سبْعُ رصاصات حيّة هي الحلُّ الأخير الذي لجأت إليه عناصر الشرطة في مدينة فاس، نهاية الأسبوع الماضي، لإنهاء خطر جانح خارجٍ عن السيطرة، لمْ يكن إطلاق النار عليه سوى الحلّ الوحيد لتفادي شرّه. لكنّ وضع نهاية لمشوار هذا الجانح ليس سوى حلقة صغيرة من مسلسل إجرامٍ طويل، يُصبح ويُمسي عليه سكان مدينة فاس، ولا يبدو في الأفق مؤشر على قرب نهايته. مِن هنا يبدأ الإجرام خلال السنوات الأخيرة أضحى اسم مدينة فاس مقرونا بالإجرام، حتى بات الكثيرون يلقبونها ب"عاصمة الإجرام"، نظرا للعدد الهائل من الجرائم التي تشهدها. أما أهل العاصمة العلمية فبات كثير منهم يتمنّون مغادرتها، كسيّدة كانت تحادث رفيقتها حول موضوع تفشي الإجرام في المدينة، ولم تجدْ عبارة أبلغ للتعبير عن شعورها سوى: "لوْ كان لديَّ بيت في مدينة أخرى لغادرت فاس بلا رجعة". وإذا كان الإجرام المستشري في مدينة فاس يتمظهر في أعمال السطو والنشل والاعتداء على ممتلكات الغير والضرب والجرح...إلخ، فإنَّ لهذه الظاهرة أسبابا يرى فاعلون جمعويون ومواطنون التقت بهم هسبريس أنّ القضاء عليها رهين باستئصالها. وتظهر هذه الأسباب جليّة وسط الأحياء التي تشهد أكبرَ نسبة من الإجرام، حيث يتسكّع شبّان بلا شُغل وبلا هدف وسط الدروب، في ظل الفراغ الذي تعاني منه فاس على كل المستويات. "قبل أن نحاسب هؤلاء المجرمين الصغار الذين يزرعون الرعب في نفوس المواطنين، يجب أن نحاسب المجرمين الكبار. وأقصد هنا المسؤولين الذي يسيّرون الشأن العام في مدينة فاس"، يقول محمد أعراب، فاعل جمعوي بمدينة فاس، قبل أن يسترسل: "والي الجهة، ورئيس الجهة، وعمدة المدينة، لا يفعلون شيئا من أجل إنقاذ فاس، وأؤكّد أنه إذا استمرّ الوضع هكذا فسوف تغرق هذه المدينة في مستنقع إجرامي أخطر في المستقبل القريب". وأنت تتجوّلُ في مختلف أحياء مدينة فاس، خاصة الفقيرة منها، يبدو التحذير الذي أطلقه محمد أعراب جدّيا. المعاملُ التي كانتْ تمتصُّ جزءا مهما من البطالة في صفوف شباب مدينة فاس أوصدت أبوابها بعد أن سرّحت مَن كان يشتغل بها، ولا مشاريعَ تنموية يُمكن أن تشكّل بصيص أمَل لإخراج المدينة من الركود الذي طالَ كل القطاعات، بما في ذلك التجارة، التي تحرّك عجلة الاقتصاد في العاصمة العلمية، وإنْ ببطء شديد، بعد أن تراجعت أعداد السياح الذين كانوا ينشطون سوق الصناعة التقليدية. بتذمر كبير يتحدث أهل فاس عن استشراء الإجرام بشكل مهول في مدينتهم، ويُجمعون على أنّ مسؤولي المدينة هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن هذه المعضلة. "المسؤولين عْلى هادْ المدينة في سبات عميق، وخاصهم يفيقو"، يقول يوسف، وهو مرشد سياحي التقيناه في حي "الرصيف"، وسط المدينة القديمة، مضيفا: "كانت فاس في الماضي يُضرب بها المثل في الأمن، وكان الناس يعشقون المجيء إليها حتى في عزّ صيفها القائظ..الآن أهلها يهربون منها، ومَن بقي فيها منهم يعيش وسط دوّامة من الخوف بسبب الإجرام". وكغيره من المواطنين الذين تحدّثنا إليهم، يحمّل يوسف مسؤولية ظاهرة الإجرام في فاس لمسؤولي المدينة بدون استثناء، قائلا: "يجب على جميع المسؤولين أن يتحملوا مسؤوليتهم. جميع المسؤولين معنيون باستتباب الأمن في هذه المدينة وإعادة الطمأنينة إلى قلوب ساكنتها، فَفاس التي كانت فيها التجارة مزدهرة أصبحت اليوم تعيش ركودا قاتلا. لم تعد هناك تجارة ولا صناعة، وهذا أدّى إلى تفشي البطالة، ومن ثمّ انتشار الجريمة". في هذا الإطار يقول رجُل في الستين من عمره، وأحد "ضحايا" الركود الاقتصادي الذي يضرب مدينة فاس: "ما كايْن لا حركة لا تجارة. البلاد ما فيها ما يتشافْ، والسبب الرئيسي ديال الإجرام في هذه المدينة هو البطالة"، يصمت برهة ويضيف: "كانت الحركة دايْرة، كانوا الصنايعية خدامين، والتجار خدامين، دبا كلشي واقف، أنا براسي كنت خدام دبا كالس بطالي، ما عندي فين نصور طرف د الخبز"، ويردف مُلقيا في وجه مسؤولي فاس بسؤال استنكاري: "واش تا ولات عندي ستّين عام عاد نمشي نسْرق؟". بسبب استشراء الإجرام في مدينة فاس لم يعُد الناس في هذه المدينة يستغربون رؤية جانحين يلوّحون بالسكاكين والسيوف والخناجر وغيرها من الأسلحة في الشارع العام، بل أصبح الأمر "مألوفا". يقول أحد المواطنين: "الأمان ما بقاش، هادي غير يومايْن كنت كندور وسط المدينة بالنهار، ودازو حدايا جوج هازّين سْيوفا وواحد هازّْ مْدرة"؛ وبدوره حمّل مسؤولية "السيبة" التي تعرفها مدينة فاس لمسؤوليها، قائلا: "المسيرين ديال المدينة هوما اللي رجعوها هاكا". الخوف من انفلات أمني بْن دبّاب، عوينة الحجاج، حي خمسة وأربعين، حي بنسودة، حي المسيرة، الجنانات...هذه الأحياء، وأغلبها توجد في قلب المدينة القديمة لفاس أو في هوامشها، تُعدّ من أبرز معاقل الإجرام في فاس، لكنّ السؤال الحقيقي الذي يرى محمد أعراب، الفاعل الجمعوي، أنه يجب طرحه، ليس هو لماذا يوجد الإجرام في هذه الأحياء وفي غيرها؟، بل كيف نشأت هذه الظاهرة؟ وكيف تطورت؟ ومن المسؤول عنها؟. بالنسبة إلى أعراب، الجواب عن السؤال أعلاه سهل وواضح، ويقدمه كما يلي: "في فصل الصيف، مثلا، لا يجد الأطفال فضاء يؤوون إليه من حَرِّ الشمس. المكان الوحيد الذي يلجؤون إليه هو أحواض النافورات، وحين يكبرون لا يجدون عملا، وفي المقابل يجدون أمامهم المخدّرات بشتى أنواها تُباع في كل مكان، وغيرها من وسائل الانحراف، فكيف تريد من شباب تربّوا في هذا المناخ الموبوء ألّا يتعاطوا السرقة وغيرها من ضروب الجريمة؟". وفي مقابل تحميله المسؤولية لوالي الجهة، ورئيس الجهة، وعمدة المدينة، يدافع هذا الفاعل الجمعوي الذي شغلَ سابقا منصب مستشار في إحدى مقاطعات فاس عن الأمنيين بالمدينة، قائلا إنهم يشتغلون فوق طاقتهم، نظرا لقلّة عددهم، وضعف التجهيزات الموفَّرة لهم، مضيفا: "عناصر الأمن في فاس تبذل مجهودا أكبر من عناصر الأمن في باقي المدن..هناك مَن يشتغل من الساعة الثامنة والنصف إلى الساعة الرابعة والنصف، وفي السادسة يُطلب منه أنْ يقوم بالمداومة الليلية". وفيما يبدو أنَّ المديرية العامة للأمن الوطني قرّرت عدم التساهل مع الجانحين الخارجين عن السيطرة، بعد شروع عناصر الأمن في إطلاق الرصاص الحي عليهم، فإنّ محمد أعراب يرى أنّ "الجريمة في مدينة فاس ستزداد، طالما لمْ يُوجِد مسؤولو المدينة حلولا جذرية لأسبابها"؛ فيما يسود خوف وسط ساكنة المدينة من أن يؤدّي تفشي الجريمة إلى انفلات أمني، خاصة بعد بروز ما يسمّى "الفتوّات" في عدد من الأحياء، وهم الجانحون الذين يستعرضون عضلاتهم ويهدّدون السلم العام. ويزكّي ما يجري داخل أحياء مدينة فاس، التي تعرف انتشار الجريمة، مخاوف حدوث انفلات أمني بالمدينة، خاصة بعد شروع شباب داخل الأحياء في إنشاء "فِرَق" أفرادها بهراوات، ويرتدون سترات صفراء مكتوب عليها "زيرو كريساج"، تقوم بحملات تمشيطية، لمحاربة المجرمين، خاصة في النقط السوداء التي تعرف انتشارا واسعا للجريمة.