في معرض "تعقيب" الأستاذ محمد بودهان على الأحكام القضائية، التي وزعت على نشطاء الريف المعتقلين، ثلاثة قرون من الزمن السجني، وهذا رابطه. وهي الأحكام التي يكاد يحصل إجماع وطني، وحتى دولي، على اعتبارها قاسية جدا، وهنا يجب أن نميز بين تفسير القساوة بخلل ما في البناء القانوني للأحكام–محاضر، نصوص قانونية، مرافعات الدفاع والنيابة العامة-وهذا يضع قضاة الأحكام في موضع سؤال، وبين اعتبارها قاسية سياسيا، لأن مرد التهم كلها إلى احتجاجات بمطالب اقتصادية واجتماعية، بعيدا عن كل تضخيم مغرض. على كل حال هذا نقاش يجب فتحه بكل حكمة وترو، لأننا مهما تعاطفنا مع مواطنينا بالريف، وزكينا مطالبهم، فيجب أن ننتبه إلى الضفة الأخرى حيث ينتصب قضاء المغرب، وأجهزته الأمنية. طبعا لا أحد يرغب في قضاء سائب ينبت للفوضى أنيابا، وفي المقابل لا نرغب في قضاء يواجه الذبابة بدبابة. أما الطامة الكبرى فهي في قضاء مسيس، مما يضرب مصداقية الدولة والدستور، ولا أعتقد أن أحدا يرغب في ممارسة كل هذا الهدم. وما موقع المارشال "ليوطي" ضمن أسباب النزول؟ في تعقيب الأستاذ بودهان على الأحكام–وقد ثبت أنه مقل جدا في الكتابة عن أحداث الريف القائمة، منذ اندلاعها-يستعدي التاريخ الاستعماري، بكيفية مزيفة، ويوغل في هجومه على مؤسسات الدولة المعنية، بما يتجاوز ما يكون قد صدر عن نشطاء الحراك من تجاوزات للحد المسموح به في الاحتجاج المواطني. إن الخطاب "البودهاني" في مسألة الهوية، والتحولية، وحتى العرقية المقيتة معروف ومكرور حد الملل، وهو على أي خطابه وهو حر فيه. لكن أن يتم بناء حجاج قانوني، وحتى سياسي، على تزييف الأحداث التاريخية، ضدا على مجراها الحقيقي في الريف، المستعمر أساسا من طرف إسبانيا، وليس فرنسا، فهذا مردود عليه، مهما يكن موقفنا من المارشال "ليوطي". نعم إنه المهندس الكبير لكل خرائط الاستعمار ببلادنا، لكن ليس في المنطقة الشمالية التي كانت تعتبر اسبانية. ورغم ترسيم لباس عسكري للمارشال، وهو ما ارتداه إلا على عجل، كما سيتضح، فإن قاصمة الظهر في موضوع الأستاذ بودهان هو سكوته التام عن الاستعمار الاسباني، رغم كل قواته المتواجدة، وقتها بالريف، سواء مهاجمة منتصرة، أو مندحرة تطلب عون فرنسا. وإنه لأمر غريب أن نلوي أعناق الحقائق التاريخية، لا لشيء إلا لنقول إن التهم الموجهة للنشطاء، وما أعقبها من أحكام، تهم استعمارية. ندخل ليوطي إلى الريف، بحجم مضخم لما حصل بالفعل، لنلصق به كل نوائب الريف، ونستله من تاريخه الاستعماري، مرة أخرى، لنلصق به كل هنات ومشاكل الراهن المؤسسي المغربي. غريب أن تتعمد السكوت عن البركان المتوهج، لكي لا تتهم إلا صخرة واحدة "حطها السيل من عل". وحتى لا أطيل، إليكم مقال سبق لي نشره منذ سنوات بهسبريس بعنوان: "جنرالات في مواجهة الأمير". وهو مؤسس على بحث أرشيفي دقيق، حتى يتمكن القارئ من فهم الأسباب الحقيقية التي جعلت "ليوطي" يتدخل في حرب الريف، إضافة إلى الاحاطة بالحجم الحقيقي لقواته. ومرة أخرى لا يحق للأستاذ بودهان السكون عن الكتاب، والحديث عن صفحة منه فقط. إن كتاب الاستعمار في الريف كتاب إسباني. *************** كيف فهم المارشال ليوطي انتصار الريفيين على الإسبان؟ أدرك المارشال منذ البداية أن جذوة الحماس التي توهجت، على مستوى قبائل الريف التابعة للخطابي، ستجعله عاجزا عن الحفاظ على حسن الجوار مع قبائل المخزن في منطقة الحماية الفرنسية. في تقريره المرفوع إلى وزير الدفاع في 20 دجنبر1924 طالب بتعزيزات عسكرية، تستقدم من الجزائر عبر وجدة ل "نكون في المستوى، ابتداء من فاتح أبريل، حتى نتصدى لأي هجوم محتمل، وليكون بوسعنا التحكم في الأحداث". سيستعيد المحلل مرات عديدة طلب ليوطي هذا معتبرا أن عدم استجابة باريس له فاقم الأوضاع كثيرا وقاد فرنسا إلى حرب-بالنيابة عن اسبانيا-كلفت الكثير من الأموال والجهود، دون أن تزيد مساحتها المغربية ببوصة واحدة. يضرب مثالا بقبيلة بني زروال، الجارة المباشرة، ويقول: لو تم الإمداد بالتعزيزات في التاريخ المحدد من طرف ليوطي، لما كان في وسعها أن تنشق عنا، بعد أن تبين لها، في صدها لقوات الخطابي، في أبريل 1924، أننا لسنا في مستوى حمايتها. أمام الاكتساح البطولي للقبائل، من طرف قوات عبد الكريم-في غياب أي تعزيزات عسكرية للفرنسيين-لم يجد ليوطي بدا من المغامرة، بما لديه من فرق قليلة، فكانت مواجهات دامية ما بين 2 و6 يوليوز1924. بعد هذا يستند المحلل إلى العرض الذي قدمه السناتور شارل ديمون، مقرر ميزانية الحرب الفرنسية، وهو ملحق بالمحضر الرسمي المنجز في دجنبر 1926 تحت عنوان: "المواجهة ضد عبد الكريم". يتم التنصيص على أن القوات النظامية للخطابي لم تكن تتجاوز بضعة آلاف، لكن دعم القبائل، بما فيها المرتدة عنا، كان كبيرا. لو توفرت التعزيزات القليلة المطلوبة لتم القضاء على الانشقاقات في المهد، ولما اكتُسحت كل مراكز المراقبة التي أنشأناها على وادي ورغة. لقد وفق ليوطي، بفرق معدودة على رؤوس الأصابع، كما يقول المحلل، في إنقاذ المغرب والجزائر، وحتى السيد "بانلوفي نفسه (وزير الدفاع الفرنسي). في يوليوز 1924 تمكنت خمس فرق، تحت إمرة الجنرال "كولومبا"، من دحر المهاجمين وطردهم إلى مواقعهم الجبلية، حتى بدا أن الهدوء استقر من جديد، وعادت قبائل المخزن–إذ أحست بالحماية من الريفيين-إلى أعمالها الفلاحية المعهودة. لقد كانت فاس العاصمة مهددة فعلا من طرف 10000 مقاتل نظامي، و50000 من قوات القبائل، مما جعل الجنرال "شامبران"، بتنسيق مع المارشال ليوطي، يعقد العزم على عدم انتظار التعزيزات، والمغامرة، بما توفر من فرق، لمواجهة قوات الخطابي بعيدا عن العاصمة، وهذا ما أنقذها. كيف سعت إسبانيا إلى توريط فرنسا في حربها؟ بعد هزيمتها المخزية سعت إلى توريط الخطابي في الهجوم على قبائل الجوار الخاضعة للحماية الفرنسية، حتى تتمكن من استدراج فرنسا إلى تشكيل جبهة موحدة. لقد كشف الخطابي للفرنسيين عن هذا المسعى الاسباني، كما أطلعهم على العروض التي قدمتها له إسبانيا بهذا الصدد، ففي مستهل ماي 1924، وبعد صد "حركاته" من طرف الفرنسيين، وجه مبعوثه السيد علوش إلى الجنرال شامبران بفاس. لقد بدت جلية، كما يقول المحلل، خطط الخطابي الساعية إلى كسب ودنا، مبكرا، وفي الوقت نفسه مقايضة انسحابه من أراضي الحماية الفرنسية بالاعتراف بحدود فدراليته التابعة لاسبانيا اسميا فقط. ومن جهة أخرى، سعى إلى حمل فرنسا على الاقتناع بأن وجهته القتالية هي قبائل جبالة الغربية التي تأوي الشريف الريسولي، الذي جعله الذهب-حسب رأيه-يناصر الاسبان. لقد أظهر أن محور العرائشتطوان هو ما يهمه، ومن هنا استعداده لمنازلة الريسولي. وهو يكرر أن عداءه ينصب على الاسبان فقط "لأنهم لم يفهموا الريفيين، وأيقظوا كل مشاعر الكراهية لديهم" أبدى ندمه الشديد على عدم توجيه قواته صوب مليلية، مفضلا عليها فاس. وحتى بعد اعتقال الريسولي، وموت عبد المالك، تواصل الخطاب الخطابي نفسه الموجه إلى فرنسا. ورغم هذه التطمينات، ونظرا لما توفر للمارشال ليوطي من تقارير استخباراتية، كان يتوقع-كما حصل تماما-أن هجمة القبائل الموالية لعبد الكريم، الراغبة في الشرب من مياه ورغة، لن تتجاوز فصل الربيع. كان المارشال من أشد معارضي التقارب بين فرنسا وإسبانيا في حرب الريف، وقد بين هذا في تقريره المركزي سالف الذكر، مدعما بالحجج، لكن شاء الدفع الأوروبي لفرنسا في اتجاه التحالف مع اسبانيا ضد عبد الكريم–حسب ما يستقيه المحلل من المحضر الرسمي-إضافة إلى تعقيدات منطقة طنجة، أن يزج بفرنسا في حرب أفقدتها هيبتها وبريقها لدى القبائل، دون أن تعود عليها بمنافع تذكر. في غمرة صد قوات عبد الكريم كان الكولونيل "نوغيس" يغطي المنطقة العالية من سوق أربعاء تيسة، حيث تتأتى رؤية فاس. كان يتحرك بفرقه الأربعة بين عين عيشة وضفاف ورغة، وصولا إلى فاس البالي. ثم التحق بقوات الجنرال كولومبا في تافرنت، وقد كانت منهمكة في إيصال المؤن إلى بعض مراكز المراقبة، وإخلاء بعضها، وفي الوقت نفسه صد الهجمات الشرسة. في هذه الأوقات كان الكولونيل "فرايدنبرغ" يجهد نفسه في جمع شتات بعض الفرق للوصول إلى مركز تاونات الذي ظل صامدا. لقد تمكن من استدراج القبائل المنشقة لتلاحقه، كما وافق في جعلها تواجه القبائل التي ظلت وفية للفرنسيين. في موقعة 4 ماي التحقت بالقوة الفرنسية فرقة من 400 فارس امغيلي، أجبرت الريفيين على التقهقر، وهكذا نجت فاس. خلال شهر من المواجهات بلغ عدد قتلى وجرحى القوات الفرنسية 1400. تازة في قلب الإعصار: هل سيضيع منا المغرب؟ يتساءل السناتور الفرنسي في محضره؟ إن هجمات الريفيين صارت تركز على محور وجدةتازة، قاطعة خطوط الإمدادات عن القوات الفرنسية بالمغرب، التي تحركت كلها لمواجهة ردة القبائل. تحركت قبائل التسول والبرانس وغياثة، على ضفاف وادي اناون. لقد أضحت مدينة تازة هي هدف عبد الكريم للنفاذ منها إلى القبائل الأخرى. في غمرة هذه الرجات الكبيرة توصل الجنرال "دوجان" من المارشال ليوطي، ليلة 4، 5 يونيه، بالأمر الآتي: "الصمود أكبر قدر من الوقت في الخطوط الأمامية البعيدة عن تازة، وإن اقتضى الحال الموت في عين المكان، انتظارا للإمدادات التي يحتمل وصولها في غضون ثمانية أيام. إذا استحال هذا الأمر عليكم بالانكفاء إلى تازة ولا تغادروها أبدا. وإن استطعتم حاولوا تغطية طريق فاس...". كل هذا للحيلولة دون تلاحم الريفيين مع القبائل الأمازيغية المحيطة بتازة، من آيت وراين وآيت شغروشن التي لم تخضع بعد للقوات الفرنسية. قبائل تثاقلت في الاستجابة لقوة الخطابي وطموحاته، لأنفتها وعدم رغبتها في الخضوع لسيد جديد، حسب رأي السناتور. ورغم هذا شهدت أسواق القبائل منادين مبشرين، خفية، بمقدم "سلطان الريف" المحرر من الاستعمار. لم تصل التعزيزات (12 فرقة) إلى تازة إلا ما بين 15 و30 يوليوز، وقد بادر الجنرال مولان، بسرعة، إلى إعادة تنظيم قواته، وإراحة الجنود الذين بذلوا جهودا تفوق طاقة البشر خلال الشهور الثلاثة الأخيرة. لقد دفعت خطورة الأحداث الحكومة الفرنسية إلى تكليف المارشال بيتان بمعاينة الوضعية ميدانيا، وعلى وجه السرعة. ندم الفرنسيين على عدم الاستجابة الفورية لمطالب المارشال: بعد الوقوف الميداني، من طرف وزير الدفاع "بانلوفي" وقد أضحى رئيسا لمجلس النواب، في يونيه، عاد إلى فرنسا مصدوما من الوضع العسكري، في مواجهة قوات الخطابي. لقد تلكأت فرنسا في الاستجابة للمارشال ليوطي بخمس فرق، وهي كل ما طلب، فها هي ذي تجد نفسها مجبرة على إرسال مائة، في انتظار عدد مماثل من إسبانيا. ويتحسر السناتور على عدم الاقتناع، في باريس، بأن فرنسا ليس لها ما تربحه من حرب الريف، كما أن اسبانيا ليس لها ما تخسره. كما يتحسر على هذه الأخطاء التي جعلت بطل معركة فردان الشهير، المارشال "بيتان"، بقوة تفوق قوات شارل كوينت وفرونسوا الأول مجتمعة، في مواجهة مع مجرد قائد طموح من بني ورياغل. باشر المارشال بيتان وضع خطة شاملة لغزو الريف لفائدة إسبانيا، بعد لقائه بالدكتاتور "بريمو ودي ريفيرا" في الخزيرات بتاريخ 24 غشت. بدت فرنسا وكأنها تمضي معصوبة العينين صوب مستنقع حرب لا فائدة لها فيها، "حتى المساهمة الاسبانية بدت بطيئة مقارنة بعجلتنا"، كما يقول. في 25 غشت انعقد بفاس مجلس عسكري ضم المارشال بيتان والجنرال نولان والجنرال شامبران، وقد انتهى إلى تبني الخطة الشاملة للمارشال بيتان، رغم أن خطة المارشال ليوطي والجنرال نولان كانت سارية، في الحدود الرسمية للسياسة الفرنسية التي لا تريد التورط في حرب شاملة بالريف. استقالة المارشال ليوطي: سبق للمارشال أن وجه في 14 غشت رسالة إلى وزير الدفاع يرد فيها: "إني حريص على أن أؤكد لكم مساندتي لوجهات نظر الجنرال مولان، الحريصة أولا على استبعاد كل تغلغل عميق في اتجاه أجدير، مثلا. إن الهدف الرئيسي أختزله في عبارة: لا للمغامرة". يواصل السناتور قائلا: "ها قد وقفنا على السبب الحقيقي لاستقالة المارشال ليوطي. نظرا لمعرفته العميقة بالميدان، استبعد من ذهنه الأفكار التي استقر عليها المارشال بيتان. لقد كان يخطط –بعد إعادة تنظيم جبهة الشمال-لاقتحام الكيفان وما وراءها، في مواجهة الريف، انطلاقا من جهة الشرق". في 11 شتنبر، وبموازاة خطة ليوطي، سيتم اعتماد تصورات المارشال بيتان التي تعول كثيرا على التلاحم بين قوات إسبانيا وفرنسا، وقوامها 350.000 جندي. كل هذا من أجل الإطباق على بضعة آلاف من جنود الخطابي القارين. في 10 أكتوبر يغادر ليوطي المغرب مطمئنا إلى الوضعية الميدانية للقوات الفرنسية وهي تواصل تطبيق خطته، لكن غير مرتاح للسياسة الفرنسية الاسبانية التي ستصعب كثيرا الوضع في المغرب. واستسلم أسد الريف: رفض الخطابي في أبريل 1926 مقترح الخروج من الريف الذي عرض عليه في ملتقى وجدة. لم يكن يتوقع أن تنخرط فرنسا، بكيفية كبيرة، في السياسة الاسبانية، وصولا إلى تغلغل عميق في الريف. كان يراهن على الوقت لبذل مزيد من الجهود في إقناع الفرنسيين بنوايا الاسبان. لو قبل بالدخول في مفاوضات، من أجل خروجه من الريف، لفقد كل سيطرة على القبائل المناصرة له، إن لم تبادر إلى مهاجمته، حسب رأي السناتور. ومن هنا رفضه واستمراره، ميدانيا، في التركيز على منازلة القوات الاسبانية إلى أن تتضح الأمور. كان يعرف أنها النهاية لكن كان يصر على التحكم فيها. يواصل المحضر: في الوقت الذي كانت فيه قواتنا تتقدم في الريف دون أن تصطدم بأية مقاومة، طلبنا من الرباط أن توفر لنا الملابس التي طلبها الخطابي لفائدة أسرانا الذين سيحررهم. وبعد أن وفر لهم كؤوس الشامبانيا استسلم بدوره. في ذروة قتاله في الجبهة الاسبانية، وخلافا لكل التوقعات العسكرية، وجه إلى السيد "ستيغ "(خلف المارشال ليوطي)، بفاس، رسالة يعلن فيها استسلامه طواعية. استسلام بدون شروط لكرم فرنسا، على حد تعبيره. في 27 ماي، وبعد أن حرر الأسرى، تقدم، رفقة عائلته، صوب خطوطنا الأمامية. نعرف أنه حظي بخفر فرقة عسكرية قرب تارغيست، لحمايته ومتاعه المحمول على مائتي بغل. لقد أثنى الأمر العسكري اليومي على شجاعته: "هكذا حفظ عبد الكريم ماء وجه مقاومته باستسلامه لرحمتنا، محبطا كل الحسابات الاسبانية". "حاولت إسبانيا عبثا، في باريس، أن تقنعنا بأن نسلم لها أسيرنا".