مثلما كان القدر المشؤوم للآلهة يشكل المحرك الأول لمسرحيات الشاعر الإغريقي الكبير إيسخيليوس، حيث رأينا هذا القدر يؤدي بالملك أوديب في تراجيدية (أوديب ملكا) إلى سمل عينيه انتقاما من نفسه على قتله والده وعلى زواجه من أمه، ويؤدي في تراجيدية (سبعة ضد طيبة) بالبطلين ايتيوكليس وبولينيس ابني أوديب إلى تصارعهما إالى قتل أحدهما الآخر، ثم رأيناه كذلك في تراجيدية (أنتيجون) يدفع بابنة الملك أوديب إلى الانتحار شنقا، بعدما حكم عليها خالها الملك كريون بأن تدفن حية، عقابا لها على مخالفة أوامره... أقول مثلما كان القدر أساس تراجيديات ايسخيليوس، نجد أن حدث غرق مجتمع "أوسان صميدنين" في الظلام، بسبب غروب الشمس في وسط النهار واستمرار غيابها لمدة طويلة، كان هو المحرك الأساسي لتراجيديات مسرحية "أوسان صميدنين"، الصادرة سنة 1983 في كتاب من الحجم المتوسط والتي يمكن اعتبارها خماسية تتألف من خمس تراجيديات تشخص في أربعة فصول مختلف المآسي التي عاشها هذا المجتمع نتيجة غياب الأنوار فيه، حيث نشاهد هذا الظلام في تراجيدية "أسافو وتوف إيتري" يؤدي بهذين العاشقين اللذين يجمعهما حب كبير إلى فراقهما وإلى ابتعاد أحدهما عن الآخر، فكانا طول المسرحية يصارعان وسط هذا الظلام للبحث عن بعضهما، كما حدث لآدم وحواء بعد خروجهما من الجنة، ونشاهده في تراجيدية "الأم تيليلا" يؤدي إلى فراق هذه الأم الحنون عن طفلها الوحيد "إيدر"، الذي ضاع منها وسط عاصفة هوجاء ضربت البلاد، فأصيبت من جراء ذلك بالجنون، حين تبين لها بعد هدوء العاصفة عدم قدرتها - بسبب الظلام - تمييز ابنها المفقود من بين كل الأطفال الذين صادفتهم في بحثها عنه، فدفعها هذا الجنون إلى احتضان طفل في سن ابنها ووضعته في حجرها، ثم أخذت تهدهده في حنان وهي تترنم له بأغنية أطفال حزينة، معتقدة أنه ولدها الحقيقي، ثم نشاهد هذا الظلام كذلك في تراجيدية "أزروال وايزوار" يدفع بهذين الأخوين إلى تصارعهما وإلى قتل أحدهما الآخر، فيكتشف القاتل على ضوء وميض البرق اللامع أن المقتول كان أخاه الشقيق الأصغر الذي يكن له حبا لا نهائيا، فيرتمي على جثته محتضنا إياها وهو ينوح من فرط الحزن والندم. ففي غمرة ذهول الناس من مشهد هذا القاتل وهو يمشي بينهم حاملا لجثة اخيه المقتول، ينطق "ايسن" معبرا عما يجيش في النفوس من مشاعر القنوط من كثرة المصائب الحالة بالمجتمع، قائلا: سترون أيها الناس الكثير من مثل هذا المشهد، سنقتل إخواننا وأقاربنا بأيدينا كما فعل هذا الرجل، قتل الإخوان والأحبة لن يعود عارا أو عملا مشينا في هذه البلاد.. أتعرفون، أيها الناس، لماذا قتل أخاه؟، قتله لأنه لم يكن موجودا بالنسبة إليه أثناء العراك، لقد كان أمامه حينذاك رجل غريب لم يشعر بارتباطه معه بأية علاقة. إن ما شاهدناه اليوم لدليل على أن للإنسان وجودين: وجود شكلي ظاهر، وآخر معنوي غير ظاهر؛ الوجود الأول ندركه بالنظر وبالحواس الأخرى، أما الثاني فللأسف الشديد ليس من السهل إدراكه، لكونه رهين بإدراك العلاقات التي تربط بين الناس، فحين نعلم ما يجمع بين هذا وذاك، وبين ذاك وهذا، وبين هؤلاء وأولئك، ندرك حينئذ هذا الذي أعني به الوجود المعنوي. إن غياب هذا الوجود المعنوي للأخ المقتول هو السبب في سقوطه صريعا بأيدي أخيه. فواجع جد غريبة أيها الناس أخدنا نراها يوما بعد يوم. أتتصورون الأم لم تعد تعرف ابنها، والأخ يقتل أخاه بيده وأمام الملأ، والعواصف حصدت منا الكثير، والبرد القارس سكن أجسامنا، إنه أمام كل المصائب الحالة بنا، لم يعد في مقدورنا التكهن بما سيلحقنا منها استقبالا. من خلال مشاهدة هذه التراجيديات الثلاث الأولى، ندرك من جهة قوة الظلام العاتية المستبدة بالمجتمع، التي لم تكتف بنشرها فيه شرور البرد والجوع والجهل والفوضى والتخلف والشلل التام فحسب؛ بل قامت فوق ذلك بمساسها بقيمه الثابتة المتمثلة في قيمة الحب الطاهر، التي يجسدها العاشقين "أسافو وتوف ايتري"، وفي قيمة الأمومة التي تشخصها الأم "تيليلا"، ثم في قيمة الأخوة التي يجسدها الأخوان "أزروال وايزوار"، كما أننا من جهة أخرى نرى سقوط الإنسان ضعيفا مهزوما وهو يصارع بمفرده هذه القوة الجبارة. وهكذا، فبعدما يلاحظ الناس سقوط أبطال التراجيديات السابقة أمام جبروت قوة الظلام، يدركون عدم جدوى المواجهات الفردية المعزولة في مقاومة هذه القوة، حينذاك ينتقلون في التراجيدية الرابعة إلى مواجهتها بشكل جماعي. فهذه التراجيدية الرابعة، التي تعتبر لب مسرحية "أوسان صميدنين"، تصور المجتمع بكامله بطلا تراجيديا يخوض برمته صراعا مريرا من أجل الخروج من الظلام إلى النور، أو بالأحرى يخوض صراعا وجوديا للهروب من الموت إلى الحياة. ويمكن القول إن هذه التراجيدية، بتشخيصها للمجتمع في كليته كبطل تراجيدي يصارع قوة الظلام، تجعل من نفسها نصا دراميا فريدا ومتميزا، يخالف جل الإبداعات المسرحية المعروفة التي تجسد البطل التراجيدي عادة في شخصية واحدة، أو في أفراد معدودين. وقبل التطرق لأحداث هذه المأساة، تجدر الإشارة كذلك إلى أن ما يضفي صفة الفرادة والتميز على هذا النص المسرحي هو كونه يشكل القنطرة الأولى التي مكنت اللغة الأمازيغية من الانتقال عبرها من الشعر إلى النثر، على اعتبار أن هذه اللغة ظلت لآلاف السنين محبوسة في ضفة الشعر إلى أن ظهر في العصر الحديث هذا النص ليعبر بها إلى ضفة النثر. وهذا النص المسرحي إن كان يستلهم التراث الأسطوري الإنساني القديم، لدوران أحداثه في زمن الديانات الوثنية الأولى التي كانت تمارس طقوس تقديم القرابين لآلهتها، فلم يكن غرضه من ذلك الرغبة في إحياء هذا التراث، بل فقط توظيفه للتعبير من خلاله عن الأفكار التي تهم المجتمع الحالي في عصره الراهن. تروي وقائع هذه التراجيدية قصة مجتمع يعيش عيشة هادئة في بلده الجميل المحاذي للبحر، فيحدث يوما أن تميل الشمس في وسط النهار إلى الغروب؛ وهو ما أذهل الناس فخرجوا من ديارهم، ومن أمكنة عملهم ينظرون اليها وهي تتحرك في السماء إلى جهة مغيبها. ولما وصلت إلى الشاطئ، وقفوا جميعا يحملقون فيها وهي تغوص في البحر رويدا رويدا إلى أن غابت تماما عن الأنظار، فيخيم عليهم الظلام الذي لم يكن دامسا بالمرة، بسبب انتشار ضياء خافتة جدا منبعثة من نجوم بعيدة، هذه الضياء التي لا يكفي نورها الخفيف إلا لإبراز أشباح الشخصيات والأشياء من دون ملامحها وألوانها. في البداية، حاول البعض أن يهدئ من روع الناس وفزعهم، بتذكيرهم بالتجارب السابقة لغياب الشمس،؛غير أن شيخا طاعنا في السن قال له: أبدا يا ولدي، فما شاهدناه اليوم فريد من نوعه، لا يمت بأي صلة بتلك التجارب السابقة، ذلك أنني كما أتذكر وكما يروي الأجداد، كان يأتي جسم غريب فيحجب عنا الشمس في النهار، لكن لا يمر إلا وقت قصير حتى ينقشع فتعود الشمس بضيائها المعتادة، بيد أن ما حدث اليوم مختلف تماما، فالشمس كما ترون هي التي راحت من تلقاء نفسها لتغيب عنا. بعدما طال غياب الشمس لعدة أيام، قام الناس، على غرار ما تفعله المجتمعات التقليدية عادة في تعاملها مع الأزمات العامة الكبرى، بتجريب الحل الديني لخروجهم من الأزمة، اعتقادا منهم أن هذا الغياب راجع إلى غضب إلهي مسلط عليهم، وأنه بالرغم من ظهور بعض الأصوات الحرة التي كانت تدعو الناس إلى العدول عن هذا الحل، وإلى البحث بواسطة العقل عن الحل الحقيقي للأزمة، فقد تم إسكاتها وانساق الجميع إلى الرضوخ للكاهن "بويسكيرن" الذي دعا إلى تقديم قربان فتاة جميلة إلى إلههم "بوخوش" طلبا لرضاه ومغفرته؛ غير أنه بعدما فشل الحل الديني في عودة الشمس على الرغم من تقديم ذلك القربان، اقتنع الناس في قرارة أنفسهم بضرورة البحث عن حل آخر غيره. وفي خضم مناقشاتهم لهذا الموضوع، تبين أنهم إن كانوا متفقين جميعا على إدراك حقيقة ابتلاء مجتمعهم بأزمة كبرى، عامة وخطيرة، لا تمس استقرارهم فحسب، بل تهدد حياتهم ككل، وكانوا أيضا متفقين على فكرة ضرورة إيجاد طريق الخروج من هذه الأزمة، فإنهم على العكس من ذلك كانوا مختلفين في اختيار هذا الطريق، وانقسموا بشأنه إلى ثلاث فرق، كل واحدة منها تعتقد أن طريقها المختار هو الصحيح الكفيل بإخراج المجتمع من الظلام إلى النور؛ غير أن ذروة الصراع في هذه التراجيدية الرابعة تتجلى في دخول هذه الفرق الثلاث في حرب أهلية دامية، بسبب محاولة فرقة "يوفتن" المهيمن احتواء باقي الفرق الأخرى بالقوة والعنف، كما تتجلى أكثر في انتهاء هذه الحرب إلى تشتت المجتمع ككل وتوزعه في الفرق التالية: فرقة "يوفتن"، التي اختارت طريق الهجرة كليا من الوطن، سعيا منها إلى بلوغ ضياء نجمة من نجوم السماء، لتستضيء وتستدفأ بنورها، اعتقادا منها بأن نجوم السماء تعتبر في حقيقتها شموسا ساطعة تعود ملكيتها إلى مجتمعات بشرية أخرى بعيدة، وأنه نتيجة لهذا البعد الكبير تبدو لهم هذه الشموس في صورة نجوم صغيرة، أما السبب الذي دفع هذه الفرقة إلى الهجرة فهو اعتقادها كذلك أن شمس وطنهم ماتت بصفة نهائية وانقضى عمرها، وأن البقاء في الوطن والحالة هذه يؤدي حتما إلى الموت المحقق بردا وجوعا، وأنه نظرا لبساطة هذا الاختيار وسهولة تطبيقه، فقد انساقت إليه أغلبية أفراد المجتمع. فرقة "أسكلو"، التي تتكون أيضا من أتباع كثيرين، اعتقدت بدورها بعدم وجود أي أمل في عودة الشمس؛ لكنها اختارت كحل لبلوغ ضياء إحدى نجوم السماء، الهجرة إليها عموديا وصعوديا، عوض الهجرة إليها سطحيا وأفقيا، عن طريق بناء أبراج عالية للاقتراب بواسطتها من نورها ودفئها. فرقة "إيسن" و"ايدوس"، وتتشكل من الأقلية الصغيرة من الناس التي اختارت البقاء في الوطن للبحث فيه بواسطة العقل والفكر، عن السر الحقيقي لغياب الشمس، وكذا عن السر المؤدي إلى عودتها، كما اختارت أيضا الموت على الأقل في الوطن، ان لم يسعفها بحثها في كشف حقيقة هذين السرين. ومما لا شك فيه أن حالة انقسام المجتمع نتيجة سلوك كل فرقة لطريقها المختار تجسد مأساة سقوط هذا المجتمع بدوره في صراعه مع قوة الظلام العاتية، التي نجحت في تفريقه وفي المساس بوحدته، بعدما سبق لها النجاح في التفريق بين عشاقه، وكذا في التفريق بين الأم وولدها، وبين الأخ وأخيه. بعدما مشاهدتنا لتشتت المجتمع في الفصل الثاني للمسرحية، يأتي فصلها الثالث الذي تدور فيه أحداث التراجيدية الخامسة التي يمكن أن نطلق عليها تراجيدية القائد "يوفتن" التي تتلخص فكرتها الأساسية في تصوير مأساة القائد الذي يكتشف أنه أخطأ اختيار الحل الصحيح، فيدرك أنه ضلل بسوء سياسته شعبه لما قاده إلى الطريق الخاطئ الذي يلقى فيه هلاكه، فيشعر نتيجة ذلك بندم شديد وبألم نفسي عميق يمزق دواخله. تروي وقائع هذه التراجيدية وصول القائد "يوفتن" هو وأتباعه - في طريق هجرتهم نحو ضياء النجمة المقصودة - إلى مكان قفر مغطى كله بالرمال، لا وجود فيه لأي نوع من أنواع الحياة، مضاء بنور خافت منبعث من نجوم السماء، حيث يبدون من مشيتهم الثقيلة المتذبذبة ومن ثيابهم الرثة الممزقة وظهورهم المقوسة ورؤوسهم المنحنية وشعورهم المنفوشة ولحاهم الطويلة أنهم قضوا في سفرهم مدة طويلة، يأمر "يوفتن" أتباعه بالوقوف في هذا المكان للاستراحة، بعدما لاحظ إنهاكهم وشدة تعبهم، فيتوجه إلى كومة من الرمال ويرخي عليها نفسه من شدة العذاب النفسي الذي يشعر به من مشاهدته للحالة المزرية التي أوصل إليها أتباعه، وأنه من خلال حواره مع وزيره "زيري" يفصح له عن مكنون قلبه قائلا: إن الأمر الذي أصبحت مقتنعا به الآن تمام الاقتناع هو أن ضياء تلك النجمة المقصودة التي هجرنا إليها لن نصل إليها أبدا، فكلما تقدمنا في السير نحوها، نشعر وكأنها تبتعد عنا، والمصيبة الكبرى هي أنه لم يحصل لي هذا الاقتناع إلا بعد وصولنا إلى هذه القفار التي لا تصلح لا للعيش ولا للاستقرار... واحسرتاه على الزمن الذي أضعناه ورائها.. واحسرتاه على هلاك العديد من أفرادنا في سفرنا هذا اللانهائي.. يا له من العار ومن الفضيحة الكبرى، أن أكتشف هذا الخطأ الجسيم بعد فوات الأوان.. آه .. يا إلهي، كم أنا ظالم، وكم أنا معتد حقير.. ألست أنا الذي غيرت أفكار هؤلاء، وجعلتهم يغادرون وطنهم وأهلهم وممتلكاتهم.. ألست أنا المتسبب في هلاك الكثيرين ممن لاقوا حتفهم في هذا الطريق المشؤوم.. ألا يبعث هذا على الخجل وتقزم النفس.. آه .. يا إلهي لا أقوى على تحمل هول فعلتي.. إنني أستحق القتل.. إنني استحق القتل. هذا العذاب النفسي الشديد الذي عض هذا القائد يدفعه في بداية الامر إلى الرغبة في الانتحار، ليس سعيا منه إلى راحة الموت فحسب، بل لقناعته بقاعدة "أن لا حق للقائد في أن يخطئ، وأن خطأه يستوجب القتل"؛ لكنه بعد ذلك سيدرك أن انتحاره لن ينهي المشكلة، على اعتبار أن أتباعه سيواصلون بعد موته السير في الطريق الخاطئ نحو حتفهم.. لذلك يقرر البوح لأتباعه بالخطأ، على الرغم مما في هذا البوح من الشعور بالذل وبالعار، اقتناعا منه بأن إقراره أمامهم بالخطأ – على ما فيه من ألم - هو الوحيد الكفيل بوقف أتباعه عن مواصلة السير في الطريق الخاطئ، لأنه طالما كانوا يعتقدون أنه هو مرشدهم إلى هذا الطريق، فإنهم سيعتقدون كذلك أن لا أحد غيره يعرف أسراره، ولذلك فإن باح لهم شخصيا بالخطأ فلن يستطيع أحد تكذيبه. وهكذا، ما كاد "يوفتن " ينتهي من خطابه الذي أعلن فيها للناس عن خطأ الطريق المختار، حتى انطلق من بينهم رمحا كبيرا اخترق صدره مستقرا في قلبه.. لقد رماه به أحد المنصتين إلى خطابه، راغبا في قتله، انتقاما منه لاعتقاده أنه هو المتسبب في اختياره لهذا الطريق المشؤوم الذي خسر فيه زوجته وولديه، وأنه عندما هم أصحاب "يوفتن" بضرب عنق هذا القاتل، نهاهم عن ذلك وهو ساقط على الأرض من إثر طعنة الرمح، ثم دعاهم وسط شعوره بالاحتضار إلى أن يخلوا سبيله، مؤكدا لهم أن القاتل فعل بالضبط ما كان راغبا في فعله، لأن خطأه لا يصححه إلا الموت، ثم لفظ أنفاسه. من المحقق أن "يوفتن " يعتبر بطلا تراجيديا بامتياز، لاتصافه في ارتكاب خطأه الجسيم بكل المواصفات المرتبطة عادة بالأبطال التراجيديين المذكورة في كتاب "الشعر" لأرسطو ، والتي هي كما يلي: جهل البطل التراجيدي بالحقيقة وتهاونه في تمحيص الرأي المتخذ، وتسرعه في اتخاد القرار، وعدم تعمده ارتكاب الخطأ، ثم حدوث اضرار فادحة من جراء هذا الخطأ، وندمه الشديد على ارتكاب الخطأ، والقيام بالانتقام من نفسه بسبب هذا الندم. وبالفعل، فإن هذا الشعور بالندم الذي عانى منه "يوفتن" نفسيا، والذي أنهى حياته، بالشكل الذي رأيناه، نجده كثيرا في الأدب المسرحي الإغريقي القديم، كما نرى ذلك في تراجيدية "فيدرا" زوجة الملك "تيزيوس" التي انتحرت شنقا بعدما عضها الندم، من اتهامها الباطل لابن هذا الملك، وكما نراه ايضا في تراجيدية "الملك أوديب" الذي فعل الشر في نفسه بعدما اكتشف قتله لوالده وزواجه بأمه. والحق أن المرء ليتعجب كيف لم ينتبه أي مخرج مسرحي مغربي إلى ما في تراجيدية "يوفتن" من أصالة ومن عمق في فكرتها الإنسانية السامية، وما فيها كذلك من قوة وجمال الفن الدرامي الحقيقي، على اعتبار أنه وإن كان المخرجان المقتدران المرحوم عبد الله أوزاد والأستاذ خالد بويشو قد قاما فعلا بإخراج تراجيدية العاشقين "أسافو وتوف ايتري، فإلى حد الآن لم يتجشم أحد القيام بتشخيص مأساة البطل التراجيدي "يوفتن" على خشبة المسرح، ولست أدري إن كان السبب في ذلك راجع إلى ضعف في الإمكانات البشرية المؤهلة أم في الإمكانات المادية والمالية الضرورية أم هو راجع إلى سبب آخر نجهله؟ كما أن المرء يتعجب كذلك من عدم ترجمة مسرحية "أوسان صميدنين" إلى إحدى اللغات الحية، على الرغم من استحقاقها ذلك حسب شهادة الأستاذ الكبير محمد شفيق، نظرا لقيمتها الأدبية الرفيعة، ونظرا كذلك لرمزيتها التاريخية باعتبارها أول إبداع نثري حديث يدخل الثقافة الأمازيغية إلى عالم المسرح، وإلى عالم الحكي والسرد. وللإشارة، في هذا السياق، كثيرا ما قيل لي بأنه لو ترجمت هذه المسرحية إلى إحدى اللغات الحية، ثم قرئت من دون علم بهوية كاتبها وبمكان وزمان كتابتها لاعتقد كل قارئ لها بانتمائها إلى الأدب المسرحي الإغريقي القديم.