اللّحظة الأولى كانت لحظة مركبة. فيها توليفة فريدة بين علمانية لا تعادي الدين ولا تفصله عن الدولة وعقلانية مكافحة، لكن ضمن الأفق الديني الإسلامي، وبهدف إحداث ثورة دينية عجز عنها أهل الدين فتولى أمرها أهل الدولة. هي لا محالة لحظة التميّز بالحداثة وبالعقلانية كما تلقاها الزعيم بورقيبة عن فلاسفة الأنوار والمدرسة الوضعية لأوغست كومت، ونقد الموروث الديني، فكرا ومؤسسة ورجالا، بسبب تكلسهم وانغلاقهم على متطلبات التطور. ولكنها أيضا مشروع لتجديد وتوسيع الأفق الديني الإسلامي، وتوظيف النص القرآني والسنّة المحمدية في معركة الخروج من التخلّف ضمن قراءة عصرية وثورية. ولذلك لم تكن معركة بورقيبة ضد الدين، خلافا لكمال أتاتورك، بقدر ما كانت معركة ضد إسلام "محنط" وإسلام الطرق الصوفية "المغيّب للعقل". هي ثورة كانت تونس وكل العالم العربي والإسلامي في حاجة إليها، وقد نادى بها دعاة الإصلاح الراديكاليون أمثال محمد عبده والكواكبي في المشرق العربي، وعبدالعزيز الثعالبي والطاهر الحداد في تونس، وابن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، وعلاّل الفاسي في المغرب. ولكن بورقيبة ذهب بهذا الإصلاح الثوري إلى أبعد مداه، بل وقع في مبالغات وتجاوزات، منها إبراز غير متوازن لسلبيات الموروث، ومنها احتقار المؤسسة الزيتونية ورجالها إلى حدّ الإهانة والإقصاء، ومنها تقديس الجديد والحطّ من كل ما هو تقليدي وقديم، بدءا بالفكر، ومرورا بالسياسة والحزب الذي انتمى إليه، وانتهاء بالهيئة واللباس، رجاليا كان أم نسائيا. نعم كانت حداثة مواجهة في خدمة مشروع مجتمعي للخروج من التخلف والارتقاء بالمستوى المادي والفكري والأخلاقي للتونسيين. ورغم جرأتها البالغة، سواء في مجال التمكين للمرأة (خلافا لما ادعته النسوية المصرية نوال السعداوي) أو إزاء الممارسة الدينية (الدعوة إلى الترخيص في إفطار رمضان)، فقد وقفت عموما عند حدود المقدسات الدينية الأصلية، ولم تمس بالأخلاق المقبولة اجتماعيا، بل استنكرت، في لحظة وعي، مظاهر الانحلال، الذي كان من المضاعفات الثانوية للتحديث والتغيّر الاجتماعي والثقافي السريع. باختصار، كانت البورقيبية، وفق قراءتنا هذه، ثورة من داخل الإسلام لا ثورة على الإسلام. اللحظة النوفمبرية، على خلاف الأولى، هي لحظة التعاطي الأداتي الصرف، وبالتالي التلاعب بكل من الإسلام والحداثة. هي توظيف مخادع لبعض الرموز الدينية، وتلويح كاذب بعناوين أو شعارات الحداثة. ففي الجانب الأول لم تكن بعض التنازلات الشكلية لمظاهر احترام الدين سوى عملية لتوسّل الشرعية الدينية، ومداواة الجروح التي خلّفتها العقلانية المكافحة، ولسحب البساط من تحت أقدام الخصم السياسي الإسلاموي، وسرعان ما تركت المجال لحرب شاملة هدفها اجتثاث الأسباب الفعلية أو المفترضة للمدّ الإسلامي، وقمع تعبيراته الفعلية منها والوهمية. هكذا تم تدجين جامعة الزيتونة وتحديث برامجها بطريقة فوقية وقسرية أشبه ما تكون بالاغتصاب الفكري، مع تحويلها إلى فضاء خاضع للرقابة البوليسية والتجمعية المشددّة. وفي السياق نفسه كانت محاربة تسييس المساجد تعلّة للتحّكم في كل نشاط مسجدي ومراقبة مظاهر التدّين. كما كانت مطاردة الحجاب والمحجبات في الفضاءات العامة والمؤسسات العمومية مؤشرا قويا على الهوس الذي أصاب النظام، فجعله يتصوّر تحت كل حجاب عقلا إسلامويا، كما أعماه عن الأسباب الاجتماعية المتعددة التي أدّت إلى انتشار الحجاب من جميع الأشكال، والكثير منها لا علاقة له بالسياسة ولا بقوّة التدّين. وفي كل ذلك لم يكن بنعلي وأركان نظامه أصحاب مشروع مجتمعي ورؤية تاريخية، حتى وإن جيّروا العناصر المرتزقة واستغلوا قناعات العديد من المثقفين والسياسيين. كانوا مجرد أصحاب مواقع ومصالح استحلوا من أجلها الحرمات وهتكوا الأعراض وداسوا على القيم النبيلة والمبادئ الحقوقية الكونية التي أوهموا الغرب بأنهم يدافعون عنها ضد جحافل الظلامية. لقد بلغ بهم الأمر حدّ الإذن لجلادي غرفة التعذيب بمكاتب أمن الدولة بتعليق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نكاية بكل من تسوّل له نفسه تحدّي البطش. لذلك كانت حداثتهم الفكرية والسياسية زائفة، وحداثتهم المجتمعية كاذبة، مجرد واجهة لتونس واحتفاء بمظاهر الحداثة دون جوهرها ودعاية توهم الغرب باحترام مقدساته في مجال الحريات مع دوسها بشكل يومي ومنهجي وسادي. تدريس مادة حقوق الإنسان وجوبا في الجامعات مع الامتحان فيها، وتخصيص خلية لحقوق الإنسان بوزارة الداخلية وكله بهتان. مصادقة على المعاهدات الدولية المنادية بحقوق المرأة وحرياتها مع ملاحقة كل تونسية اختارت حرية وضع الحجاب. حداثة مزيفة وحداثة تقتصر على القشور والمظاهر، بدءا بإبراز صورة السيدة الأولى الجميلة والعصرية، وانتهاء بلافتات مكاتب العلاقة بالمواطن والمداخل المخصصة للمعاقين وشوارع البيئة، أي ما يحبه الغرب ويغفل عمّا عداه. اللحظة الثالثة ضمن المسعى الحداثي انطلقت إثر انتخابات 2014 وشهدت حدثين بارزين: الأول إقرار قاعدة التناصف ببعديه العمودي والأفقي في المجالس المنتخبة، وهي سابقة زايد بها حداثيو تونس على العالم أجمع بقدر ما أوقعونا في ورطة تطبيقها. أما الثاني فهو طرح الرئيس الباجي قايد السبسي فكرة المساواة في الإرث بين الرجال والنساء، وتكليفه لجنة متحمّسة لإعداد مشروع في هذا الشأن. وبرأينا، فإن هاتين المبادرتين تأتيان ضمن هجوم عام للمعسكر الحداثوي، من مؤشراته كذلك تصاعد الأنشطة الجمعياتية المدفوعة والممولة من الخارج لإثارة مشكل الأقليات و"الدفاع" عنها. ومنها أيضا تنامي الدعوات المدعومة من الخارج لأجل تقنين النشاط العلني لجمعية "شمس" للمثليين الجنسيين، والنشاط لفائدة حرية الدعوة للإلحاد. يلاحظ من قراءة أولى أن هذا الزحف الحداثوي موجّه بالأساس نحو إغراء وجلب الفئات الثلاث، التي تعتبر اليوم رأس حربة التغيير الاجتماعي والثقافي، وهي النساء والشباب والأقليات "الثقافية". ويمكن أن يضيف إلى ذلك المدافعون عن هذه المبادرات بكونها تستهدف تعميق أو ترسيخ مكتسبات الحداثة في تونس عبر إنجاز ثان غير مسبوق في العالم الإسلامي، بعد ذلك الذي سجله التاريخ لبورقيبة في أوت 1956. لكن ثمّة قراءة ثانية مكمّلة للأولى، وهي أنه يصعب الفصل بين هذه التحركات والتحوّل الذي حصل في مواقف طيف واسع من الحداثيين إزاء التوافق الوطني الذي جسده دستور 2014. فهذا المنجز كان ثمرة مفاوضات مضنية تخلّلتها مواجهات طيلة سنتين أفضت إلى تنازلات ووقوف على المشترك أو المتكامل من المبادئ والقواعد التي تعطي للتونسيين إطارا مقبولا للتعايش. وبالمناسبة، فإن ما يقال عن "التوافق المغشوش" لا يميّز كما ينبغي بين التوافق الوطني الواسع كما حصل حول الدستور، وبين التوافق اللاحق، الذي حصل بين القيادات المتنفذة في حزبي النداء والنهضة لأجل خدمة مصالح حزبية وفئوية. المهم أن أطرافا كانت أو لا تزال تنتمي إلى النداء والأحزاب اليسارية والقطاعات الجمعياتية والحقوقية وبعض الإعلاميين لم تكن قابلة أصلا بما جاء في دستور 2014 من توفيق أو إن شئنا تكامل بين إسلام تونس ومدنية نظامها وبين احترام حرية الضمير واحترام المقدسات الدينية. وفي ضوء ذلك لا نتعجب أن نشهد اليوم إحياء الخلاف، الذي جدّ عند مناقشة مسوّدة الدستور وعودة الموقف الحداثوي المقاتل، الذي يدّعي أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى المواثيق المتفرعة عنه، يمثل أعلى مرجعية قيمية يتم الاحتكام إليها، وأن كونية حقوق الإنسان تسقط، بل تلغي الموروثات الدينية أو التقاليد الثقافية، التي تتعارض مع بعض فصول الإعلان المذكور. من الواضح أن النخب التي تقف هذا الموقف تغفل حقيقة كون المواثيق ذات الصلة ليست سوى صياغة لسلم القيم الذي أنتجته الحداثة الغربية الغازية، وأن صلاحية هذه المبادئ في عمومها وحاجتنا إليها للدفاع عن حقوق الأفراد والأقليات المظلومة والفئات المعرّضة للميز لا تستتبع بالضرورة الالتصاق بحرفية نصوصها والتمسّك بتفاصيل بنودها، وأن للمجتمعات والدول حقوقا في التحفظ على بعض ما ورد فيها، بالنظر لخصوصية معتقداتها أو منظومتها الأخلاقية أو عاداتها أو حتى لتقديرات تتعلق بتفاعلات هذا المجتمع أو ذاك مع القيم الوافدة عليه. على أن ذلك لا يعني تحول التحفظات المشرعة إلى صيغة مقنعة لإفراغ الميثاق العالمي من محتواه وتعطيل مبادئه. وفي هذا الصدد يطرح "الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان" الصادر سنة 1990 مشكلا حقيقيا عندما يجعل من الخصوصية تعلة للاعتراض على ممارسة الحقوق المدنية العامة كحرية الضمير والعقيدة، بما في ذلك حق تغيير الدين، باسم الدفاع عن الدين الإسلامي. وحول هذه النقطة يجدر التذكير بالكيفية التي تعاملت بها الحكومات التونسية مع اتفاقية "سيداو" حول القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. كانت تونس قد صادقت سنة 1985 على هذه الاتفاقية بعد ست سنوات من اعتمادها من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن مصادقتها جاءت مرفقة باحترازات على ما ورد بالفصول المتعلقة بالمساواة في الإرث وبحق المرأة في إسناد لقبها العائلي أو جنسيتها إلى أطفالها، وحقها في اختيار مقر الإقامة، مع الحصول على الحقوق نفسها كالرجل فيما يتعلق بالولاية والقوامة. وقد أوضحت الدولة التونسية، آنذاك، أنها لن تتخذ أيّ قرار تنظيمي أو تشريعي طبقا لمقتضيات اتفاقية "سيداو" من شأنه أن يخالف أحكام الفصل الأول من الدستور. إثر الثورة ومجيء حكومة قائد السبسي قامت هذه الأخيرة في أكتوبر 2014، وهو تاريخ يثير أكثر من سؤال، برفع التحفظات المشار إليها، ثم جمّدت حكومة الترويكا هذا القرار، ولم تقم بإيداعه إلى أن جاءت حكومة المهدي جمعة، فالتزمت برفع جميع التحفظات. ومن الواضح أن المسألة لا تتعلق فقط بتحوّل "طرأ" في الأثناء على فهم "التونسيين" لإسلامهم أو طريقة تعاملهم مع مسألة حقوق كل من الرجل والمرأة. فالعامل السياسي كان حاضرا بقوة في القرارات التي تلت الثورة. وعلى كل حال، فقد سارت الأمور بعد ذلك باتجاه رفع القيود عن حقوق المرأة، ممّا لم يثر حرجا كبيرا في علاقة الدولة بالمجتمع الأهلي، إلى أن وصلنا إلى ما يعتبره البعض العقدة الرئيسية في علاقة الرجل بالمرأة، أي موضوع المساواة في الإرث. وحتى لا يكون ثمّة سوء فهم، نوضح أن ما سيلي لا يتعلق بموقفنا الشخصي من هذه المسألة، وإنما بقراءة من موقع الباحث والمتابع للشأن العام والمهتم بأن تكون الأغلبية الشعبية متقبلة لقرارات كبرى من هذا النوع بدل وضعها أمام الأمر المقضي في تكرار لتجربة بورقيبة في استخدام التشريع لإحداث التغيّر الاجتماعي، رغم اختلاف السياق والموضوع. التسوية في الإرث: مطلب اجتماعي أم مشروع نخبوي وحساب سياسي؟ لنتوقف عند مشروع المساواة في الميراث، الذي يسعى الرئيس قائد السبسي والدائرة المحيطة به إلى إعداده لمصادقة مجلس النواب عليه، مع احتمال إلزام كافة التونسيين والتونسيات بالعمل به. يطرح هذا المشروع مسألتين هامتين: أولاهما مدى مقبوليته الاجتماعية، وبالتالي شعبيته. وثانيتهما مدى إلحاحية الحاجة إليه وفائدته لحلّ المشكلات والصعوبات التي تمر بها تونس في المرحلة الراهنة. ورغم وعينا بما يمكن أن يثيره نقدنا للتعاطي الإيديولوجي والسياسوي مع هذه القضية من ردود فعل بعيدة عن العقل، وإدراكنا لوجود ضغط فكري قوي يمارسه الوسط الحداثوي والنسوي للدفع إلى ما يريده، ولو بإقصاء الرأي المخالف، فإننا مصرّون على انتزاع حرية الكلمة وممارسة حقنا في الدعوة إلى معالجة موضوعية ورصينة لهذه المسألة. وسنعتمد في ذلك ما جاء في معطيات بحثين علميين تناولا أبرز جوانب المشهد الديني في تونس واتجاهات وممارسات التونسيين ذات العلاقة بالشأن الديني. وليس بخاف أن هذه الاتجاهات تمثل حصيلة تطوّر تاريخي بدأ مع صدمة الحداثة منذ قرن ونصف، وشهد مراحل وصيغا عدّة من تفاعل مجتمعنا بموروثه وتقاليده مع تيارات الحداثة، وبالخصوص ما حرصت الدولة الوطنية على رسمه وتجسيده من سياسات تربوية وثقافية ودينية يقودها هاجس التحديث، وكان لها أعمق الأثر في تنشئة أجيال التونسيين. خلافا لما ادعاه بعض السياسيين والإعلاميين سنة 2016 بأن غالبية من التونسيين تبلغ 85 بالمائة موافقة على التسوية في الإرث، ودون الاستناد إلى سبر آراء علمي تنجزه مؤسسة ذات مصداقية، فإننا سنورد نتائج بحثين ميدانيين متتاليين أنجزتهما مؤسسة بحث مختصة ومهنية على عينة ممثلة من التونسيين. البحث الأول أنجز في نهاية سنة 2014 من قبل منتدى العلوم الاجتماعية التطبيقية، بالاشتراك مع المرصد الوطني للشباب والمعهد العربي لحقوق الإنسان، وصدرت نتائجه في تقرير الحالة الدينية بتونس لسنة 2015، وكان كاتب هذه السطور هو المنسق العلمي للتقرير. وقد كشف البحث أن نسبة هامة من التونسيين تبلغ 66 بالمائة ترفض فكرة المساواة في الإرث. أما البحث الثاني، الذي أنجزته المؤسسة نفسها بالاشتراك مع مؤسسة مؤمنون بلا بحدود في نهاية سنة 2015، فقد صدر منذ أسابيع بالمجلّد الرابع من كتاب "الحالة الدينية في تونس 2011-2015"، وقد ساهمنا في هذا الجزء الرابع في تحليل جانب من معطيات البحث الميداني. وهذا ما أوردناه بخصوص النقطة المتعلقة بالإرث: "تبقى مسألة الإرث، وهي التي تردّد بشأنها بورقيبة، كما يتحفز على المساس بها قطاع كبير من النخبة الحديثة لوجود حكم قرآني صريح فيها، وربما لانعكاساتها على التوازن التقليدي بين المجتمع الرجالي والمجتمع النسائي. على أن ذلك لم يمنع التيّار النسوي من الإلحاح على طلب التسوية في الميراث، كما حصل من جمعية النساء الديمقراطيات، وكما تجلى من مبادرة اقتراح قانون أساسي على البرلمان قدّم في شهر ماي 2016 وطالب بإرساء قاعدة التسوية في المنابات". "أما عن الرأي العام التونسي فيتضح من معطيات المسح الحالي أن ما يقارب ثلثي التونسيين يرفضون المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة (64,7 بالمائة) مقابل 7،27 بالمائة يعتبرونها مقبولة، و6،7 بالمائة يعتبرون أن المسألة مندرجة في باب الحريات". "من ناحية ثانية يتكرر الفارق في الرأي بين الجنسين حتى وإن نزلت نسبة النساء الموافقات على المساواة، إذ بلغت 42 بالمائة مقابل 58 بالمائة حالات رفض، بينما استمر الرجال على رفضهم بنسبة تبلغ 6،71 بالمائة. وفي كل الحالات، فإن النتائج التي انتهى إليها بحثنا تبيّن بطلان ما سوقته بعض مؤسسات سبر الآراء في شهر ماي 2016 بأن 85 بالمائة من التونسيين موافقون على قسمة الميراث بالتساوي، والذي جاء في سياق مبادرة تشريعية بهذا الشأن". ما الذي يمكن قوله إزاء هذه المعطيات؟ ولنفترض جدلا أن الرجال جميعهم يعارضون المساواة لأنها تضر بمصالحهم، فكيف نفسّر عدم تحمّس أغلب النساء، وهن النوع الاجتماعي المفترض أن يستفيد من هذا التشريع؟ مع الأسف، لم تتضمن استمارة المسح التتبعي للحالة الدينية أسئلة تتعلق بالمبررات، علما بأنه بحث استطلاعي ويغطي نقاطا كثيرة. بيد أن استقصاء أوليا قمنا به أظهر وجود مبررين لعدم الحماس يترددان لدى كل من العنصر النسائي والرجالي. الأول هو رفض الخروج على النص الديني المقدّس الذي ضبط قواعد الإرث، بمعنى أن مشروع التسوية في الإرث يصادم بديهيات قسم من التونسيين لا يرون من الموجب أو الجائز الاجتهاد في حكم قرآني صريح. وهذا الرأي قد يردّ عليه المناصرون والمناصرات للتسوية بأنه يحيلنا إلى مقولة "الوعي الخاطئ" العزيزة على الماركسية، ممّا يعني أن ثمّة نخبة عالمة بمصلحة الناس ولها الحق في إلزامهم بها. أمّا المبرّر الثاني الذي يسوقه تونسيون وتونسيات لعدم المطالبة بالمساواة في الإرث والتحفظ إزاء مشروع قائد السبسي فهو أن لتونس أولويات ليست هذه من بينها. ثمّة أوضاع اقتصادية واجتماعية منخرمة وشواغل حارقة، خاصة لدى الشباب، في مقدمتها إيجاد حلول للحد من البطالة وفتح آفاق العمل لحملة الشهادات. ففي ظل المشاكل الحالية ألا يمثل طرح موضوع الإرث للحل هروبا من مواجهة مصدر الوجع؟ ماذا يفعل الشباب الذي ليس أمامه شيء ذو بال يتقاسمه من تركة الوالدين؟ وهل المطلوب هو تقاسم العوز أو البؤس بالتساوي؟ هل هذه قضية الشعب أم قضية أقلية مرفهة أو نخبة نسوية مؤدلجة؟ ولماذا يتجه التمييز الإيجابي والتمكين هذه الوجهة بدل أن يذهب أولا لفائدة المناطق المحرومة من التنمية حتى ينهض بالأوضاع الرثة للكثير من بناتها وأبنائها. وفي النهاية ألا تكون وراء هذا المشروع وهذه الحملة غايات سياسية، حيث يراد منه تعبئة النساء لخدمة انتخابات 2019؟ إن تأويل طرح قائد السبسي لمشروعه بالسعي إلى استعادة ثقة وأصوات المليون امرأة اللائي رفعنه إلى سدّة الرئاسة يبدو لنا معقولا. وبالمناسبة نفسها سيكون ذلك اختبارا وإحراجا للمنافس الرئيسي والصديق المؤقت، أي حركة النهضة. فهذه الأخيرة تجد نفسها منذ مدة موضع ابتزاز بخصوص حقيقة أو درجة مدنيتها. وللتذكير فقد سبق أن رضخت للضغط الإيديولوجي أثناء كتابة الدستور، وخاصة إبّان الحملة التي قادها قائد السبسي بالذات على مقولة التكامل بين الرجل والمرأة، والتي اعتبرت بصورة اعتباطية نقضا لمبدأ المساواة. قاعدة التناصف: صنم آخر! وفي تقديرنا أن المجتمع التونسي في مجمله هو موضوع أو هدف لحملة شاملة مبشرة بإيديولوجية حداثوية كليانية، كان من تجلياتها أيضا فرض مبدأ التناصف العمودي والأفقي في القائمات المرشحة للانتخابات المحلية والجهوية. كان من الممكن، نظريا، اقتراح صيغة انتقالية في إطار التمكين للمرأة وإعطائها حظوظا حقيقية من دون التعسف على الواقع، مثلا بتخصيص ثلث الترشحات للمرأة أو غيرها من الصيغ المرنة والواقعية. إذا أردنا عدم السقوط في النفاق والديماغوجية فينبغي الاعتراف بأن أوساطا عدّة بالمجتمع التونسي، سواء من الفئات الشعبية أو في القرى والأرياف، ليست مهيأة ثقافيا وفكريا لهذا التناصف الذي يتم الدفع إليه بكل قوة، والدليل على ذلك إجهاض العديد من مشاريع القائمات للانتخابات البلدية لشهر ماي 2018 لتعذر إيجاد العدد المطلوب من المرشحات. ثمّة قائمات لم تتجاوز هذا العائق الذي لم يتكلم عنه أحد إلاّ لقاء تنازلات أو مقايضات سياسية لم تكن سهلة. كما أن من المحتمل استغناء بعض القائمات عن العناصر النسائية، التي تم اللجوء إليها لمجرد الاستجابة للقاعدة القانونية، على أن تقع الاستقالة لاحقا لفائدة الرجل الذي يأتي في المرتبة الموالية. هذا المشكل الذي أحيط بالصمت المطبق بسبب الحرج الذي يحدثه وعدم تحمّل سائر الأطراف السياسية مسؤوليتها الأخلاقية إزاء المزايدات النسوية ينبغي مواجهته بشجاعة، خاصة وهو يهدد بالتعمق والتوسع، في ظل المطالب النسوية الجديدة، التي لا يزعجها أن تمارس التعسف الإيديولوجي والثقافي على المجتمع المكوّن في جزء كبير منه من نساء لا يرين هذه الأصوات ممثلة لهن. ففي بلاغ للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات صدر إثر الانتخابات البلدية مباشرة، طالبت الجمعية بتنقيح القانون الانتخابي من أجل تعميم التناصف الأفقي والعمودي في الانتخابات التشريعية القادمة. كما ذكرت بمطالبها في اعتماد القاعدة نفسها في سائر الهياكل، سواء كانت منتخبة أو معيّنة! ما هي دوافع هذا الضغط الجديد بعد أن أصدر المجلس النيابي قانونا انتخابيا يزايد فيه على العالم أجمع، ولم تتجرأ حتى الديمقراطيات الغربية ولا الأنظمة الشيوعية على إحلاله في ديارها؟ هل ذلك لمجرد التسويق لصورة تونس الحداثية أو ثورتها الديمقراطية، أي لتلميع الواجهة؟ أم هو أيضا تحضير لمواجهة من لهم تحفظات، سواء على المساواة في الإرث أو على تعميم التناصف، وهي تحفظات ليست دينية بالضرورة، وإنما تتعلق بتقدير ما تسمح به المرحلة وما تمليه من أولويات . ولا بأس أن نضيف أن قاعدة التناصف العمودي والأفقي اشتغلت كعامل تمييز بين الأحزاب الصغيرة والأحزاب الكبرى، التي تقدر لوحدها على حشد ما يكفي من الترشحات النسائية في كل دائرة. إنها لمفارقة أن نستنتج بأن هذا القانون غير ديمقراطي ولا يخدم إلاّ الأحزاب العملاقة التي اقترحته أو وافقت عليه، إرضاء لمصالح سياسية أو نزوات إيديولوجية. *أستاذ وباحث تونسي في علم الاجتماع