يرى بعض المحللين المتابعين للشأن السياسي وما تعرفه المنطقة من تحولات جذرية، قلبت المعادلات السياسية رأسا على عقب، بعد ما أصبحت للشعوب كلمتها النهائية في إعادة ترتيب الأوضاع، أن مراهنة بعض القوى الإسلامية وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية المغربي على التغيير من داخل المربع الذي ترسم حدوده الجهات النافذة داخل الدولة، وتحرك خيوطه من وراء ستار قوى خفية حبكت اللعبة، بعدما تمرّست على ضبط إيقاعها منذ ما لا يقل عن خمسة عقود، رهان فاشل لا يمكن إلا أن يؤخر جني مكتسبات الربيع الديمقراطي، أو يساهم في زرع اليأس لدى قطاع عريض من أبناء هذا الوطن الذين وضعوا ثقتهم في الفاعل الإسلامي. ونحن في هذه المقالة المتواضعة نهدف لبيان جملة من المكاسب التي تتحقق من وراء المشاركة السياسية لحزب العدالة والتنمية في جميع الاستحقاقات بما فيها القادمة، وضرورة حضور الفاعل الإسلامي الترتيبات الخاصة بالتحضير لتلك الاستحقاقات، وليس الهدف بالطبع جرد حصيلة الحزب من الأسئلة الشفوية أو الكتابية من داخل قبة البرلمان، فهذا في متناول المتتبعين في منشورات الحزب أو في موقعه الإلكتروني. مكاسب المشاركة السياسية راجحة على المقاطعة من بين هذه المكاسب فضح عدم حيادية الإدارة، فلو أن حزب العدالة والتنمية أعلن مقاطعته لانتخابات 25 نونبر، ولن يعدم مبررا لذلك، لرفعت الإدارة يدها عن اللعبة برمّتها،ولسهرت على تمريرها في أجواء سليمة، ولاستقدمت مراقبين دوليين من الخارج والداخل يشهدون على نزاهة الانتخابات في ظل الدستور الجديد! ولا يهم إذ داك من يتصدر المرتبة الأولى من باقي الأحزاب،ولا من يكون رئيس الحكومة المقبل،فالذي يزعج الآن هو حزب العدالة والتنمية لأنه حزب غير متحكم فيه بسبب اعتماده آليات ديمقراطية في اختيار مسؤوليه وممثليه، بل حتى في فرز قراراته الحاسمة. وإذا مرّت الانتخابات نزيهة في ظل مقاطعة الحزب لها، فسيشهد العالم على نجاح المغرب في تحقيق تحول سلس إيجابي بغض النظر عن تدني نسبة المشاركة وإصلاح توافقي بين كافة الفرقاء، دون إراقة دماء كالذي حدث في دول مجاورة،وسينعت الحزب على أنه حزب ظلامي شمولي لم يفهم الإشارات التي أطلقها الملك من خلال خطاباته المتكررة عن الدخول لعهد جديد في ظل الدستور الجديد، وأنه يعمل على تأجيج الشارع وإحداث أزمة من شأنها أن تدخل البلاد في نفق مظلم. ومن بين هذه المكاسب إحراج العديد من الأحزاب التي رهنت قراراتها السياسية بأجندة الدولة والحزب الأغلبي، وانخرطت في اصطفافات هجينة، الغاية منها محاصرة العدالة والتنمية، ولو أعلن الحزب مقاطعة الانتخابات المقبلة لانفرط عقدها ولانفكت عراها، لأن الخلافات بينها عميقة، إن على المستوى الإيديولوجي أو السياسي. ومن بين أهمّ مكاسب المشاركة السياسية للفاعل الإسلامي في المحطات الانتخابية، تطوير خطابه بما يناسب اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم، وهي لحظة مفصلية في تاريخ الأمة، والحملات الانتخابية فرصة نادرة للتواصل مع فئات الشعب والتعبير عن مشاركتهم همومهم وإيجاد الحلول لمشاكلهم، خصوصا الشباب الذي يختزل طاقة هائلة للتغيير، فمعلوم أن حزب العدالة والتنمية انتقل من خطاب يغلب على مفرداته الطابع الأخلاقي، إلى خطاب سياسي يعكس برنامجا اقتصاديا بإجراءات واضحة وأرقام علمية كاشفة، ويكفي لهذا الصدد المقارنة بين برنامجه الانتخابي الحالي وبرنامجه في نهاية القرن الماضي، ولو أعلن الحزب نيته مقاطعة الانتخابات لما توفر لأطره وكوادره محفزات البحث المضني لوضع برنامج يرقى للنهوض بحاجيات البلاد ويستجيب لإكراهات التقلبات الاقتصادية والتحولات الاجتماعية السريعة التي يعرفها عالمنا منذ دخوله في الأزمة الاقتصادية. ومن بين هذه المكاسب إغراء التيار السلفي بجدوى الانخراط في العمل السياسي، والمراهنة على التغيير والإصلاح من خلال الطرق السلمية التي تتيحها الآليات الديمقراطية، وتشكيل قوة اقتراحية تلتقي في أهدافها مع باقي مكونات الصف الإسلامي، بعيدا عن الأحكام الجاهزة التي تصنف الخيارات السياسية بين الإيمان والكفر، أو بين الحق والضلال، بدل الصواب والخطأ، ومازلنا نتابع التحولات العميقة التي يشهدها هذا التيار مع بروز الربيع الديمقراطي، على مستوى الممارسة السياسية، وهو الذي ظل يعاني من عدة اختلالات فكرية ومنهجية في التعامل مع التيار الإسلامي المشارك في العملية السياسية من المدخل الديمقراطي. إن الحد الأدنى الذي يمكن أن يحققه السلفيون من انخراطهم في العملية السياسية أن يعاد فتح مقراتهم التي تمّ إغلاقها بالعشرات لأسباب واهية، وقد رأينا كيف أن الإدارة قامت فعلا بفتح بعض تلك المقرات مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية بعد أن رأت تقاربا بين السلفيين وحزب العدالة والتنمية، ولا يستبعد أن يكون ذلك بشروط، أو من خلال مقايضة سياسية، يمكن للسلفيين جني ثمارها إن هم أحسنوا إدارة الصراع مع جميع الأطراف. ومن بين ما تحققه المشاركة في الاستحقاقات المقبلة إعطاء الإدارة آخر فرصة في ظل الربيع الديمقراطي للقيام بنقد ذاتي، وإتاحة الفرصة للشعب ليقول كلمته ويختار كما فعل نظيره في تونس الشقيقة من يقوده بجانب الملك إلى مصاف الدول المزدهرة، لأن إقصاء الأحزاب ذات الفعالية والمبادرة والقوة الشعبية، وتقريب الأحزاب الضعيفة القابلة لمنطق التعليمات، لا يخدم مصلحة البلاد، ويعطي إشارة سيئة للمواطن المغربي الذي يرى أشقاءه في تونس وليبيا ومصر قد تحرروا من قبضة الديكتاتورية والحزب الوحيد، وانطلقوا بعيدا في بناء مستقبلهم بأيديهم، بينما لا زال هو في بداية مرحلة الحزب الأغلبي يشكل الاستثناء، لكن هذه المرّة الاستثناء السلبي وليس الإيجابي الذي كان ينعت به من ذي قبل. إن حزب العدالة والتنمية حريص على استقرار البلد، وهو يدرك أن هذا الاستقرار رهين بالتجاوب مع مطالب المغاربة التي رفعوها في شعارات ومسيرات 20 فبراير، لهذا ثمّن خطاب 9 مارس وساهم بفعالية في إنجاح ورش الإصلاح الدستوري، فلما تبين له أن هناك تلكؤا من طرف الإدارة في تنزيل مقتضيات الدستور لتواكبه إصلاحات سياسية، أخذ على عاتقه فضح الممارسات العتيقة التي تؤطرها أفكار ما زالت تعشش في ذهنيات بعض المستفيدين من فائض السلطة، وتنتمي إلى عصر ما قبل "البوعزيزية"، كما أكد أمينه العام في أكثر من مناسبة أن الحزب لن يسكت إذا تبت لديه أي تلاعب بنتائج الانتخابات، وسيقوم بواجبه في تأطير المواطنين للتصدي لكل من يسعى لتزوير إرادته. حزب العدالة والتنمية مطالب أيضا بإرسال إشارات تطمئن الخارج، خصوصا فرنسا التي مازالت ترفع " الفيتو" في وجه مشاركة الإسلاميين في الحكم بشمال إفريقيا! ربما تعتقد فرنسا أن الإسلاميين بصعودهم لمراكز القرار سيولون وجوههم قبل الشركات التركية بدل الشركات الفرنسية التي تشغل آلاف المغاربة وتجني أرباحا ضخمة جراء تمتيعها بحق الامتياز! ويبدو أنها غير مطمئنة لما يجري هذه الأيام في الضفة الجنوبية المحادية لأوروبا، سواء في ليبيا أو في تونس، فهل ستسمح لهؤلاء الإسلاميين بلعب دور ما في حكومة ما بعد الدستور الجديد للمملكة الذي يمنح صلاحيات واسعة لرئيسها؟! تجارب مشاركة الإسلاميين في الانتخابات إن حزب النهضة التونسي لم يقاطع يوما الانتخابات، بل كانت النتائج التي حصدها في أواخر الثمانينات السبب المباشر في حله وتشريد أطره ومناضليه بين المعتقلات والمنافي، وبعد عقدين من الزمان يعود أقوى مما كان عليه، ليحصد قريبا من نصف مقاعد المجلس التأسيسي، في حين ظن خصومه أن جيل الشباب التونسي الذي نشأ في رعاية الحداثة المزيفة وإرهاب الدولة البوليسية لا يعرف حزب النهضة ولا يمكن أن يصوت لصالحها. كذلك الإخوان المسلمون في مصر شاركوا في الانتخابات إلى آخر رمق، فلما جاءت نتائجهم في آخر انتخابات في عهد حسني مبارك المخلوع مخيبة للآمال، إذ انتقلوا من 88 مقعد سنة 2005 إلى مقعد واحد سنة 2010! كانت النقطة التي أفاضت الكأس، حيث تحرك الشعب المصري بقيادة الإخوان ليسكت مهزلة تزوير إرادته إلى الأبد، وأسقط الطاغية، وتم الاعتراف بأحزاب تابعة للإسلاميين. أما في الجزائر فقد كان الاكتساح الذي حققته جبهة الإنقاذ الإسلامية بقيادة عباسي مدني في مطلع التسعينات، وكادت أن تقلب موازين القوى في المنطقة، السبب المباشر في سقوط الشاذلي بنجديد، وتولي الجيش الذي يقوده جنرلات فرنسا المهمّة القذرة التي ذهب ضحيتها 200000 ألف جزائري و 20000 مفقود بحسب إحصائيات رسمية. وفي فلسطين لما نجحت حركة حماس بقيادة الشهيد أحمد ياسين سنة 2006 في انتزاع معظم مقاعد المجلس التشريعي، وشكلت حكومة بقيادة المجاهد أبو العبد أحمد هنية، ثارت ثائرة العالم "الحر"، وفرض حصار قاسيا على الشعب الفلسطيني في غزة، وشنت إسرائيل حربا لا أخلاقية على شعب أعزل من أجل إسقاط الحكومة الملتحية. نذكّر بهذه الحقائق لنؤكد أن خيار المشاركة من أجل التداول السلمي على السلطة ليس الطريق الأسهل، ولا يكون دائما سالكا كما يظن البعض، فضلا عن أن يكون الهدف منه تنافس بليد على المناصب كما يزعم من يحيد عن الموضوعية. *عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية