وسط ترقب شعبي واسع، ألقى الملك محمد السادس خطاب العرش الذي يصادف هذه السنة الذكرى التاسع عشرة لتوليه قيادة البلاد. عناصر الترقب الشديد غذتها تطلعات معلنة لرأي عام مغربي يشرئب نحو مخرج سياسي مأمول لمتتاليات سياق عام مطبوع بالتردد والانتظارية، وبأثر المعالجات القضائية للحراك الاجتماعي الذي شهدته منذ سنتين مناطق متفرقة من البلاد. لذلك، لم يكن خطاب الأحد الماضي هو فقط النص الذي يلقيه ملك البلاد في محطة مركزية ضمن يوميات الزمن السياسي الرسمي، عادة ما تخصص لاستعراض حصيلة السياسة العامة وعناصر تشخيص المستقبل، بل كان كذلك ما أحاط هذا الخطاب من رموز وإشارات وما تلاه من إجراءات وتدابير. في تفصيل ذلك، لا بد من التقاط دلالات المكان؛ إذ لأول مرة سيلقى خطاب العرش من قلب مدينة الحسيمة، التي شكلت منذ سنتين بؤرة للاحتجاج الاجتماعي، وهو ما تمت قراءته كتغليب حكيم واستئناف ضروري لمنطق المصالحة في تدبير علاقة المركز والسلطة بمنطقة تحمل في ذاكرتها الكثير من الجراح والندوب. تحليل العناصر الموازية للخطاب يفرض كذلك الوقوف على كثافة الأجندة السياسية السابقة واللاحقة عن زمن الخطاب؛ إذ فضلا عن الترتيبات المراسيمية التقليدية التي تسم الاحتفالية الرسمية لعيد العرش، نقلت وسائل الإعلام أخبارا عن ترؤس الملك محمد السادس لاجتماع خصص لتفعيل التدابير التي تضمنها خطاب العرش، بحضور رئيس الحكومة والوزراء المعنيين. وإذا كان "اجتماع التفعيل" قد انعقد بعيد الخطاب، فإن استقبالات هامة كانت قد جرت قبيله، همت بالأساس والي بنك المغرب ورئيس المجلس الأعلى للحسابات. دلالة هذه الكثافة لا تخطئها عين المراقب، خاصة في علاقة مباشرة بمضمون الخطاب؛ ذلك أن الأمر يحيل على ما سيسميه بلاغ للديوان الملكي صادر في أعقاب "اجتماع التفعيل" المذكور "منهجية جديدة، تقوم على الرفع من وتيرة الإنجاز وعلى الجدية والالتزام في العمل، مع تحديد مواعيد دورية لتقديم النتائج الملموسة"، وحرصا على المتابعة الملكية الشخصية للأعمال المتعلقة بالأوراش المعلنة في الخطاب. في تحليل مضمون المتن، الذي توجد بؤرته البلاغية المركزية في عبارة "شيء ما ينقصنا" كدلالة على العجز الاجتماعي، يحفل الخطاب بالعديد من التدابير والمبادرات العملية على صعيدي القضية الاجتماعية ودعم الاستثمار، يمكن أن نذكر منها: - إعطاء دفعة قوية لبرامج دعم التمدرس ومحاربة الهدر المدرسي ابتداء من الدخول الدراسي المقبل. - إطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتعزيز مكاسبها، وإعادة توجيه برامجها للنهوض بالرأسمال البشري للأجيال الصاعدة. - تصحيح الاختلالات التي يعرفها تنفيذ برنامج التغطية الصحية، بموازاة مع إعادة النظر، بشكل جذري، في المنظومة الوطنية للصحة. - الإسراع بإنجاح الحوار الاجتماعي، ودعوة مختلف الفرقاء إلى بلورة ميثاق اجتماعي متوازن ومستدام. - إصدار ميثاق اللاتمركز الإداري داخل أجل لا يتعدى نهاية شهر أكتوبر المقبل، بما يتيح للمسؤولين المحليين اتخاذ القرارات اللازمة للتنمية. -الإسراع بإخراج الميثاق الجديد للاستثمار، وبتفعيل إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار، وتمكينها من الصلاحيات اللازمة للقيام بدورها. - اعتماد نصوص قانونية تنص على تسريع وتبسيط تفاعل الإدارات مع الرد على الطلبات المتعلقة بالاستثمار. في العمق إذن، تقدم الملكية جوابا اجتماعيا على أسئلة المرحلة، وهو ما يعني أنها تنتصر لتأويل للوقائع والأحداث لا ينحاز في عنوانه العريض الى ما ظلت تردد أطياف مختلفة من الفاعلين أنه أزمة في السياسة. مقابل مفردات الأزمة، يحفل خطاب العرش بخلفية عامة تحيل على تاريخ طويل من القدرة على التعايش مع "المراحل الصعبة" و"التهديدات" و"التحديات" و"تقلبات الظروف"، وهو ما يجعل من معالجة الاختلالات ومواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية جزءا عاديا من حياة سياسية طبيعية. تسمح، من الناحية البيداغوحية، هذه الخلفية بتنسيب النظر للقضايا موضوع النقاش العمومي، وبتجاوز المقاربات الدراماتيكية المنتجة حولها، وهو ما يشكل واحدا من استراتيجيات خطاب يريد الطمأنة وبث مضامين الثقة داخل محيط تتقاذفه خطابات اللايقين. في المضمون، يبصم خطاب العرش على انزياح ملحوظ من سجل النقد القاسي، ليعود إلى سجل التوجيه والتأطير. التفكير في فرضيات هذا الانزياح يقود إلى التساؤل ما إذا كان يستبطن تقديرا ملكيا لفشل باقي الفاعلين في النهوض بمسؤولياتهم واستعادة زمام المبادرة في المستويات الاستراتيجية والتنفيذية. توجيه الحكومة والبرلمان، وتأطير وإعادة تأطير الفعل العمومي، ورسم أجندة السياسات الاجتماعية والاقتصادية ذات الأولوية، ولكن كذلك الإعلان عن تدابير بنفس إجرائي وبأفق زمني قصير وبأهداف وغايات واضحة. إننا في الواقع أمام تثبيت لموقع المؤسسة الملكية كمشرفة على الزمن الاستراتيجي، بل وكقائدة فعلية للعمل التنفيذي؛ إذ إن التخلي الإرادي للحكومة عن مساحاتها الدستورية، أو عجزها الذاتي عن ممارسة صلاحياتها، لن يعني ترسيما للفراغ. في المعنى نفسه، يعيد خطاب العرش تعريف قضية الدعم الاجتماعي باعتباره مشروعا اجتماعيا استراتيجيا أكبر من أن يبقى رهينا للزمن الانتخابي القصير والمتقلب. يتقمص خطاب العرش ملامح نص حول السياسات العمومية؛ إذ يتضمن حزمة من الإجراءات ذات الصيغة الاستعجالية المقترنة بآجال التنفيذ، في ميادين موزعة بين دعم التمدرس والتغطية الصحية والدعم الاجتماعي والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية والاستثمار، ويضع أمام السياسة الحكومية غايات وأهدافا تهم منظومة الحماية الاجتماعية وأسسا لتعاقد اجتماعي جديد. لكن في ما وراء سطور المتن، تكمن رؤية جديدة/ قديمة لملكية أكثر انخراطا في التدبير العمومي. رؤية تنطلق من مدخل الاشراف الاستراتيجي وصلاحية تحديد السياسة العامة لكي تصل إلى مشارف التتبع الإجرائي والتنفيذي للسياسات، مستندة إلى مفارقة توازي الطلب الواسع على الدولة الاجتماعية المتدخلة، مع "الزهد "الإرادي لباقي المؤسسات في مباشرة اختصاصاتها، وتراكم مظاهر هشاشة عامة في التدبير الحكومي. *أستاذ جامعي