خلفت بداخلي زيارتي لجنوب إسبانيا خلال شهر غشت الجاري شعورا بالحسرة والألم والغضب ممزوجة بالرضى والاشتياق لمعاودة هذه الزيارة الممتعة في أقرب فرصة متاحة، وهي مشاعر متضادة ومتعاكسة نابعة من الغيرة على توفير البلد الجار لكل المستلزمات التي تضمن راحة وكرامة السائح، في أجواء من الهدوء والنظام، شعاره التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات، ويخلف ذلك انطباعا بالرضى والإعجاب والاحترام لما تخصصه الجارة من فنادق وإقامات ومراكز تجارية ضخمة وطرق ومراحيض وشواطىء نظيفة ومجهزة وفضاءات للأطفال وبرامج للتنشيط، وما تحظى به المآثر والمعالم و المواقع والقصبات التاريخية والمتاحف من اهتمام وتنظيم كبير، و من انضباط الزائرين الذين يقفون في طوابير طويلة لساعات طوال باحترام أدوارهم. انطلقت الرحلة من النقطة الحدودية لميناء طنجة المتوسط بخبر غير سار، حيث تفاجئنا بأن جواز سفر ابن أخي نزار الذي يبلغ من العمر تسع سنوات، والذي يحمل فيزا شينغن، ملغى دون باقي جوازات أفراد أسرته المرافقين في الرحلة، ودون سابق إنذار، ما أثار الاستغراب، وخلف صدمة قوية لهذا الطفل الذي وجب عليه العودة من حيث أتى، وعكر صفو العطلة لكل أفراد العائلة، ترى كيف ألغي هذا الجواز؟ ومن ألغاه؟ ولماذا؟و لماذا لم يتم الإخبار بذلك من طرف الجهات المختصة؟ الجواب على السؤال ألزم أسرتين قررتا السفر معا إلى الجارة الشمالية إلى البقاء تحت أشعة الشمس المحرقة ذات يوم 11 غشت الذي يصادف عيد ميلادي الخمسين، من الساعة العاشرة صباحا حتى السابعة مساءا ، لولا إغاثة محمودة من مؤسسة محمد الخامس للتضامن المتواجدة بعين المكان، والتي وفرت لنا قنينات الماء، وتبنت المشكلة، وفتح طاقمها اتصالات مع خلية بالرباط، عملت على حل المشكل بتصحيح الوضعية القانونية لجواز سفر الطفل نزار، ولم يكن ليتسنى ذلك لولا تدخل هذه المؤسسة مشكورة على الخط.. تصادف الأسبوع الممتد من 11 إلى 19 غشت بالاحتفالات السنوية لمدينة مالقة، المخلدة لتحرير مدينتهم من أيدي المسلمين. ألاف الشباب ينخرطون في الأنشطة المتنوعة، ويحتفلون بشرب ماء الحياة، لكنني لم أسجل عربدة أحدهم أو اشتباك بالأيدي، أو تخريب للممتلكات، أو الاعتداء على الغير. الطريق السيار بين مالقة وقرطبة وغرناطة مريحة وغير مؤدى عنها وتتخللها مناظر خلابة، والدخول إلى الجامع الأموي بقرطبة مجانا بالنسبة للأطفال، وقد سهرت الجهات المعنية على الحفاظ على كل معالم الحضارات التي تعاقبت على المكان وإبرازها. وزيارة المسجد تخلق الشعور لدى الزائر بهيبة هذا الصرح الديني الذي تركه المسلمون، وتجعله يجلس منفردا ويطيل في البكاء والألم والحسرة وهو يحاول تفكيك الآيات القرآنية الجدارية المثبتة في العمارة والنقش، والزخرفة، ويتأمل طريقة البناء الوحيد الذي ثبت أنه يسقط في الزلزال العظيم الذي ضرب إسبانيا في القرن الثامن عشر، حتى سماه أهل قرطبة بالمسجد الحي. تستمر الرحلة إلى غرناطة آخر معاقل الإسلام بالأندلس، إذ يتفاجىء الزائر بعدد الزوار الذين يعدون بالآلاف لزيارة قصر العنبرة، حيث تدر مداخيل زيارته الملايين على السياحة الإسبانية. وقد شاءت الأقدار أن تحمل غرناطة راية الإسلام لأكثر من قرنين من الزمان، وأن تقيم حضارة زاهية وحياة ثقافية رائعة، حتى انقض عليها الملكان المسيحيان "فرديناند الخامس" و"إيزابيلا"، وحاصراها بقواتهما حصارا شديدا، وأتلفا الزروع المحيطة بالمدينة، وقطعا أي اتصال لها بالخارج، ومنعا أي مدد يمكن أن يأتي لنجدتها من المغرب الأقصى حتى تستسلم المدينة، ويسقط آخر معقل للإسلام في الأندلس. ولم يكتف عبدالله الصغير بتسليم مفاتيح غرناطة للمسيحيين، وخروجه من القصر باكيا على ملك لم يحافظ عليه ، بل ساهم في ثراء الاقتصاد الإسباني بعد قرون من سقوط آخر معاقل الفردوس المفقود، وأًضحى قصر العنبرة اليوم من أكثر المعالم التاريخية زيارة في العالم. إن تزايد السياح المغاربة على قضاء العطلة بالجارة الشمالية يرتبط أساسا بانخفاض كلفة الإقامة مقارنة مع بلادنا، وتنوع الفضاءات السياحية، وتوفر البنيات التحتية و الأنشطة الترفيهية لمختلف الأعمار، مما يدفع القيميين على السياحة ببلادنا لدق ناقوس الخطر، والقيام بإعادة النظر في المنتوج السياحي الذي يوفرونه، علما أن جمال طبيعة بلادنا لا يضاهى.