تميزت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية من القرن الماضي بتدافع ايديولوجي وسياسي وفلسفي كبير، وبإنتاج غزير لأدبيات عبرت عن قناعات فكرية معينة تجاوزتْ بتأثيرها العديد من حدود الدول العربية والإسلامية... مما خلق ارتباكا وتنافرا واضحا بين "نُخبة مثقفي" الأمة العربية والإسلامية، سواء من حيث ماهية الموضوعات والإشكاليات المطروحة أو من حيث طريقة الاشتغال عليها، وهو الأمر الذي نتجت عنه كذلك خريطة فكرية "مُبلقنة" غير متجانسة لمفكري الدول العربية والإسلامية وتشتتهم بين عدة اتجاهات فكرية وايديولوجية... وفي ظل هذه الظروف التي باتت تُهدد الهوية الإسلامية، سينفرد المغرب بتنظيمه للدروس الحسنية الرمضانية منذ سنة 1963 تحت الرئاسة الفعلية لأمير المؤمنين المغفور له الملك الحسن الثاني، وبحضور مجموعة كبيرة من علماء ومشايخ العالم الاسلامي، بالإضافة إلى رجالات الفكر والثقافة ووزراء الأوقاف والهيئات الديبلوماسية الإسلامية المعتمدة بالمغرب... ويمكن القول إن الدروس الحسنية قد أعادت الاعتبار لمكانة العلماء والفقهاء والمفكرين ودورهم الكبير في تحصين الأمة الاسلامية، على الرغم من اختلاف مذاهبهم ومشاربهم الفكرية. لقد ساهمت الدروس الحسينة إلى حد كبير في صنع صورة المغرب من الناحية الدينية، حيث يتحلق علماء الأمة حول أمير المؤمنين في مجلس العلم والعلماء، وكأن الأمر يتعلق بجامعة دينية مفتوحة في وجه كل مؤمني الأمة الإسلامية في كل مكان، خاصة وأن الدروس كانت تبث مباشرة على أثير الإذاعة الوطنية وشاشة التلفزيون في ظاهرة علمية ودينية فريدة واستثنائية في العالم الإسلامي. إن ما يجعل من الدروس الحسنية عالمية هو أولا إشراك العلماء والفقهاء والمفكرين والمشايخ من مختلف بلدان العالم، بدءا من الشيخ أبي الحسن الندوي من الهند، والإمام موسى الصدر من لبنان، والدكتور طه جابر العلواني من أمريكا، والشيخ سعيد رمضان البوطي من سوريا، والدكتور عمر البشير من السودان، والحبيب بلخوجة من تونس، والشعراوي وسيد طنطاوي والقرضاوي من مصر، والشيخ عبد الله بن بيه من موريتانيا، وعلماء من روسيا وباكستان وإندونيسيا وماليزيا والصين وغيرهم كثير... ومن المغرب المكي الناصيري وعبد الله كنون وعلال الفاسي ووزراء الأوقاف العلوي المدغري وأحمد التوفيق... أما العامل الثاني في عالمية الدروس الحسنية فهو انفتاحها على جميع التيارات والمذاهب الفقهية؛ بحيث نجد السُني إلى جانب الشيعي إلى جانب مشايخ الطرق الصوفية... وهو ما يعني أن الدروس الحسنية شكلت عُنْصر توحيد، ومحرابا للعلم والتجديد والحوار والنقاش الهادئ والهادف. وتمثلت العالمية من جهة ثالثة في دعوة مُمثلي الأقليات المسلمة في دول العالم إلى هذه الدروس، بالإضافة إلى ترجمتها إلى أهم اللغات العالمية، الفرنسية والاسبانية والإنجليزية، ثم طبعها ونشرها لإغناء المكتبات الإسلامية في البلدان الغربية كمادة تُساعد في البحث العلمي. سيسير أمير المؤمنين الملك محمد السادس على نهج وخُطى سلفه الصالح بالحرص على تنظيمها، وبالحضور الفعلي والشخصي لأشغال الدروس الحسنية الرمضانية، وبتكريمه لعلماء الأمة الإسلامية ومفكريها من جميع أرجاء العالم وفي ظروف روحانية. وهو الأمر الذي يُرسخ مظاهر العالمية للدروس الحسينة، ويُساهم في تقديم صورة عن الهوية الدينية المغربية المتسامحة والمعتدلة والمتجددة. وستتميز الدروس الحسينة في عهد أمير المؤمنين الملك محمد السادس باعتلاء المرأة لأول مرة منبر الدروس الحسنية في شخص الدكتورة رجاء الناجي المكاوي، وتلتها لائحة من نساء المغرب كعائشة الحجمي، وفريدة زمرد، والسعدية بلمير، وزينب العدوي، وسعيدة أملاح، وعالية ماء العينين، ثم سعاد رحائم... وقد لا نبالغ بقولنا إن الدروس الحسينة وما حملته وتحمله من زخم فكري وحضاري وموضوعاتي، كان لها السبق والريادة في طرح إشكاليات فكرية عميقة للنقاش العمومي، سواء كانت دينية أو فلسفية أو حياتية، وأصبحت "جامعة فكرية" تستمد قوتها من إمارة المؤمنين ومن أجواء تنظيميها الروحانية الرمضانية، كما أنها واجهة مهمة لصورة المغرب الوسطي والمعتدل.