دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محنة تونس .. أسطورة "ثورة الياسمين" وطموح "صنم الحداثيين"
نشر في هسبريس يوم 26 - 07 - 2018


الحلقة 2
كل الشعوب تحتاج إلى إنتاج وتداول الأسطورة والرموز والمخيال، لأجل إضفاء المعنى على وجودها وتأويل الأحداث المفصلية في حياتها وشرعنة أنشطتها وطموحاتها؛ ومنها تلك المتعلقة بالشأن السياسي.
ولذلك، نجد أن كل القوى الاجتماعية والأحزاب والسلطات السياسية تعطي مكانة للأسطورة، سواء كحدث بدئي تأسيسي أو كرؤية للكون ومكانة الإنسان فيه؛ بل نجدها تصنع الأسطورة على طريقتها ومعها المعتقدات والإيديولوجيات التي تبرر أفعالها.
ويمكن أن نعبّر عن نفس الفكرة بالقول إن كل جماعة تشارك في ثقافة سياسية تتضمن الغايات المثلى والقيم المحورية وتوظف فيها الرموز التاريخية والشخصيات البطولية والعبارات الطقوسية-السحرية والشعارات التعبوية.
وقد شاءت ظروف وملابسات اندلاع الثورة التونسية أن تشترك أطراف تعتبر متعارضة بل متعادية في الأنشطة والرمزيات نفسها، حتى وإن وظفها كل طرف طبق مرجعياته واستخدمها لمصلحته. وهذا ما يمكن معاينته بخصوص أسطورتي الثورة والحداثة.
الثورة التونسية.. الرمز والصنم
فتح حدث رمزي بامتياز هو انتحار محمد البوعزيزي احتجاجا وغضبا لكرامة أهيمنت مرحلة بدأت بسقوط رأس النظام ولم تنته بعد، سمّيت بالثورة وسمّيت أيضا بسيرورة الانتقال الديمقراطي. تشكيلات وشخصيات سياسية؛ منها المحسوب على المعسكر الثوري أو التقدمي، ومنها ما يصنّف في خانة التيّار الإسلامي أو المحافظ، ومنها المتقلب والمتاجر والديماغوجي.
أطراف تنافست وتنازعت حول أهداف الثورة ومضمونها. في تلك اللحظة التي شهدت انهيار التجمّع الدستوري الذي ادّعى احتكار الرمزية الوطنية الحداثية، انحصر التنافس بين المرجعيات اليسارية والدينية والحقوقية الليبرالية؛ بيد أن أسهم الثورة كانت في صعود والسلعة السياسية الأكثر رواجا وموضوعا للمزايدة هي إقصاء "أزلام" النظام السابق. وكان من الطبيعي أن يتم عزل التمشي الإصلاحي من قبل الموجة الشعبوية الهادرة التي اقتحمت ساحة القصبة وأطاحت بالحكومة الأولى تحت شعار ورد على لسان الشهيد شكري بلعيد: "الشعب يريد الثورة ولا يريد الرشوة".
وخلال كل الأحداث التي تلت اعتصامي القصبة ورحيل الحكومة الانتقالية الأولى، من تشكّل روابط حماية الثورة وتنازع بين حكومة الترويكا وخصومها وأحداث درامية بلغت ذروتها مع الاغتيالات السياسية، وصولا إلى اعتصام الرحيل وانسحاب حكومة الترويكا، كانت العبارة السحرية "الثورة" غامضة المدلول وكل طرف يسقط عليها هواجسه الخاصة ويؤثثها بمخزونه الإيديولوجي؛ فاليسار الماركسي، بمختلف أطيافه الستالينية والماوية والتروتسكية، ظن أنها ستحقق أحلامه ونماذجه المحبذة، سوفياتية كانت أو صينية أو غيرها. والنهضويون أرادوا منها محاكاة النموذج التركي الأردوغاني المستساغ أكثر من النموذج الإيراني ذي الخلفية الشيعية، وحزب المؤتمر قبل انفجاره اقترح مزيجا راديكاليا شعبويا وحقوقيا.
رمزية الثورة التونسية تحولت عند القوى السياسية التي وظفتها إلى مقدّس لا يقبل التساؤل، بل إلى صنم.
لقد سارت الأمور بسرعة وبقوة تحوّل استحالة الانتفاضة/الثورة إلى أسطورة تقدم كمنافس أو نقيض لرواية الكفاح التحرّري تحت القيادة المتبصرة للمجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة. ويمكن الافتراض بأن الشعب التونسي كان بحاجة إلى أسطورة الثورة لمحو عقدين من الزمن من الصمت والخوف من آلة القمع ومنظومة الفساد النوفمبرية؛ ولكن عدّة قوى سياسية واجتماعية، بوعي أو بدون وعي، حوّلت رمزية الثورة إلى حدث مقدّس لا يقبل التشكيك فيه أو التساؤل حوله. كما حوّلت ضحاياها جميعهم إلى "شهداء وجرحى الثورة" دون تساؤل عن ظروف وأسباب إصابتهم، قبل أن تتضح إمكانات الاستثمار في رمزية الشهيد وتتزاحم عديد الأطراف الحزبية وغير الحزبية لنيل نصيبها من هذا الرأسمال الرمزي. باختصار، رفضت كل هذه القوى أي محاولة للاستفسار والنقد وتنسيب الأمور ولجم الانفعال بالعقل. وكما جعلت من الثورة أسطورة، فقد حولت وبسرعة الأسطورة إلى صنم حديث، وتحولت البلاد إلى ساحة تنازع ومزايدات ثورية بين شقين رئيسيين: شق مكوّن أساسا من حزبي النهضة والمؤتمر أسند إلى نفسه مهمة حماية الثورة من قوى الردّة كما سمّاها، واصطنع أو وظف روابط حماية الثورة لترهيب الخصوم من العلمانيين واليساريين والنقابيين. كما دفع بمشروع قانون "تحصين الثورة" لمنع أركان وأعوان نظام بن علي من مواصلة النشاط السياسي. وفي نسخة مضادة للأولى، ادّعت أحزاب الجبهة الشعبية وجزء من القوميين تمثيل الثورة وطالبت لنفسها بصفة الأطراف المناضلة الوحيدة أو الحقيقية ضد نظام السابع من نوفمبر، واعتمدت بدورها لغة قصووية وإقصائية سواء تجاه الدستوريين أو الديمقراطيين الإصلاحيين أو الإسلاميين مهما كان اتجاههم، أو من تحالف أو تحاور معهم كما فعل المرزوقي وأنصاره مع النهضة والسلفية العلمية.
ومن مظاهر تحويل الثورة إلى صنم أنها أصبحت وبسرعة لازمة للخطاب الرسمي مهما كانت الجهة التي يصدر عنها، أصبحت لازمة طقوسية وعبارة تتردّد حتى على ألسنة شخصيات وأحزاب لا دور لها في النضال ضد بن علي ولم تكن موجودة أصلا كظاهرة سياسية على غرار حزب آفاق والحزب الوطني الحر وغالبية مؤسسي وقياديي حزب نداء تونس.
هكذا، دفعت جلّ الأطراف نحو سيناريو المجلس الوطني التأسيسي لتنخرط إثر انتخابه في صراعات إيديولوجية طويلة ومضنية حول مضامين ديباجة وفصول الدستور، وخصوصا حول قضايا الهوية والانتماء والقيم المرجعية، فضلا عن التنافس حول احتلال الأجهزة الحسّاسة والسيطرة على المؤسسات الموجهة للرأي العام؛ وفي مقدمتها الإعلام.
حوالي أربع سنوات من التنازع أو التدافع العقائدي والحزبي انتهت إلى انتخابات 2014 وما تلاها من انقلاب في العلاقات بين حزب حركة النهضة، الذي وجد نفسه ملزما بالظهور في ثوب جديد وحزب النداء الذي جاء لرسكلة القوى الدستورية وتجميلها باليسار السياسي والنقابي "المستقل"، على حساب الشواغل الشعبية الملحة والمتعلقة قبل كل شيء بتحسين ظروف العيش، أي بالأمن المادي والاجتماعي.
حداثة الواجهة وحداثة المواجهة.. كونية الحداثة بين الطموح والمزاعم
لنبدأ قبل كل شيء بتبديد ما يمكن أن يحدث من سوء تفاهم بخصوص مقاربتنا النقدية لعلاقة مجتمعنا بالحداثة. إن الحداثة هي، قبل كل شيء، رؤية للكون ولمكانة الإنسان فيه ولأسس الرابطة الاجتماعية قامت على أسس ثلاثة:
الأول مركزية الإنسان في الكون وحقه المطلق في أن يعيش حياته ويصنع مستقبله دون الارتهان إلى قوّة اجتماعية أو دينية أو غيرها تملي عليه اختياراته. وهي بذلك اعتراف بحرية الإنسان وقدرته وحقوقه ككائن مفكر في تحديد قناعاته وأسلوب حياته وتنظيم علاقاته الاجتماعية. هذا هو المشترك وما عداه موضوع اختلاف وتعددّية بين من يرفض غير العقل إماما ويدّعي الاستغناء عن كل فكرة مسبقة، ومن يعترف بمكانة المعتقد والإيمان، وهو اختلاف أساسي صلب العقل الحديث وجد تعبيره عند كل من ديكارت وباسكال.
والأساس الثاني للحداثة كما انبثقت في الغرب هو تزامنها مع سيرورة علمنة أعطت لسعادة الإنسان في هذه الأرض مكانة محورية بعد أن كانت الكنيسة تحاصره بالرهانات الأخروية. على أن سيرورة العلمنة لم تكن وحيدة الاتجاه؛ بل اتخذت صيغا متنوعة، منها الإصلاح الديني البروتستانتي الذي أعطى مكانة كبيرة للعقل والعمل والعلم بوصفها ضرورة دينية، ومنها التيارات المادية الإلحادية كما حصل عند الموسوعيين، ومنها الإنسية الدينية، كما أن العلاقة فيها بين المؤسسة الدينية والسياسية وبينها وبين الدولة اختلفت من حال إلى حال.
أما المقوّم الثالث للحداثة فهو المكانة المركزية للشخص البشري واعتبار حقوقه كونية لا تقيّدها اعتبارات الدين والعرق واللون والجنس وحتى الحالة الاجتماعية. ولئن كانت الأديان والشرائع قد سعت إلى تغليب هذا البعد الإنساني على النوازع العدوانية والحيوانية عند البشر، فإنها أبقت على أشكال من التمييز تفسّرها السياقات الاجتماعية التاريخية لظهورها.
وفي عصرنا، أصبح الميثاق العالمي لحقوق الإنسان إطارا معياريا مقبولا في مجمله؛ ولكن يتعيّن الوعي والإقرار بأن بعض المواقف والصيغ الواردة به تعكس الإيديولوجية الليبرالية والثقافة الفردانية السائدة في الغرب، ومن الطبيعي أن تلاقي تحفظات في مجتمعات وعوالم ثقافية أخرى بشأن قضايا مثل حكم الإعدام في الجرائم البشعة بحق الأطفال والعجز، أو حرية الدعاية لممارسات تصادم الأخلاق العامة والعقائد الدينية.
يجدر الانتباه إلى اختلاف الطرق التي سلكتها المجتمعات الغربية إلى الحداثة وتنوّع الأنماط والصور التي تعيش بها حداثتها، وكذلك بالنسبة إلى المجتمعات الشرقية؛ فالحداثة متعدّدة، والحداثة في الواقع حداثات.
وعليه، فلئن شكّلت الحداثة موقفا يرتقي بالشرط الإنساني وأفقا مطروحا للنضال في المجتمعات المسلمة، بما فيها المجتمع التونسي، رغم كل ما تحقق فيه؛ فإن التعاطي مع بعض تعبيراتها الفكرية أو القيمية أو الإيديولوجية وتجلياتها التاريخية بوصفها مقدسات تتعالى على النقد وتمتنع على التنسيب إنما يصدر عن عدم المعرفة بأن الحداثة في الواقع حداثات، وكذلك عن قرار تعسفي بإضفاء القيمة حصريا على إنتاج الحداثة الغربية، بل على بعضه، ونزعها عن باقي الصور والمسارات الممكنة. يجدر الانتباه إلى اختلاف الطرق التي سلكتها أبرز المجتمعات الغربية إلى الحداثة وتنوع الأنماط والصور التي تعيش بها حداثتها في ضوء الموروث الفكري والثقافي والسياسي الخاص بكل منها. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، فالحداثة الإنكليزية بدأت بثورة بورجوازية تحت راية الدين البروتستانتي وبجمهورية راديكالية لم تعمر طويلا، لتنخرط إثر ذلك في مسار طويل من التطوّر التدريجي أو الثورة الهادئة التي كرّست النظام الليبرالي مع الحفاظ على التقاليد ودون قطيعة بين الدولة والكنيسة، وأيضا مع فسح مجال لممارسة اللامركزية. أما الحداثة الفرنسية فانطلقت مع عصر الأنوار الذي تلاه أكبر وأطول زلزال ثوري إذا اعتبرنا ارتداداته، قادته بورجوازية راديكالية معادية لكل من الدين والكنيسة والملكية وذات نزوع مركزي يعقوبي. وقد تكرّست هذه التوجهات من خلال الإيديولوجيا اللائكية المكافحة والفكر الوضعي الذي كاد يحتكر الساحة. ويمكننا أيضا التنويه إلى خصوصيات والطرق الألمانية والأمريكية والأسكندنافية.
ولا يقتصر الأمر على اختلاف المنطلقات والمسارات والتجارب القومية في إطار الحداثة الغربية، بل يطال أيضا التعبيرات الفكرية والإيديولوجية التي تتجاوز الأوطان والثقافات القومية. فالحداثة عند الليبراليين ليست مطابقة للتي يتمثلها ويعمل من أجلها الاشتراكي أو الشيوعي أو الفاشي.
وأخيرا لا ننسى أن النزوع الشمولي والتسطيحي للحداثة خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين قد أفرز رفضا ومقاومة لدى قطاعات اجتماعية وردود فعل مجتمعية مثل إعادة الاعتبار إلى الجماعة في وجه مجتمع الأفراد، وللعاطفة والمخيال والاعتقاد في وجه الفلسفات والايديولوجيات العقلانية والوضعية والعلموية.
وإذا ما تحوّلنا من الغرب إلى الشرق فإن الظاهرة نفسها، أي تعدّد وتنوّع الحداثات، تفرض نفسها على الملاحظ؛ فالأخذ بعلوم الغرب وتقنياته وتبني الكثير ممّا يقترحه من مبادئ وقيم ذات بعد إنساني وعالمي لم يحل دون أن تشق البلدان التي أنجزت تصنيعها ولا تلك التي تلتحق بها الآن من الأقطار الصاعدة سبلها الخاصة إلى الحداثة، سواء في ذلك روسيا التي لم تتخل عن النزعة القيصرية من ستالين إلى بوتين كما استرجعت بعد القوس الشيوعي تقليدها الديني الأرثوذوكسي، وكذلك اليابان التي بنت أنموذجها الرأسمالي المتطور ولكن الخصوصي بالمزاوجة بين منجزات الغرب الحضارية وتقاليدها الشينتوية والبوذية والقيم المستمدة من ماضيها الإقطاعي وثقافتها الأبوية كالوفاء والتضحية والانضباط، وأيضا الصين التي استعادت من ماو إلى الرئيس الحالي تقليد الإمبراطورية والكونفيشيوسية وهي تقدّم اليوم أنموذجا طريفا لرأسمالية صاعدة ذات قدرة تنافسية عالية في ظل حكم شيوعي !
أمّا بالنسبة إلى البلدان الإسلامية، فمن المهم الإشارة إلى تجربتين مختلفتين ومتميزتين لاقتحام عالم الحداثة من بوابات مختلفة وبأساليب مختلفة وبتوظيف عناصر ثقافية ودينية متنوعة. والمقصود حالتي ماليزيا وإيران اللتين مزجتا بين التحديث التكنولوجي والثقافة المحافظة وحققتا الكثير. في الحالة الأولى بفضل وجود مشروع وطني مجمع عليه وفي الحالة الثانية بفضل مشروع بناء قوة يحظى بالتفاف شعبي وتدفع إليه عقيدة ألفية.
وعليه، فالمطلوب التحرّر من الوهم الذي يتصوّر أن الحداثة واحدة وأحادية، وأن مقياس الحداثة لا يمكن أن يكون إلاّ غربيا؛ بل سليل الثقافة الفرنسية، كما هو تصوّر الغالبية الساحقة من النخبة التونسية الحداثية. المطروح على نخبنا الاعتراف بواقع وبفائدة تعدّد الحداثات على أرضية المشترك الإنساني الكوني، وبالتالي توخي المرونة في تنزيله على الدوائر الجغراثقافية المختلفة. ولكن أين نحن في تونس من كل هذا؟ وكيف تعامت وتتعامل، سواء نخب السلطة أو نخب المعارضة عندنا، مع هذه الاعتبارات؟
الانخراط اللامشروط في الحداثة.. تذيّل للغرب وتنصّل من ماضينا وتنكّر لذاتنا
يشكّل الانخراط في الحداثة والسعي إليها عبر سياسات التحديث منذ عقود قاسما جامعا بين مختلف الأطراف والتيارات المنادية بالتنمية والتقدّم الاجتماعي وتجسيد حقوق وواجبات المواطنة واحترام الحريات؛ بدءا بالتكتل الدستوري ومن يعتبرون أنفسهم امتدادا له، مرورا بالأطراف الديمقراطية والاجتماعية الوسطية وانتهاء باليسار الماركسي. بيد أن هذا المعجم المشترك والذي شارك فيه إسلاميو النهضة منذ منعطف الثمانينات؛ بل أصبحوا يعتبرونه جزءا من مشروعهم المجتمعي إنما يخفي وجود خط تباين رفيع أو سميك حسب المواضع، بين رؤيتين: الأولى تتبنى منظومة القيم وأنماط الحياة التي أفرزها الغرب الحديث دون قيد ولا شرط، كما تجعل من الحرية الفردية أقدس الأقداس وفوق أي اعتبار، ولنسمّها حداثوية بسبب إسرافها. أما الثانية فهي حداثية بدورها أو مؤمنة بالضرورة الحيوية للانخراط في الحداثة؛ ولكن بمنظور نقدي واحترازات حول تأويل وتجسيم عدد من المبادئ الغربية المأتى.
وتعود صعوبة التمييز بين الرؤيتين والموقفين وبالتالي الكتلتين الحاملتين لهما إلى سياقات تاريخية مرت بها تونس؛ بدءا من الاستقطاب الإيديولوجي الحاد الذي دفع إليه نظام بن علي بين الإسلاميين والعلمانيين، واستطاع أن يجرّ إليه الأغلبية الساحقة من مكوّنات المعارضة باستثناء قلّة في مقدمتها الحزب الديمقراطي التقدمي. وفي لحظة ثانية، أدّت تجاذبات فترة حكم الترويكا إلى عودة الاستقطاب والى الخلط بين الخلاف السياسي والتموقع الثقافي والإيديولوجي؛ حتى أن هذا الأخير غطى على الخلافات في صفوف كل من الإسلاميين والحداثيين. وقد شهدنا، قبيل الانتخابات البلدية، محاولات جديدة للعب على الوتر نفسه من لدن بعض قياديي نداء تونس، إلى جانب مناورة ضخمة تعدّ لها الدائرة المحيطة برئيس الجمهورية في الاتجاه نفسه وضمن تكتيك يستهدف تكرار سيناريو الحملة الرئاسية لسنة 2014.
وعليه، فعندما نتحدث عن نخبة أو كتلة اجتماعية مؤدلجة، تجعل من الحداثة وثنا، سواء لعبادته أو للتلاعب به، فإننا نشير إلى وسط فكري وسياسي يتوزع اليوم من حيث انتماؤه أو ولاؤه أو صداقاته الحزبية بين ورثة التجمع الدستوري من حزب النداء وحزب مشروع تونس وأحزاب اليسار التي سبق أن تحالفت موضوعيا أو ذاتيا مع نظام بن علي لغاية محاربة ما سمّي بالظلامية وما زالت العديد من معاركها ما بعد الثورة تدور في الحلقة العقيمة نفسها، هذا إلى جانب عديد الجمعيات المسيّسة والتي تتبنى النهج نفسه وتخلط بين مفاهيم الإسلام والحركة الإسلامية وحركة الإخوان المسلمين والحركات السلفية؛ بل وحتى بينها وبين الإرهاب. كما تخلط بين التوجهات السياسية لحركة النهضة أو بالأحرى قيادتها المتنفذة وبين فكرها السياسي الذي ترفض إقرار بما عرفه من تطوّر وتجديد.
لا يعدم هذا التكتل الإيديولوجي والثقافي اختلافات في الانحياز الاجتماعي أو الطبقي؛ ولكنه يشترك في رؤية لمشروع تونس الحديثة تتمثل مرجعيتها في القيم المحورية للمجتمعات الغربية. كما يستنسخ أحدث الاتجاهات والنماذج الإيديولوجية الغربية، بل يزيد ويزايد عليها كما سنرى، مقابل نزع كل قيمة عن الموروث الثقافي العربي والإسلامي ووصمه بالتخلف والرجعية وحتى اللاإنسانية ومحاكمته بناء على آخر ما وصل إليه فكر التقدم وحقوق الإنسان. وهذه ليست اتهامات نطلقها جزافا بل مواقف قد تكون صريحة، وقد تأتي في شكل استعارات أو إيحاءات أو في قالب تحاليل "علمية" صدرت في السنين الأخيرة عن قياديي أحزاب وجمعيات وعن جامعيين مشهورين، وعن إعلاميين يتصدرون البلاتوهات التلفزيونية أو الإذاعات، وعن شعراء وروائيين أيضا، يستخلص من خطاباتهم أن الأربعة عشر قرنا التي مضت منذ ظهور الإسلام وقدومه إلى هذه الديار هي مرحلة كالحة، مرحلة نكوص أو تراجع حضاري وثقافي ومنطلق لإقامة نظام اجتماعي يقوم على اضطهاد النساء واسترقاق البشر وتحويل أهل الديانات الأخرى إلى ذميين يعيشون المهانة. صورة مؤدلجة تضخم حقائق جزئية فعلية عرفها تاريخنا لتجعل منها الحقيقة الوحيدة أو الرئيسية، مستعيدة بذلك الصورة النمطية التي شكّلها الغرب عن العرب والإسلام في سياق النزاعات التي دارت بينهما، والتي غطت بدورها على كل ما كان بينهما من معاملات مفيدة وتلاقح ثقافي وتبادل إنساني.
هذه الكتلة الثقافية/الإيديولوجية بالذات هي التي تقوم اليوم، بعضها عن حسن نية وبعضها قصدا، بمبادرات من شأنها توتير المناخ الفكري والثقافي وربما السياسي. ولكن ما يهمّنا في المقام الأول هو الطرف الذي يعد لأجندة سياسية بدأت تتضح معالمها، باستغلال كل من يجد من أحداث، بل بخلق الأحداث واستفزاز قسم كبير من الرأي العام، وآخر ظهورات هذا الطرف إعداده لمبادرة تشريعية جديدة حول تنظيم العلاقات بين الرجال والنساء محورها التسوية في الميراث، مبادرة تذهب إلى أبعد حدّ في تجسيد الموقف الحداثوي واستعجال تغييرات لا يوجد عليها طلب اجتماعي ذو بال، بل لا يبدو المجتمع في أغلبه متحمّسا ولا مهيأ لها كما سنحاول التدليل عليه أسفله.
هل يتعلق الأمر بالإعداد لقانون يندرج فعلا في نطاق العدالة الاجتماعية بين الجنسين ويسهم في مزيد النهوض بوضع المرأة التونسية، خاصة المرأة الشعبية؟ أم بتحقيق حلم أقلية ثقافية وإيديولوجية "طلائعية" ولو كان الثمن توترات اجتماعية وسياسية؟ أم بإضافة صورة جديدة مغرية لتونس حديثة جدا جدا، مهما كان الثمن؟ أم بخدمة أجندة سياسية انتخابية؟ هل هو تلميع جديد للواجهة أم تحضير للمواجهة؟
من أجل قراءة موضوعية ومسؤولة للّحظة الراهنة، يكون من المفيد موضعتها ضمن المسار التحديثي الذي انخرطت فيه النخب العصرية التونسية منذ تأسيس الدولة الوطنية، مع إبراز خصوصية كل مرحلة. وفي هذا الإطار، نذكر باللحظتين السابقتين من صراع ممثلي الحداثة مع خصومها المفترضين.
*خبير تونسي في علم الاجتماع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.