ما الفائدة من التبجّح بالحرّية إذا كان صاحبها غير قادر على حمايتها؟ إذا كان اسم "أمازيغ" يعني، كما هو شائع ومتداول، "الإنسان الحر"، فقد لا يكون ذلك فقط من باب ميْل الشعوب إلى التبجّح بنفسها، وادعاء تميّزها بخصال فذّة تفاخر بها الشعوب الأخرى. فقد يكون الاسم مطابقا للمسمّى، ويعني بالفعل أن أخصّ ما يميّز الإنسان الأمازيغي هو تعلّقه الشديد بالحرية إلى درجة إعطائها الأولوية على قيم ومبادئ أخرى. وهناك قرائن كثيرة على هذا التعلّق والأولوية. لماذا لم ينشئ الأمازيغ، منذ القديم، دولا أمازيغية ذات استمرارية تاريخية (يتعلق الأمر تحديدا بالدول ذات الاستمرارية التاريخية وليس بالدول الظرفية التي تظهر ثم تختفي، والتي سبق للأمازيغ أن عرفوا نماذج منها)، كما نجد، مثلا، عند الصينيين واليابانيين والفرس والإغريق والرومان...؟ ألا يمكن أن يكون حبهم للحرية وتعلّقهم بها، ورفضهم للتنازل عن شيء منها، من موانع قيام واستمرار الدولة الأمازيغية؟ وندرك وجاهة هذا السؤال عندما نعرف أن العيش داخل دولة يشترط تنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم الطبيعية وقبولهم بالخضوع للإرادة الجماعية التي تمثّلها الدولة، كتعاقد اجتماعي وسياسي، يتجاوز، وبمسافة كبيرة، في إكراهاته والتزاماته وضوابطه وقوانينه، الإكراهات والالتزامات والضوابط والقوانين التي يفرضها العيش داخل القبيلة أو فيديرالية من القبائل، وذلك حتى عندما يكون للقبيلة شكل سياسي يتمثّل في وجود سلطة عليا تشرف على تدبير شؤونها، وتتخذ القرارات المناسبة لحمايتها والدفاع عنها، وهو ما كان ممارَسا ومعروفا في التنظيمات القبلية الأمازيغية. لكن إذا كان تنظيم الدولة، بما يفرضه من إكراهات والتزامات وقوانين، كما قلت، يقيّد، أكثر من التنظيم القبلي، الحريات والحقوق الطبيعية للأفراد، فإن من محاسنه أنه قادر، أفضل وأكثر من القبيلة، على حماية الحريات والحقوق التي يقرّها في حالة تعرّضها لاعتداء من دول خارجية معادية. وهنا يبرز، بخصوص الحرية، تفوّق تنظيم الدولة على تنظيم القبيلة، كما يعبّر عن ذلك السؤال التالي: ما الفائدة من الحرّية إذا كان صاحبها غير قادر على ضمانها وحمايتها، ويسهل بالتالي استعباده وحرمانه من أية حرية؟ أليس هذا ما يكون قد حدث للأمازيغ الذين لم ينشئوا دولا ذات استمرارية تاريخية، لأنهم يفضلون أن يعيشوا أحرارا بعيدا عن إكراهات وضوابط وقوانين الدولة، وهو ما جعلهم لا يستطيعون، بدون جيش نظامي، بأعداد كافية وعتاد مناسب، لا يمكن أن يتوفر إلا في ظل دولة قائمة، صدّ هجمات الدول الأخرى؟ وهو ما قد يفسّر أنهم كانوا دائما عرضة لغزو أجنبي رغم كل المقاومة الشرسة التي كانوا يواجهون بها، لكن كقبائل فقط وليس كدول، المحتلّ الغازي. فكانت النتيجة العكسية أنهم، بسبب تعلقهم بالحرية الذي حال دون إنشائهم لدول ذات استمرارية تاريخية، سيفقدون هذه الحرية عندما يصبحون خاضعين لاحتلال دول أجنبية أخرى. وهو ما جعلهم يتحوّلون من أحرار إلى مغلوبين. الفقدان الأكبر للحرية هو فقدان الإنسان لهويته: ولا يهمنا، في المقام الأول، هذا الفقدان للحرية الناتج عن الاحتلال الأجنبي، والذي عرفته وتعرّضت له حتى الشعوب التي كانت معروفة بدولها العريقة في التاريخ، مثل الفرس والإغريق قديما، أو الصينيين والفرنسيين حديثا... ما يهمّنا هو أن الأمازيغيين سيفقدون مع مرحلة الغزو العربي، ليس فقط حريتهم بل أنفسهم ووجودهم. لنشرح ونوضّح هذه المسألة. فرغم أن الاحتلال العربي لبلاد الأمازيغ كان أقصر احتلال عرفوه طيلة تاريخهم لما قبل القرن العشرين، إذ لم يدم سوى أقل من تسعين سنة حيث سيختفي، عسكريا وسياسيا، وبشكل نهائي لا رجعة فيه، منذ معركة "الأشراف" سنة 740 ميلادية، التي أبيد فيها الجيش الأموي الذي كان مرابطا ببلاد الأمازيغ لإخضاعها للحكم العربي الأموي، إلا أنه رغم ذلك فقد كان هو الأطول من حيث آثاره ونتائجه. فإذا كان الأمازيغ قد استردّوا، بعد إنهائهم للاحتلال العربي، بمظهريه العسكري والسياسي، سنة 740، أرضهم وسيادتهم عليها، إلا أنهم سيبدؤون، نتيجة لذلك الاحتلال رغم أنه لم يعد له وجود عسكري وسياسي، في فقدان وجودهم كشعب متميّز عن كل الشعوب الأخرى بموطنه وهويته ولغته. ذلك أن المحتل العربي، إذا كان قد اندحر وارتحل بعد معركة 740، فقد ناب عنه الأمازيغيون أنفسهم، وأقصد منهم أولئك الذين استعملوا الإسلام أو استعملهم الإسلام لينتسبوا إلى الجنس العربي ويتخلوا عن جنسهم الأمازيغي. هكذا بدأ الإنسان الأمازيغي، الذي تحوّل من جنسه الأمازيغي، الطبيعي والأصلي، إلى الجنس العربي الزائف والمنتحَل، يفقد حريته ويصبح تابعا ومغلوبا، بل أضحى كائنا مهزوما ومدحورا، بعد أن تنازل عن وجوده كأمازيغي، وخسر كرامته الهوياتية ليستعيض عنها بخرافة النسب العربي. فالانهزام الأقسى والأقصى ليس فقط أن يخسر الإنسان أرضه وحريته جراء الغزو والاحتلال، بل أن يخسر انتماءه وهويته التي تمثل ذاته وكينونته. وهو ما يعني أنه يخسر كل شيء، لأنه لن يعود له وجود، بعد أن يخسر شرط هذا الوجود وهو هويته. من منبت الأحرار إلى منبت المهزومين والمغلوبين: ومنذ هذا الانهزام الهوياتي للإنسان الأمازيغي، الذي اختار التحوّل من جنسه الأمازيغي إلى الجنس العربي، أصبح إنسانا تابعا وليس مستقلا، ومغلوبا وليس حرا، وعدما بعد أن أضحى غير موجود كأمازيغي. وحتى يُحكم إعدام وجوده كأمازيغي، استعمل لغته الأمازيغية لصنع لغة "عربية"، هي الدارجة، ليقتل بها أمازيغيته التي أنتجت تلك الدارجة. ولو وعى واعترف أنه هو من صنع الدارجة ليقتل بها أمازيغيته، لكان على الأقل صريحا ومنطقيا، وواعيا بما يفعل وبما يريد. لكن الأدهى أنه يؤمن ويصر على الإيمان ، وبشكل قطعي بات، أن هذه الدارجة هي لغة ظهرت، ليس عند الأمازيغ المتحوّلين، بل عند العرب ببلادهم العربية التي انتقلت منها معهم إلى بلاد الأمازيغ. ولهذا فهو يُشهرها ويعتزّ بها كعنوان على "عروبته" مثلما يعتزّ العرب الحقيقيون بلغتهم العربية كجزء من هويتهم العربية الحقيقية. هكذا غدا الإنسان المغلوب، أي الذي تحوّل من أمازيغي حر إلى تابع فاقد لكرامته الهوياتية، إلى كائن يعيش الزيف الوجودي الشامل، بمظهريه الهوياتي واللغوي. وإذا كانت ظاهرة انتحال الإنسان الأمازيغي للنسب العربي، مع ما ترتّب عنه من زيف هوياتي ولغوي وإعدام لوجوده كإنسان أمازيغي حر، ظلت منذ بدايتها محدودة عدديا وديموغرافيا، ومحصورة في نطاق فردي لم تتحوّل معه إلى ظاهرة جماعية، إلا أنها، مع ذلك، كانت تتوسّع بشكل مطّرد ومتنامٍ رغم أن هذا التوسّع كان بطيئا لا يظهر مفعوله إلا بعد قرون. لكن مع بداية القرن العشرين، وبالضبط مع احتلال فرنسا للمغرب وبسببه، ستنتقل ظاهرة التحوّل الجنسي للأمازيغيين إلى السرعة القصوى، بعد أن أصبحت شأنا جماعيا يهمّ، ليس مجموعة من الأفراد والقبائل كما كان الأمر قبل هذا التاريخ، بل يهمّ الدولة التي جعلت منه سياسة عمومية تتولّى الإشراف عليها من أجل التحويل الجنسي للمغاربة كإحدى أولوياتها الوطنية، سمّتها "سياسة التعريب"، أي سياسة التحويل الجنسي، القومي والهوياتي. وبفضل تبنّي الدولة لسياسة التحويل الجنسي، أصبح كل شيء يعمل من أجل هذا التحويل ويصبّ فيه: فالإسلام كما يمارَس في المغرب هو أداة للتحويل الجنسي (وهو ما يتنافى مع تعاليم الإسلام)؛ اللغة العربية كما تدرَّس وتُفرض في المغرب ليس الهدف منها أن تتقَن وتستعمل كلغة، بل أن تُستخدم كوسيلة للتحويل الجنسي؛ التعليم لا يرمي إلى تكوين مواطن كفء، مكتسب للمعرفة والمهارات والكفاءات، بل إلى تكوين مواطن متحوّل من جنسه الأمازيغي إلى جنس عربي؛ الأحزاب لا تؤطر المغاربة ليكونوا مواطنين يشاركون في السياسة وتدبير الشأن العام، بل تؤطرهم في إطار تعريبهم وتحويلهم جنسيا... هكذا أصبح التحوّل الجنسي يمثّل، بسبب هيمنته وشموليته ورعايته من طرف الدولة، الوضع السوي والطبيعي، وأصبح الاحتفاظ بالانتماء الأمازيغي يمثّل الوضع الشاذ وغير الطبيعي. والنتيجة هي ما يعيشه المغاربة، اليوم، كشعب بلا هوية ولا انتماء، لأن العرب الحقيقيين الذين يظن المغاربة المتحولون أنهم ينتمون إلى جنسهم، يرفضون منهم هذا الانتماء الذي يعرفون أنه تزوير وانتحال للصفة. فتحوّل المغاربة المنتحلون للانتماء العربي من أحرار، أي أمازيغ فخورين بأمازيغيتهم التي تمنحهم العزة والكرامة، إلى مهزومين مغلوبين، تابعين وذيليين هوياتيا، يستجْدون من الغير أن يحتضنهم ويتبنّاهم كما يفعل الأطفال غير الشرعيين، فاقدين للكرامة التي يستمدونها من هويتهم التي فقدوها يوم فقدوا أمازيغيتهم. فغدا "منبت الأحرار"، الذي يطلقه النشيد الوطني على المغرب، منبتا للمغلوبين والمهزومين والتابعين، الفاقدين لكرامة الهوية وعزة الانتماء. نتائج شاذة لوضع شاذ: وليس الخطير في هذا الانهزام الهوياتي الذاتي هو فقط فقدان المتحوّلين لحريتهم وكرامتهم وكينونتهم التي يمثّلها انتماؤهم الأمازيغي الأصلي، بل الخطير أنهم تحوّلوا، أيضا، إلى أعداء ألدّاء للأمازيغية ولكل ما هو أمازيغي. وهو ما يعبّر عن منتهى كره الذات والشماتة بها. وهذا شيء لا نجده عند العرب الحقيقيين، الذين لا يعادون الأمازيغية ولا يحاربونها. وهو ما يؤكد، مرة أخرى، أن المتحولين المستعربين من الأمازيغ ليسوا عربا حقيقيين وإلا لما كانوا يماقتون الأمازيغية ويعملون، بكل الوسائل، من أجل وأدها والقضاء عليها بتعميم التحويل الجنسي، أي ما يسمونه بالتعريب، إلى باقي المغاربة الأسوياء الذين لم يقعوا بعدُ في فاحشة الشذوذ الجنسي، القومي والهوياتي. ومن النتائج الخطيرة، كذلك، لظاهرة هذا الشذوذ الجنسي، القومي والهوياتي، أن المتحوّلين الشواذ، جنسيا، أي قوميا وهوياتيا، نجحوا في إقناع الأسوياء من الأمازيغ أنهم (المتحولين) بالفعل عرب في هويتهم وانتمائهم وليسوا أمازيغيين. وهو ما جعل هؤلاء الأسوياء يطالبون المتحوّلين، بعد أن أنشأ لهم ليوطي دولة تمثّل قمة التحوّل الجنسي، القومي والهوياتي دائما، في المغرب المعاصر، بالاعتناء بلغتهم والاعتراف بهويتهم الأمازيغية. هكذا يؤدّي وضع شاذ أصلا إلى نتائج شاذة، وهي أن يطالب الأسوياء، الأحرار المحافظون على كرامتهم الهوياتية، من المتحوّلين، الموالي المغلوبين الذين تنازلوا عن كرامتهم الهوياتية، استرداد هويتهم الأمازيغية، التي أقصتها سياسة التحويل الجنسي، والاعتراف بها والعمل على تنميتها والحفاظ عليها. فيكون هذا الموقف السريالي الشاذ تأكيدا أن المتحوّلين وهو ما يريدونه عرب وليسوا أمازيغيين متحوّلين. مع أن الذين هم في حاجة ماسّة إلى استرداد هويتهم، التي هي عنوان كرامتهم التي فقدوها يوم فقدوا هويتهم الأمازيغية كما قلت، هم هؤلاء المتحوّلون الذين باعوا هويتهم الأمازيغية هذه مقابل خرافة الانتماء العربي ببلاد الأمازيغ. فكانت النتيجة أنهم فقدوا هويتهم الأمازيغية، وفي نفس الوقت لم يحصلوا على الانتساب إلى العروبة الموعودة لأنهم، تاريخيا وجغرافيا، أبناء شمال إفريقيا وليسوا أبناء الشرق الأوسط. وهذا ما جعل العرب الحقيقيين لا يعترفون بهم ضمن هؤلاء العرب الحقيقيين. وهكذا خسروا الأمازيغية والعروبة، وبقوا في وضع "البدون"، بلا هوية ولا أصل، وبلا كرامة هوياتية على الخصوص، والتي تتأسس على انتماء هوياتي معروف ومعترف به، معتزّين ويا لهول المفارقة! ، في ما يخص هويتهم، بعبودية طوعية اختاروها ورضوا بها، وبمسخ ومسح كذلك هوياتي قبلوه واقتنعوابه. ما هو الحل لوقف المسخ الهوياتي في المغرب؟ أمام هذا المسخ الهوياتي وهذه العبودية الهوياتية الطوعية، التي أصبحت أفيونا جديدا للمثقفين والسياسيين والحكام المغاربة، ليس هناك سوى حلّين لوضع حد لهذه العبودية وهذا المسخ، واستعادة حرية المغاربة كأمازيغ أحرار، واسترداد كرامتهم باسترداد هويتهم الأمازيغية الإفريقية. أول هذين الحلين، وإن كان يتطلّب الكثير من الصبر والوقت الذي قد يستغرق عشرات السنين، هو استمرار نضال الأسوياء من المغاربة، أي الذين لا زالوا واعين ومعتزين بانتمائهم الأمازيغي، من أجل علاج حالة الشذوذ الجنسي القومي، ووقف المسخ الانتمائي الذي يعيشه المغاربة في هويتهم الجماعية المفقودة، والتي أدّى فقدانها إلى فقدان كرامتهم الجماعية التي ترمز إليها هويتهم الجماعية الحقيقية والأصلية، حتى يكونوا مطابقين لما هم عليه، أي مطابقين لانتمائهم الجماعي الأمازيغي، مما يحررهم من العبودية الهوياتية الطوعية ويعيدهم أحرارا كما كانوا في الأصل، أي أمازيغيين في هويتهم الجماعية. هذا الحل هو الذي اختارته الحركة الأمازيغية، الناطقة باسم المغاربة الأسوياء، أي الذين احتفظوا على هويتهم الجماعية الأمازيغية وقاوموا التحوّل الجنسي ورفضوا العبودية الهوياتية الطوعية. وقد أعطى نضال الحركة الأمازيغية، منذ بداية الألفية الثالثة، مكاسب مهمة للأمازيغية لا يمكن إنكارها، وخصوصا أنه بدأ يخلق لدى عدد من المتحولين، ولو بشكل بطيء ورغم تسارع وتيرة التعريب التحويلي، الوعي تدريجيا بأنهم أمازيغيون وليسوا عربا في هويتهم الجماعية. لكن من الأخطاء الاستراتيجية لهذه الحركة أنها تدافع عما تعتبره أمازيغية جزء فقط من المغاربة، وهم الأسوياء الذين لم يصبهم بعدُ مرض الشذوذ الجنسي، القومي والهوياتي. وهذا ما يريده المتحوّلون الذين يعتقدون أنهم أغلبية عربية، وأن الأمازيغيين يشكّلون أقلية صغيرة فقط. ولهذا، وحتى يكون دفاع الحركة الأمازيغية عن الهوية الأمازيغية الجماعية للمغاربة مجديا وفعّالا، يجب عليها أن تطالب بتحرير جميع المغاربة المتحوّلين من نير العبودية الطوعية الهوياتية، وعلى رأسهم الدولة التي يجب أن تتصرف كدولة مغربية ذات هوية أمازيغية. وهو ما يتطلب من هذه الحركة الانتقال إلى خطاب أمازيغي جديد، يركز على الهوية الأمازيغية للدولة، قبل الأفراد والجماعات. الحل الثاني، وهو سياسي، يُنتظَر أن يأتي على يد الممسك الحقيقي بزمام السلطة الحقيقية في المغرب، وهو المؤسسة الملكية، عندما تقرر أن المغرب دولة أمازيغية الهوية، مع ما يستتبع ذلك من تغيير في سياستها حتى تنسجم مع هويتها الأمازيغية المستعادة، ويسهل معها إعادة تمزيغ المغاربة المتحوّلين ليستعيدوا، هم كذلك، هويتهم الأمازيغية. إذا كان هذا الحل السياسي قد يثير الضحك لدى العديد من الذين لا يستطيعون، بسبب استحكام التحول الجنسي وهيمنة ثقافة العبودية الطوعية، حتى مجرد الحلم أن الدولة المغربية قد تعلن يوما، وبشكل صريح ورسمي، أنها دولة ذات هوية أمازيغية، إلا أنه ليس حلا مستحيلا بصفة مطلقة. فلنتذكّر أن لا أحد كان يتوقّع أن الدولة العثمانية ستنتقل من دولة نظام ديني تقوم على مفهوم الخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية يختفي فيها الدور السياسي للدين نهائيا، ولا أن لغتها، التي ظلت تكتب بالحرف العربي لمدة قرون، قد تتخلى عن هذا الحرف وتتبنى الحرف اللاتيني. فمثل هذه التغييرات الانقلابية كانت خارج المفكّر فيه. لكن لما قرر، ابتداء من 1923، الممسك الحقيقي بزمام السلطة الحقيقية في تركيا، وهو كمال أتاتورك، إلغاء نظام الخلافة وإعلان تركيا جمهورية علمانية، وفرض الحرف اللاتيني لكتابة اللغة التركية، بدا ما كان يُعتبر، قبل ذلك، مستحيلا وخارج المفكر فيه، أمرا عاديا ومقبولا، بل ومحمودا رحّبت به كل القوى السياسية. وفي دولة إسلامية كتونس، لم يكن أحد يخطر بباله أن الإفطار العلني في رمضان سيكون شيئا عاديا وممارسة مباحة ومقبولة. لكن لما ظهر، في التليفزيون، الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ذات رمضان في 1962 وهو يشرب كأس عصير البرتقال، معلنا بذلك أن الصيام يؤثر سلبا على الاقتصاد ومردودية العمل والإنتاج، وأن من لا يريد الالتزام بهذه الفريضة فهو حر لا حق لأحد أن يسأله عن ذلك، بدا الأمر عاديا ومقبولا لأن أعلى سلطة قررت ذلك. لنتصور، كما في هاتين الواقعتين اللتين أحدثتا انقلابا في السياسة واللغة والدين والعقيدة، أن الملك محمدا السادس يعلن في أحد حطاباته أن المغرب دولة ذات هوية أمازيغية انسجاما مع انتمائه الترابي الإفريقي، ويجب العمل، من خلال إعادة النظر في السياسة العامة للدولة ذات العلاقة بالهوية، وإصلاح البرامج التعليمية والإعلامية والدينية...، على ترسيخ هذه الهوية بالشكل الذي يجعل جميع المغاربة يعتزون بأمازيغيتهم ويدافعون عنها ويفتخرون بالانتساب إليها. فماذا سيحدث؟ سنرى الأمناء العامين للأحزاب والوزراء والبرلمانيين يتسابقون للتصريح أن ما دعا إليه الملك هو قرار حكيم كانوا ينتظرونه منذ مدة، لأنه يعيد الأمور إلى نصابها ويصحّح الأخطاء المرتكبة في حق الهوية الأمازيغية للمغرب وللمغاربة وللدولة المغربية. ولا يصحّ الاعتراض، ممن يُقرّون بقابلية هذا الحل للتحقق، أن اتخاذ وفرض مثل هذا القرار الانقلابي من طرف الحاكم، وبصفة انفرادية، هو تكريس للاستبداد والحكم الفردي الديكتاتوري، الذي يفرض دائما إرادته الفردية والمزاجية من الفوق، غير عابئ بإرادة الشعب. لا يصحّ الاعتراض لأن من خصائص الاستبداد والديكتاتورية استعباد الناس وقهرهم، والتضييق على حرياتهم وحقوقهم. أما عندما تكون الغاية من القرار السياسي، حتى لو كان فرديا، هو عتق الموالي المغلوبين، وتحريرهم من العبودية الطوعية، وإرجاع إليهم كرامتهم التي حُرموا منها، والانتقال بالمغرب من منبت للمهزومين إلى منبت للأحرار، ووضع حدّ لآفة التحول الجنسي وعاهة المسخ الهوياتي...، فلا يمكن إلا أن يكون هذا القرار ديموقراطيا وحكيما وعادلا وصائبا... ولا يهم بعد ذلك هل صدر عن حاكم بمفرده أم عن حكومة منتخبة، لأن العبرة بالمقاصد والنتائج وليس بالوسائل والطرق. فإذا كان هذا القرار، المحرر للمغاربة من العبودية الهوياتية الطوعية، تعبيرا عن الاستبداد والديكتاتورية، فأهلا بمثل هذا الاستبداد، ومرحبا بمثل هذه الديكتاتورية. ولهذا أرى أن مسؤولية تخليص المغاربة من آفة الشذوذ الجنسي، القومي والهوياتي، وتحريرهم من العبودية الهوياتية الطوعية، واستعادة المغرب لسيادته الهوياتية حتى يكون منبتا فعلا للأحرار، تقع أولا على عاتق الحكام، الممسكين بزمام السلطة والمالكين للقرار السياسي النافذ.