تقدم جريدة هسبريس لقرائها الأوفياء، داخل المغرب وخارجه، كتاب "عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر" لمؤلفه الدكتور علي الإدريسي، في حلقات، خلال شهر رمضان الكريم. هذا الكتاب، الذي تنشره هسبريس بترخيص من مؤلفه الدكتور علي الإدريسي منجما على حلقات، لقي ترحابا واسعا من قبل القراء المغاربة ولا يزال، إلى درجة أن الطبعتين الأولى والثانية نفدتا من المكتبات والأكشاك؛ بالنظر إلى شجاعة المؤلف في عرض الأحداث، وجرأته في تحليل الوقائع بنزاهة وموضوعية. الكتاب من أوله إلى آخره اعتمد الوثائق النادرة في التأريخ للزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بأفق وطني يتسع لجميع المواطنين المغاربة، على عكس الطريقة التي "اعتاد عليها أولئك الذين حاولوا احتكار الوطنية وتأميم مستقبل المغرب، والتحكم في مصير أبنائه قرونا أخرى"، يضيف على الإدريسي في تقديم الكتاب. الحلقة 28 والأخيرة المغرب في العهد الجديد نحاول تقديم رؤية، أو جواب تقديري، عن السؤال المطروح في آخر الحلقة السابقة، فنبادر إلى القول: إنه منذ صيف 1999، وابتداء القرن الواحد والعشرين، دخل المغرب مرحلة سياسية جديدة، تميزت بتولية محمد السادس عرش المغرب. وصاحب المرحلة شعار "العهد الجديد." حيث ساد اعتقاد قوي بأن تواصلا إيجابيا سيحدث بين المرحلة الأخيرة من عهد محمد الخامس، التي كانت تعد بإقامة الدولة الديمقراطية، وبين العهد الجديد، الذي بشر بأنه سيعطي للمغرب الانطلاقة السياسية التي تم انتظارها مددا طويلة، وسينطلق المغاربة إلى بناء دولتهم وفق معايير تجسيد المواطنة لكل المغاربة. فعلا، صدرت إشارات واعدة وقوية من العهد الجديد في أول خطاب للعرش، وفي خطاب 12 أكتوبر 1999 في موضوع إصلاح الإدارة ومحاربة التهميش الاقتصادي والاجتماعي للمغرب الآخر الذي وصفه ليوطي ب"المغرب غير النافع"، واستمر التعامل مع المغرب الآخر بمنطق ليوطي بعد الاستقلال. وطبق هذا المنطق بصفة خاصة على منطقة شمال المغرب، التي كان عليها أن تدفع ثمن التقارير المخابراتية الانتقامية من وطنيتها، ومن مقاومتها للاحتلال الأجنبي، بل أن البعض حمّلها مسؤولية قساوة الاستعمار بسبب قيامها بمحاربته، وكأنه لم يكن قبل ذلك قاسيا، عكس ما تختزنه الذاكرة الشعبية؛ وحمّل هذا البعض في دولة الاستقلال المسؤولية لرأي الخطابي في الاستقلال المبتور من أطرافه، ولرأيه من دستور 1962، الذي لم يكن في حقيقته إلا رأيا سياسيا. في الواقع، جاءت زيارة محمد السادس لأقاليم الشمال، وللحسيمة تحديدا، وإقالة إدريس البصري، بمثابة إعلان عن طي صفحة التقارير التي سودت صفحة الشمال. وسادت بشائر مطمئنة ومبشرة بعهد جديد لكل المغاربة. ثم تدعمت بقرار حكومة التوافق بتكليف المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير البدء بإحياء ذكرى انتصار أنوال في إقليم الناضور، لأول مرة؛ ابتداء من صيف سنة 1999، أي بعد انقضاء 78 سنة على ملحمة الحرية (اضهار أوبران إغريبن أنوال.) وكانت الخطوة الحكومية الثانية في العهد الجديد تمكين "مؤسسة محمد عبد الكريم الخطابي" بتاريخ 25 4 2002 من وصل إيداع، وصدور المرسوم الذي يمنح المؤسسة صفة "المنفعة العمومية"، بتاريخ 15 يوليوز 2002. وكذا الترخيص بعقد أول ندوة دولية، بتاريخ 27 29 يوليوز 2004 في مدينة الحسيمة حول البعد الوطني والدولي للجوء الخطابي إلى مصر سنة 1947، بدعم أدبي ومادي من جلالة الملك محمد السادس. أما في الجانب الاقتصادي والاجتماعي، فقد تولد أمل كبير في عودة الروح إلى شمال المملكة، وخاصة مدينة طنجة التي تم إقبار مكانتها الاقتصادية منذ سنة 1958. فقد حرص محمد السادس على انجاز مشاريع كبرى فيها، كمشروع ميناء طنجة المتوسطي، ومشروع رونو المغرب، وإخراج مشروع الطريق الساحلية طنجة سعيدية إلى الوجود، الذي طال أكثر من أربعة عقود. لكن إنجاز هذه الطريق لم يتم، للأسف، وفق المعايير التي كان ينتظرها المغاربة وساكنة المنطقة بصفة خاصة. وعلى الرغم من ذلك، ساد شعور عام بأن عصر التهميش في طريقه إلى الزوال، واعتقد الجميع بأن مصالحة المغرب مع ذاته مشروع يمكن تحقيقه، ويمكن بالتالي أن يتوجه وطننا نحو المستقبل بأمة مغربية منسجمة في تعددها، وبأكثر فاعلية في منهجية البناء الوطني. مناورات اللوبي الاستعماري لكن يبدو أن تيار اللوبي الاستعماري، أو حزب فرنسا، كما يسميه البعض، لم يرقه هذا التوجه، فراح يحاول كعادته أن يوظف قدرته على الكيد والمناورة لإبطال كل أثر إيجابي للخطوات السياسية للعهد الجديد التي ترمي إلى تمتين اللحمة الوطنية بدعم التآلف بين دعائمه التاريخية، وإيجاد الحظوظ المتساوية في التنمية الجهوية والمجالية، التي هي أساس لتنمية وطنية حقيقية. صورة الدخول الرسمي إلى الدارالبيضاء للمقيم العام الفرنسي فرانسيس لاكوست بتاريخ 17 يونيو 1954، ويستقبله أعيان المدينة تحت رمز الوجود الفرنسي في المغرب، تمثال المارشال ليوطي. في الوقت الذي كنا فيه بصدد الانتهاء من كتابة هذا المؤلف، وخاصة الفصل الأخير الذي أثرنا فيه دور اللوبي الاستعماري، نشرت "مجلة نيشان" ملفا حول ليوطي تحت العنوان أعلاه في غلاف المجلة، واستمرار تأثيره في شؤون وأحوال المغرب. والواقع، أن اللوبي الفرنسي لا يزال ينتقم من الخطابي ورفاقه المكافحين الذين طردوا ليوطي الموصوف عند الاستعماريين وحزبهم في المغرب ب"مؤسس المغرب، (Fondateur du Maroc) على أنقاض الأمبراطورية الشريفية، حسب ادعائهم. ويمكن أن نوجز تأثير هذا اللوبي في موضوع الخطابي فيما يلي: 1، عدم إدراج تلك المرحلة من تاريخنا في المقررات المدرسية، وفي الذاكرة الوطنية للمغاربة إلا بشكل مشوه، كالادعاء بأن عبد الكريم كان انفصاليا. وهم لا يريدون أن يميزوا بين الانفصال عن الاستعمار، بصفته ظاهرة سالبة للحرية والكرامة الإنسانية، وبين الانفصال عن الوطن؛ فعقيدتهم أن الوطن هو ما أسسه ليوطي، وليس ما كان يحارب من أجله الخطابي ورفاقه والمغاربة الشرفاء، لكي يتم دحر الاستعمار واستعادة السيادة الوطنية. والغريب العجيب أن ما يُقدم في الكتب المدرسية المغربية لتلامذتنا وطلابنا لا يساوي شيئا أمام ما يخصص لليوطي ومنجزاته في المغرب تحت الاحتلال الفرنسي. وكان الأمل يحدو المغاربة أن توضع الأمور في وضعها الطبيعي من خلال إصلاح التعليم، لكن شيئا من هذا لم يحدث! والأمر نفسه يتعلق بكل أبطال المغرب الذين قاوموا الاستعمار من الشريف أمزيان إلى الحنصالي. 2 مناهضة اللوبي للأعراف الاجتماعية النبيلة للأمم التي تخلد أبطالها ورموزها في متاحف خاصة أو عامة، لأن الأمم الحقة عظيمة بمآثرها ورموزها التاريخية، قبل أن تكون كذلك برموزها الأحياء. وها هي السنون تمر، وتمر معها الأجيال التي تدفن معها ذكرياتها ليلفها النسيان، كما لف ذكريات أخرى لمراحل تاريخية أخرى، دون أن نرى أي مبادرة جادة لمتحف تخلد فيه مآثر تلك المرحلة وأبطالها، على الرغم من الرسالة الملكية في الموضوع سنة 2011 لندوة الحسيمة في الموضوع. مما يدل على أن الأمر ليس في يد المغاربة الأحرار. وكثيرا ما كان المرحوم سعيد بن محمد بن عبد الكريم الخطابي يؤكد لنا إن المصالحة الحقيقية مع المنطقة، ونقل رفاة والده من القاهرة ليعاد دفنها في ثرى وطنه المغرب الذي ضحى من أجله، يعترضهما فيطو Veto فرنسي وحزب فرنسا في المغرب. ونتساءل بدون عفوية: لماذا لا تنتصر روح التلاحم بين مكونات المغرب وأجياله ضد من لا يريد لهذا الوطن العزة؟ ولماذا لم تعط فكرة الوطنية في المغرب ما أعطته في أماكن أخرى من العالم؟ 3 إحباط مسعى تفعيل مؤسسة محمد عبد الكريم الخطابي؟ بتفعيل هياكلها وبرامجها وأنشطتها، من أجل مساهمتها في عودة الوعي الوطني الحق، وتجاوز التهميش والإقصاء. فقد كانت هنالك إرادة من مجموعة من الباحثين المحايدين لتفعيل المؤسسة. لكن اللوبي، ومن والاه، والجهات المتحكمة، كانوا مخلصين لقرارهم القديم الجديد المتعلق بمحاصرة تاريخ الخطابي، وعدم السماح بتذكير المغاربة بمكانته المتميزة في صناعة تاريخ وطنهم؛ فاليوم الذي انعقد فيه " اليوم الإعلامي لتفعيل المؤسسة" الموافق لتاريخ 27 مايو 2006 حدث ما يلي: لم يلب الدعوة من الهيئات السياسية الحزبية إلا حزب العدالة والتنمية في شخص أمينه العام السيد سعد الدين العثماني، وحزب الاستقلال الذي مثله المدير العام للمركز العام للحزب، وتغيب البرلمانيون المدعوون، بما فيهم رئيسي الغرفتين، وكذا المندوب السامي لقدماء المقاومين. وفي التاريخ نفسه تم الاحتفال بتدشين "متحف المارشال مزيان"؛ في بني انصار الناضور، تحت الرعاية السامية لجلالة الملك، وفقا للدعوات التي وجهت إلى المدعوين التي ذكرت أيضا إن الأمير مولاي رشيد هو الذي سيدشن ذلك المتحف. فما دلالة هذا الحدث "المصادف" انعقاده لتاريخ 27 مايو 2006؛ وهو التاريخ المقرر لتفعيل مؤسسة محمد عبد الكريم الخطابي؟ والمارشال مزيان هو من هو في تاريخ الاستعمار الإسباني للمغرب؟ مغزى تاريخ 27 مايو أولا، بالنسبة للجنة التنظيمية لليوم الإعلامي لتفعيل مؤسسة محمد عبد الكريم الخطابي، تم اختيار التاريخ أعلاه ليكون حلقة وصل بين مراحل ذات دلالة في التاريخ التحريري للمغرب ومن حياة الخطابي كذلك؛ ونشير إلى أهم هذه الدلالات فيما يلي: في شهر مايو من سنة 1921 تحركت جموع المجاهدين الأوائل لتعسكر في جبل القامث، بتمسامان، لقطع الطريق على الجيش الإسباني المتقدم على محور أنوال سيدي إدريس ادهار أوبران، لاحتلال مركز الريف الأوسط. وفعلا فقد انطلقت الحرب التحريرية في 1 يونيو 1921 بتحرير ادهار أوبران. وفي 27 مايو 1926 توقفت المعارك باستسلام قائدها الأمير الخطابي للقوات الفرنسية في تركيست؛ الواقعة غرب الحسيمة. وفي 31 مايو 1947، وبعد 21 من النفي في جزيرة لارينيون، نزل الخطابي أرض مصر، ليجدد ويواصل مشروعه ونهجه في حفر قبر الاستعمار؛ بتأسيس لجنة تحرير المغرب العربي، وتجنيد الرأي العام العربي والعالمي لمناصرة كفاح الشمال الإفريقي. ولذلك كان الربط والتواصل بين هذه التواريخ والمراحل أمرا ضروريا، وإشارة إلى أكثر من معنى ومغزى؛ ومن هذا الربط تقرر تحديد تاريخ تفعيل المؤسسة في السبت الأخير من شهر مايو 2006. وتم الإعلان عن تاريخ اليوم الإعلامي التفعيلي في الصحافة الوطنية قبل أكثر من شهر. وكان رئيس المؤسسة السيد سعيد الخطابي يصر، غير ما مرة، على أن عمل المؤسسة يجب أن يكون في إطار الانفتاح العملي للدولة المغربية على فعاليات المجتمع المدني. وهذا يعني أن المؤسسة لا يمكن أن تسمح لنفسها، حتى لو أدى الأمر إلى تجميد نشاطها، أن تدخل في مجادلات أو مزايدات تخل بالمبادئ التي آمن بها الأمير الخطابي والأهداف التي سعى دوما إلى تحقيقها، وأولها وحدة الأمة المغربية وسلامة أراضيها، وحرية الشعب المغربي وكرامة مواطنيه. ونتيجة للضغوط، المباشرة وغير المباشرة، التي مورست على سعيد الخطابي من جهات متعددة، إضافة إلى يقينه بأن اللوبي الفرنسي لم يصل بعد إلى قناعة المصالحة مع التاريخ والتخلص من أيديولوجية المغرب النافع والمغرب المسخوط عليه، قرر أن لا يدخل مؤسسة الخطابي في الصراعات الهامشية، وإدخالها في مزالق لغة التنابز بالألقاب التي تسود المغرب، فأجل تفعيل المؤسسة إلى تاريخ لاحق. غير أن الموت لم يمهل سعيد كثيرا للإشراف على انطلاق وتجديد مؤسسة والده وتفعيلها، كما أن الأجل لم يمهل محمد الخامس لتفعيل ما اتفق بشأنه مع الخطابي في القاهرة سنة 1960. كتابة التاريخ وصيانة الذاكرة حق من حقوق المغاربة إن من حق المغاربة أن يعرفوا الحقيقة، كل الحقيقة التي تخص مصير وطنهم. كما أن من حقهم أن يصونوا ذاكرتهم الوطنية من الزيف والعبث، وأن يدافعوا عن تاريخهم ويحموه. فالتاريخ هو بمثابة كهرباء الشعوب والأمم، وهو الذي يضيء حاضرها ومستقبلها، ويحررها من التخبط في الظلام الدامس الذي يريد البعض، وخاصة اللوبي الاستعماري، أن يقنعنا بأن التشبث بالقيم الوطنية ظلام، وأن التعامل مع الاستعمار نور. وربما هذا ما كان يهدف إليه أولئك الذين خططوا لتدشين متحف المارشال في 27/5/2006 ودعوة القائد العسكري الإسباني في مليلة لتشريفه بحضوره وإضفاء الشرعية عليه. خاصة إذا علمنا أن التدشين المعلوم جاء في خاتمة احتفالات إسبانيا بأسبوع الجيش الإسباني. ونتساءل في الختام، هل القيام بالتشويش على تاريخ عبد الكريم الخطابي بمعاقبة من يحمل صوره، أو من ينادي به رمزا للتحرير والتحرر من نير الاستعمار، أو من يطلب بإقامة متحف لاطلاع الأجيال المغربية المتعاقبة على المرحلة التاريخية، كل المرحلة التاريخية بما لها وعليها، فينظر إليه كعمل غير وطني، ويعد صاحبه خائنا؟ إن الجهود المبذولة لقبر إحدى أكبر لحظات تاريخ المغرب المعاصر وأقواها إشعاعا، لا يفيد مشروع العهد الجديد في بناء الدولة المغربية الديمقراطية؟ ولا ينتمي إلى أي منطق سياسي أو وطني حقيقي، ولا يمكن فهمه من قبل العقلاء وحكماء الأمة. ولا يمكن اعتبار الاستجابة لاستغاثة الوطن وهو في محنة خيانة وانفصالا عن السلطان. ونؤمن بأن ما قام به الخطابي ورفاقه، وكل المكافحين للاستعمار، لا يترجمه إلا قول الشاعر القديم: ولي وطن آليت ألاّ أبيعه وألاّ أرى غيري له الدهر مالكا وقول أحمد شوقي: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي فحذار من سخط الوطن والذاكرة الشعبية على كل من يسعى إلى المس بكرامته، ومن التاريخ الذي يكشف لنا في كل حين عن مكره، وحذار من السير في الطريق الخاطئ لأن المغاربة ليسوا بالسذاجة التي يوهم بها حزب فرنسا نفسه بتكريس خططه التي يعتقد بأنها قادرة على استغفال المغاربة لتمرير خطابه عليهم، ويحقق أهدافه بتبييض صفحة السوابق الاستعمارية.