاله من أجل استرداد وطنه وتحريره والعودة إليه وممارسة حق تقرير مصيره، في جميع مجالات الميادين العسكرية والسياسية والمالية، وسائر ما تتطلبه قضية فلسطين على الصعيدين العربي والدولي". وفي عام 1974 كان الاعتراف بها ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني في مؤتمر القمة في الرباط، مما قطع الطريق على أية جهة عربية تسعى إلى تمثيل الشعب الفلسطيني. ومنذ ذلك التاريخ والعالم يتعامل مع المنظمة كعنوان للشعب الفلسطيني، والفلسطينيون يتعاملون معها كممثل وحيد لهم. كانت شرعية المنظمة وتمثيلها للشعب تستند على/وتستمد من المرتكزات التالية: استيعابها لكل القوى السياسية القائمة آنذاك بالرغم من اختلافاتها السياسية والأيديولوجية. ممارستها للنضال بكل أشكاله ضد إسرائيل. تجسيدها للهوية الوطنية الجامعة. شخصية الرئيس أبو عمار الكارزمية والتوافقية والشعبية. وجود حركة فتح كأكبر فصيل عسكري وسياسي بدون منازع على رأسها آنذاك. الاعتراف العربي والدولي بها. هذه الشرعية والمكانة للمنظمة أصابها عوار بنيوي ووظيفي بسبب ما واجهت من تحديات خارجية، وبسبب أخطاء داخلية يمكن تلخيصها كما يلي: الموقف الإسرائيلي الرافض للمنظمة، وهو رفض تجسد في ممارسات إرهابية ضدها عبر العالم ومحاربتها في المنظمات الدولية. الموقف الأمريكي المعادي للمنظمة منذ إنشائها ووضعها على قوائم الإرهاب، وأخيرا إغلاق مكتبها في واشنطن. تحفظ بعض الدول العربية في التعامل مع المنظمة، بل ودخول بعضها–الأردن ولبنان-في مواجهات مسلحة معها، ومحاصرتها في بعض المراحل، كما جرى بعد اتهامها بتأييد العراق عند غزوه للكويت 1990 ثم أثناء محاصرة أبو عمار في رام الله 2002. توقيع اتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية وما رافق ذلك من اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، وما ترتب على قيام السلطة من التزامات أمنية بينها وبين إسرائيل. الالتباس حول ميثاق المنظمة بعد دورة المجلس الوطني في قطاع غزة 1996 وما جرى من شطب وتعديل لبعض مواد الميثاق. خلال مرحلة أوسلو صعدت إلى مراكز القرار نخبة سياسية واقتصادية من الليبراليين الجدد والكومبرادور وذوي الارتباطات الخارجية تسلقت مواقع قيادية وعملت على تهميش المنظمة، وبدا الأمر وكأن السلطة وهذه الطبقة السياسية الدخيلة على العمل الوطني تمارسان انقلابا هادئا على المنظمة وما تمثله من ثوابت وطنية وتعبر عنه من إجماع وطني. تقدم عملية المفاوضات والحراك الدولي لتجسيد خيار حل الدولتين ساعدا على تهميش منظمة التحرير وإبقائها في حالة انتظار حيث الانشغالات بالسلطة والدولة غطت على الانشغال بالمنظمة، بل إن هذه الأخيرة فقدت استقلاليتها المالية وأصبحت تعتاش على ما تجود به السلطة عليها من أموال. ظهور أحزاب سياسية من خارج منظمة التحرير تنازعها الشرعية، وخصوصا حركة حماس التي ظهرت بداية كبديل عن المنظمة ثم فسرت نجاحها في الانتخابات التي جرت في 25 يناير 2006 لانتخاب أعضاء للمجلس التشريعي لسلطة الحكم الذاتي وكأنه تفويض شعبي لها لتمثيل الشعب الفلسطيني. عدم جدية حركتي فتح وحماس في استنهاض منظمة التحرير كحركة تحرر وطني لكل الشعب الفلسطيني. حركة فتح حسمت أمرها بخيار الدولة من خلال العمل السياسي والمفاوضات، وحركة حماس ما زالت تعتبر نفسها مشروعا إسلاميا، كما يبدو أنها حسمت أمرها بدويلة أو كيان منفصل في قطاع غزة عن طريق المفاوضات والوساطات، وخصوصا بعد وصول المقاومة أو الجهاد الحربي إلى طريق مسدود. وصول التسوية إلى طريق مسدود وسياسة ترامب الواضحة في عدائها وتنكرها لكل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني واتخاذه خطوات عملية في هذا الشأن تمس مدينة القدس وحق العودة وحل الدولتين وأخيرا إغلاق مقر المنظمة، وما وصل إليه الحال الفلسطيني من انقسام وحصار وفقر في قطاع غزة، يقابله تكثيف الاستيطان والتهويد في الضفة... الخ، كل ذلك كان وما زال يتطلب تجديد شرعية المنظمة ولا شك، ولكن ليس من خلال الرفض اللفظي؛ فهذا الأمر لن يغير من الواقع شيئا وقد تتفوق فيه الفصائل الأخرى على منظمة التحرير، وليس من خلال تغيير بعض أعضاء المجلس الوطني ومؤسستي المركزي والتنفيذية، بل من خلال إعادة بناء وتفعيل المنظمة باستيعاب القوى غير المنضوية فيها، وإن تعثر ذلك الآن يجب اتخاذ قرارات واضحة ومُلزمة التنفيذ بالتحرر من قيود اتفاقية أوسلو واستنهاض الحالة الوطنية ومواجهة حقيقية مع الاحتلال على الأرض، وكان الرهان أن تكون الدورة الثالثة والعشرون للمجلس الوطني نقطة انطلاق هذا التحول الاستراتيجي، إلا أن الأمور سارت في اتجاه معاكس. في ظل سلطة مأزومة ومجلس تشريعي فئوي ومقاومة في غزة خرجت عن سياق التحرر الوطني، فإن الأمر يتطلب سرعة عقد دورة توحيدية للمجلس الوطني وإجراء انتخابات شاملة، وخصوصا أن صفقة القرن تستهدف الكل الفلسطيني. وإذا لم يتم الاتفاق على دورة توحيدية، فإن الخشية أن تتم تصفية منظمة التحرير كعنوان للكل الفلسطيني وأن تنزلق الأمور إلى أن يتحول المجلس المركزي إلى كيان سياسي يحل محل المجلس الوطني ومنظمة التحرير كمرجعية للسلطة الفلسطينية في الضفة فقط يقابله مجلس تشريعي كمرجعية لسلطة حماس في غزة. وهذا ما سنتطرق له في مقال قادم.