غوتيريش يشيد بالتزام المغرب بوقف إطلاق النار وبالتعاون النموذجي بين القوات المسلحة الملكية وبعثة المينورسو    وزارة الداخلية الإسبانية تؤكد أن المغرب شريك ذو أولوية بالنسبة لإسبانيا في مجال الهجرة    طنجة.. تفاصيل اعتقال شخص بتهمة النصب وانتحال صفة مسؤول أمني وتزوير وثائق رسمية    مطلب إعادة فتح جمارك مليلية وسبتة يشعل النقاش في البرلمان الإسباني    قراءة في كشف الغمة لعبد القادر الكردودي    مات ... قاعدا..    إسرائيل تؤكد مقتل هاشم صفي الدين القيادي البارز في حزب الله خلال غارات على بيروت قبل 3 أسابيع    تحديات عالمية ورهانات مستقبلية    حكّام الجزائر، يتامى "الاستفتاء"... يغمغمون    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمغرب    اَلْحُبُّ الْمَمْنُوعُ!    المغرب الثقافي .. حب واحتراق    وفاة وحالات تسمم ببكتيريا في أحد منتجات "ماكدونالدز"    تغييب الأمازيغية عن تسمية شوارع العروي تجلب انتقادات للمجلس الجماعي    توقيف 3 أشخاص متورطين في قضية إلحاق خسائر مادية بممتلكات خاصة وحيازة السلاح الأبيض    كمال كمال ينقل قصصا إنسانية بين الحدود المغربية والجزائرية في "وحده الحب"    مكافحة القنص الجائر.. تحرير 52 محضرا في الفترة ما بين 20 شتنبر و20 أكتوبر الجاري    قمة الجولة السابعة بين الجيش والرجاء تنتهي بالتعادل    مديرية الأمن الوطني تكشف عن مختلف الأرقام المتعلقة بالاختبارات الكتابية لولوج مختلف أسلاك الشرطة    الجيش الإسرائيلي يعلن القضاء على هاشم صفي الدين خليفة حسن نصر الله    تعادل الرجاء والجيش بالدوري الاحترافي        سلطات الجديدة، تسمح بحضور الجماهير في مباراة الدفاع الحسني الجديدي والمغرب التطواني    البطولة الوطنية.. التعادل السلبي يحسم موقعة "الكلاسيكو" بين الرجاء الرياضي والجيش الملكي    رئيس الفيفا يشكر المغرب على استضافة النسخ الخمس المقبلة من كأس العالم للسيدات لأقل من 17 عاما    خلال 3 سنوات ونصف رفعت مديونية الخزينة من 885 إلى 1053 مليار دهم    توقعات احوال الطقس : انخفاض درجة الحرارة بمنطقة الريف    حادث يلقي بزوجة شيبو في الحراسة النظرية    "النقد" يتوقع نموا بنسبة 2.8 % بالمغرب        لمجرد يروج لأغنيته الجديدة "صفقة"    منتخب الشاطئية ينهزم أمام مصر (2-3)    المكتب الوطني للهيدروكاربورات والمعادن والمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب .. توقيع عقد لنقل الغاز الطبيعي عبر أنبوب الغاز المغاربي-الأوروبي    المستوطنون يقتحمون الأقصى في رابع أيام "ما يسمى عيد العرش"    النصر للشعب الفلسطيني وكل المدعمين له ..    إسرائيل مستمرة في "خطة الجنرالات" التهجيرية    تقسيم دي‮‬ ميستورا‮ ‬وزوبعة‮ ‬صحراوية‮    زيارة ماكرون للمغرب افتتاح لعصر جديد في العلاقات الجيوسياسية والاقتصادية بين البلدين    رحيمي الأعلى تنقيطا في قمة الهلال والعين        وفاة الداعية فتح الله غولن "عدو أردوغان اللدود"    فيروس جدري القردة يثير القلق في ألمانيا بعد تسجيل إصابة جديدة    المحفظة العمومية تضم 271 مؤسسة ومقاولة عمومية    شبهات حول برنامج "صباحيات 2M" وإدارة القناة مطالبة بفتح تحقيق    إعادة تأهيل مرضى القلب: استعادة السيطرة على الصحة بعد حادث قلبي    المكسرات صديقة المصابين بداء السكري من النوع الثاني    جامعة حماية المستهلك تطالب بفرض عقوبات على المخالفين في استيراد اللحوم    الأولمبياد الإفريقية في الرياضيات.. الذكاء المنطقي الرياضي/ تتويج المغرب بالذهبية/ تكوين عباقرة (ج2) (فيديو)    أسعار الذهب تواصل الارتفاع وسط حالة من عدم اليقين    الصادرات المغربية.. تحسن تدريجي في المحتوى التكنولوجي    الصحراء المغربية.. غوتيريش يعرب عن قلقه إزاء عرقلة الجزائر للعملية السياسية    وهي جنازة رجل ...    رحيل الفنان حميد بنوح    النموذج المغربي في "إدماج الإسلاميين" يحصد إشادة واسعة في منتدى أصيلة    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    الملك محمد السادس: المغرب ينتقل من رد الفعل إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية في ملف الصحراء    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد أسدرم تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التاريخ المحاصر 23 .. إرادة تحرير شمال إفريقيا عند الخطابي
نشر في هسبريس يوم 08 - 06 - 2018

تقدم جريدة هسبريس لقرائها الأوفياء، داخل المغرب وخارجه، كتاب "عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر" لمؤلفه الدكتور علي الإدريسي، في حلقات، خلال شهر رمضان الكريم.
هذا الكتاب، الذي تنشره هسبريس بترخيص من مؤلفه الدكتور علي الإدريسي منجما على حلقات، لقي ترحابا واسعا من قبل القراء المغاربة ولا يزال، إلى درجة أن الطبعتين الأولى والثانية نفدتا من المكتبات والأكشاك؛ بالنظر إلى شجاعة المؤلف في عرض الأحداث، وجرأته في تحليل الوقائع بنزاهة وموضوعية.
الكتاب من أوله إلى آخره اعتمد الوثائق النادرة في التأريخ للزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بأفق وطني يتسع لجميع المواطنين المغاربة، على عكس الطريقة التي "اعتاد عليها أولئك الذين حاولوا احتكار الوطنية وتأميم مستقبل المغرب، والتحكم في مصير أبنائه قرونا أخرى"، يضيف على الإدريسي في تقديم الكتاب.
الحلقة 23
عبد الكريم وإرادة تحرير شمال إفريقيا
بعث عبد الكريم في 10 غشت 1925 نداء إلى كل من الجزائريين والتونسيين، جاء فيه: "يأيها المسلمون التونسيون والجزائريون إن الأمر الذي يشق علينا تحمله هو أن نرى أبناءكم يأتون قهرا لمحاربتنا ... إن أربعة أخماس الجيوش التي هي على حدودنا شاهرة السلاح في وجوهنا هم من أبنائكم. وكان من الواجب عليهم أن ينقضوا على أعدائنا المشتركين، المضطهدين لنا ولكم". هذا ما كان الخطابي يتمناه ويريده في عشرينيات القرن العشرين، فهل استمرت إرادة تحرير شمال إفريقيا لديه يوم لجأ إلى مصر سنة 1947، بعد نفي فرنسي دام 21 سنة؟ لكن، كيف صورة المغرب عند جيرانه في بداية القرن العشرين؟
صورة المغرب في بداية القرن العشرين عند جيرانه
كانت صورة المغرب، في بداية القرن العشرين، في أﺫهان جيرانه في اشمال إفريقيا قاتمة السواد، مما حذا بالزعيم التونسي الإصلاحي عبد العزيز الثعالبي (مؤسس الحزب الحر الدستوري) أن يضم صوته إلى صوت الاشتراكيين الراديكاليين الفرنسيين، الذين أسسوا " لجنة المغرب" (Comité du Maroc) قصد تيسير وتمهيد الطريق أمام الحكومة الفرنسية لاحتلال المغرب. وزادت قناعة الزعيم التونسي بأهمية الاحتلال على إثر زيارة قام بها إلى المغرب أواخر سنة 1903، حين اعتبر أن الاحتلال الفرنسي هو السبيل الوحيد أمام المغرب لإدخال المدنية إليه، وتغيير الحالة المزرية التي شاهدها خلال زيارته له.
فكيف كان موقف الثعالبي وباقي التونسيين من الحرب التحريرية التي خاضها المغاربة في الريف بعد ذلك بحوالي 20 سنة؟ ثم كيف كان موقف الجزائريين الذين كانوا خاضعين لاستعمار استيطاني، منذ ما يقارب قرنا من الزمن، والذين كانوا بدورهم يبذلون المحاولات تلو المحاولات للنهوض من عثرتهم؟
لا توجد أشياء كثيرة في الوثائق التونسية والجزائرية تخص حرب الريف، في بداية أمرها، باستثناء الصدى الكبير الذي أحدثته المعركة الشهيرة بأنوال، والذي يعود الفضل في إذاعة خبرها وتفاصيلها إلى الصحف الإنجليزية والأمريكية، وإلى الصدمة الشديدة التي أصابت الرأي العام الإسباني، مما عجل بتصاعد الاختلافات السياسية والأيديولوجية بين المكونات السياسية الإسبانية. فالعلاقات بين الأقطار المغاربية، يومذاك، كادت تكون منعدمة، لأن الاتصال الذي كان قائما بين المغرب والجزائر وتونس كان يغلب عليه طابع العمال المهاجرين. وإذا كانت الجزائر قد استقطبت عدد كبيرا من العاملين في المجالات الزراعية، منذ أواسط القرن التاسع عشر، فإن مناجم فوسفاط تونس، وخاصة في منطقة قفصة، اعتمدت على عدد غير قليل من العمال المغاربة منذ 1919. ولا نستطيع الجزم بأن أولئك المهاجرين كان لهم دور ما في التعريف بحرب الريف وأهدافها، لكننا نعرف أن السيد عبد السلام الخطابي، عم محمد بن عبد الكريم الخطابي وأحد مساعديه الأقربين، عمل إماما خطيبا في بعض مساجد تلمسان بالجزائر، قبل أن يدعى للمساهمة في الإعداد لمقاومة الاحتلال الإسباني والمشاركة في القيادة. ونعرف أيضا أن حدو لكحل، أحد قادة حرب التحرير، هو من مهاجري الريف إلى الجزائر أثناء هجوم المخزن على قبيلة بقوية في أواخر القرن التاسع عشر، وهناك تدرب على قيادة الطيران، وهو الذي تولى قيادة الطائرة الوحيدة التي استطاع عبد الكريم ورفاقه الحصول عليها. أما الهجرة المعاكسة، أي من الجزائر إلى المغرب، أثناء الاحتلال الفرنسي للمغرب، فكانت تتمثل أساسا في فئة المترجمين ومساعدي الإدارة الفرنسية.
إن أحوال المغرب الكبير آنذاك كانت توحي بأنه لم يكن هنالك ما يشير إلى حدوث شيء مهم في غرب العالم الإسلامي، بعد استعمار الجزائر سنة 1830، وتوقف مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري، وخمود الانتفاضات التي حدثت هنا وهناك، وبعد استسلام تونس للاحتلال الفرنسي سنة 1881، وإرغام سلطان المغرب على توقيع عقد الاحتلال، المسمى في الأدبيات الاستعمارية ب"الحماية" سنة 1912، وتفكيك أوصال المغرب بين أكثر من دولة، وإخفاق أكثر من محاولة لاستنهاض الهمم، ونفض غبار قرون من الجمود «في ظل فهم خاطئ للدين، وفي ظل تقاليد اجتماعية بالية»، على حد تعبير عبد الكريم غلاب في كتاب "تاريخ الحركة الوطنية".
الخطابي وانبعاث الأمل في التحرير
لكن انتصارات المجاهدين في مثلث الحرية، اضهار أُوبَران – إغريبن - أنوال، بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وقيام الصحافة الإنجليزية والأمريكية بنشر أصدائها أثبتت عكس ما روج له أنصار الاستعمار. فقد وصل صوت المجاهدين في الريف إلى كل الشعوب المستعمرة وليس الشعوب المغاربية فقط، قبل قرار توجيه المنشورات التي بعث بها إلى الشعبين الجزائري والتونسي، يدعوهم فيها إلى مؤازرة إخوانهم في الريف، أسوة بإخوانهم في أقطار مشرقية كثيرة، ويطلب منهم الامتناع عن التجنيد في الجيش الفرنسي المتوجه لمحاربة المغاربة الريفيين. كما لعب الأسرى الجزائريون والتونسيون الذين رفض عبد الكريم الاحتفاظ بهم، دورا في التعريف بما يجري بالريف من أحداث. ولم تتخلف الصحافة الصادرة في كل من الجزائر وتونس عن الركب، وخاصة بعد هزائم فرنسا أمام المقاومة سنة 1925، ولم تتوان الصحف الفرنسية المتعاطفة مع الحزب الشيوعي الفرنسي، ومع جناح من الاشتراكيين، الذين أبدوا معارضة قوية لنجدة بلدهم لجارتهم الإسبانية «المخذولة بدافع العصبية الملية وعملا بتقاليد السيادة الأوروبية بوجوب تآلب الدول الإفرنجية على الأمم الإسلامية»، حسب تعبير عبد الكريم الخطابي في منشور مؤرخ في شهر غشت 1925.
كان الخطابي يبين في منشوراته أسباب الحرب التي يخوضها المغاربة في الريف ضد الاحتلال والغزو غير الشرعي، والإذلال المنافي للكرامة الإنسانية، ويبدي رغبته في السلم القائم على الاستقلال. ثم يوجه نداءه إلى الشعبين التونسي والجزائري قائلا: « إنه يشق علينا أن نرانا ملتزمين لأجل الدفاع عن استقلالنا، أن نتقابل في ساحة القتال مع إخواننا في الجنس والدين، إنها حالة والله لتتنغص منها نفوسنا حسرا، ولتتفتت منها نفوسنا كمدا، ألم يقل الله عز وجل "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما " (سورة النساء: الآية 93).... وإتباعا للأوامر النبوية الشريفة "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (الحديث).»
فكيف كان أثر تلك المنشورات، وروايات الأسرى المسرحين، وأخبار وكالات الأنباء والصحف على المتلقي في تونس والجزائر؟
أولا: تونس
يتفق المؤرخون التونسيون لفترة العشرينيات في تونس على أن الحزب الحر الدستوري، الذي كان يعاني من جمود إثر سفر زعيمه الشيخ الثعالبي إلى الخارج سنة 1923 وجد في حرب الريف وتأثيرها في مشاعر الشعب التونسي فرصة لتعبئة السكان ضد سياسة فرنسا، ومناسبة لتعميق الوعي بالمخاطر الناجمة عن الاستعمار، وبث النداءات إلى المجندين التونسيين في الجيش الفرنسي قصد رفض القتال ضد إخوانهم المغاربة. وحملت تلك النداءات عبارات متطابقة مع عبارات الخطابي في المنشور أعلاه وهي «أنه من الإجرام مقاومة الريفيين بمهاجمتهم بواسطة إخوانهم في الجنس والدين.»
ويبدو أن بعض الجنود تأثروا بمفعول تلك النداءات، فقد أورد المؤرخ التونسي علي المحجوبي أن جنودا من قبيلة "جلاص» المشاركين في حرب المغرب كانوا يعربون بصورة غير مباشرة، في رسائلهم إلى ذويهم، عن تمنياتهم بانتصار عبد الكريم.
وفي الجانب الإعلامي كانت هنالك حملة صحفية تونسية ضد التدخل الفرنسي في الحرب، إلى جانب إسبانيا المنهزمة، محتمية وراء «موقف الحزب الاشتراكي، الذي وقف ضد الحرب وشن عليها حملة كبيرة.» وراحت الصحافة تكتب في شبه إجماع أن «عبد الكريم قائد كبير واتخذته رمزا من رموز التحرير من مخالب الاستعمار الفرنسي.»
ويُعدّ مقال أحمد توفيق المدني، عضو اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري، في جريدة "افريقيا" بتاريخ 25 ماي 1925، ترجمة لمشاعر جل التونسيين نحو الحرب الريفية، ومما ذكره في ذلك المقال قوله، إن «عبد الكريم مجاهد في سبيل الله، يعيد لأمته مجدا ويهيىء لها نصرا مؤزرا، ويحاول تغيير مجرى التاريخ في العالم العربي، ويحفر للاستعمار، وقد حفر فعلا، قبرا عميقا ضيقا مظلما، بفضل مجاهدين أبرار، ورجال أحرار باعوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله والأمة والوطن.»
وفي شهر يونيو 1925 حاول المدني عرض مسرحية "طارق بن زياد" التي تتضمن أحداثها إسقاطات عن انتصار عبد الكريم على الإسبان الذين لم يكن في وسعهم إلا الاستنجاد بجارتهم اللدودة «بدافع العصبية الملية ومعاداة الأمم الإسلامية» بتعبير عبد الكريم نفسه. ويترجم هذه العصبية وهذه المعاداة للأمم الإسلامية ما كتبه المارشال ليوطي(Lyautey) المقيم العام بالمغرب، إلى حكومته في 11 دجنبر 1924 يحثها على إرسال مزيد من القوة إليه لأن «دولة إسلامية، قوامها قومية الشمال الإفريقي، أخذت تنشئ نفسها شمال المغرب الفرنسي.» أما في تونس فقد أمر المقيم العام لوسيان سان (Lucien Saint) بنزع الثقة من الجنود التونسيين والحيلولة دون إشراكهم في المعارك بالمغرب. وفي الإطار نفسه، تم إبعاد أحمد توفيق المدني إلى الجزائر في 25 يونيو 1925. وهذا غيض من فيض. فماذا عن الجزائر؟
ثانيا: الجزائر
أما في الجزائر فكان متداولا بين الأوساط المختلفة ومعروفا عند الطبقة السياسية أن السلطات الاستعمارية الفرنسية اعتقلت مجموعة من الأشخاص كان يتزعمهم رجل اسمه " الريغي" واتهمتهم بالتآمر على فرنسا، وبالتواطؤ مع الحزب الإصلاحي، الذي كان يرأسه الأمير خالد بالتنسيق مع ثورة الريف بالمغرب. وقالت إدارة الحاكم العام بالجزائر إن المتآمرين كان لديهم خطة تحتوي على 18 درسا تتضمن إنشاء منظمة ثورية في كل أنحاء الجزائر، وأن برنامجهم كان يقوم على إقناع «السكان بأن قضية المغرب هي قضيتهم، وإقناعهم برفض دفع الضرائب، وعصيان أوامر الإدارة، وأن يلجؤوا إلى حرب العصابات.» وفقا لرواية سعد الله أبو القاسم في مؤلفه الحركة الوطنية الجزائرية. كما تم اعتقال كل من تبرع وتعاون أو تعاطف مع حركة الأمير عبد الكريم.
ويذكر المفكر الجزائري مالك بن نبي، الذي كان في العشرين من عمره آنذاك، في مذكراته أن الكلام عن حرب الريف، في أواخر عام 1924، كان كلاما صريحا في الصحافة الجزائرية «وكان اسم الأمير عبد الكريم يشار إليه بالبنان، فكانت الشرطة الفرنسية تخلق المصاعب حتى لباعة " اسفنج" المتجولين، الذين يعرضون سلعتهم في الشوارع من الفجر، وهم يصيحون صياحهم المألوف قائلين : يا كريم.»
ثم يضيف أن الإدارة الفرنسية كانت «تجند فرسان الكوم من العرب. وقد غدت تلك الحرب الموضوع الرئيس في قهوة ابن يمينه (في قسنطينة)، فكان الناس يحلمون بالحرب، ويبحثون عن تفسير أحلامهم في مخرج يوائم عبد الكريم»، إلى أن يقول: «وبأية حال، كانت حوادث الريف تلهبنا في قهوة ابن يمينه وتؤجج فينا مشاعر كان عنفها يشدني شدا قويا؛ وكانت قراءة صحيفة "L'humanité" وحدها تنزل السكينة علي»، بسبب مقالاتها التي كانت تصب جام غضبها ولعناتها على دعاة الحرب ؛ ثم ينقل إلينا اهتمامات المهاجرين إلى فرنسا بحرب الريف؛ فأثناء رحلة له إلى فرنسا في ربيع 1925 دخل مقهى عربية تضج بلاعبي الدومينو، وبمجرد أن عرف صاحب المقهى أنه قادم لتوه من الجزائر، ودون أن يكون بينهما معرفة سابقة، أتى إلى طاولته وجلس «وسأل ومرفقاه يستندان إلى الطاولة ورأسه بين يديه:
ما هي أخبار الريف؟
فجعلني سؤاله في الموضوع الذي كان شغلي الشاغل. فانقطعت القاعة كلها من اللعب بلعبة الدومينو وعن الكلام حتى تصغي إلي.»
ويستمر التفاعل والتعاطف مع المجاهدين المغاربة. فخلال شهر غشت 1925 يطلعنا مالك بن بني على مشاعر بلدة جزائرية صغيرة تقع على الحدود الجزائرية التونسية، وهي مدينة تبسة، نحو الحرب المغربية بقوله: «كانت حرب الريف تبلغ أوجها في الصحافة وفي النفوس. وكانت الإدارة الفرنسية تستمر في التجنيد، وبلغ بها الأمر أنها كانت تستنفر منابر الجوامع للنداء للحرب. وكنا أنا وأصدقائي نتتبع ذلك التطور.... فنودي للحرب من على المنبر في جامع تبسة يوما أظن أنه في نهاية شهر أغسطس من سنة 1925»، إلى أن قال: «لم نعد نستطيع مع ذلك الوضع صبرا، وقد عزمنا على الرد في جلسة سرية ليلية... كلفني المؤتمرون أن أكتب نداء كان علينا أن نعلقه على باب الجامع ليلة الغد.» ثم أورد رد فعل السلطات الفرنسية على المنشور الذي دعا إلى مؤازرة المجاهدين ورفض التجنيد فقال: « انفجرت الورقة في ضمير الإدارة الفرنسية أكثر مما انفجرت في ضمير إخواننا المواطنين.» لكن ماذا استخلص مالك بن نبي وأمثاله من تلك الحرب بعيدا عن الأحلام التي كانت تسعى إلى إيجاد "مخرج يوائم عبد الكريم"؟
مما لا شك فيه أن كل شيء، من الناحية المادية، كان لصالح القوتين الاستعماريتين فرنسا وإسبانيا، وبخاصة فرنسا القوة الاستعمارية الكبرى والمنتصرة على ألمانيا في معركة فيردان نهاية الحرب العالمية الأولى.
ولذلك نرى مالك بن نبي يستعير جملة، لخص بها صحافي أمريكي ما آل إليه الأمر في النهاية، تقول: «فرنسا انتصرت ولكن المجد يبقى للريف.» أما الدرس الذي استوعبه هو وأمثاله من الشباب الواقع تحت نير الاستعمار فيكمن في قوله: «برهن عبد الكريم على أن إمبراطورية استعمارية يمكن أن تخدش.»
نعم كان هناك خوف المارشال ليوطي من قيام دولة إسلامية قوامها قومية شمال إفريقية، أو مغاربية كما نقول اليوم، لأن مشاعر هذه الشعوب كانت قد بدأت تعود من منفاها الطويل خارج التاريخ بفضل التصدي للاستعمار، الذي اعتبره عبد الكريم «وسيلة للتقارب بين الشعوب.»
وكان هناك مجد للمغرب ممثل في جزء من أجزائه اسمه الريف، هذا المغرب الذي كان نسبيا منسيا، مستسلما للأقدار والأهواء، فأصبح صانعا للتاريخ بعد أن كان يصنعه التاريخ، ومبشرا المقموعين والمقهورين بان في مقدورهم الانتصار على ضعفهم، وتجاوز أوضاعهم، شرط أن يسترجعوا الثقة في أنفسهم.
وكان هناك خدش لأمبراطورية استعمارية لا تغيب عنها الشمس من الهند الصينية وغويانا إلى المغرب والكارييب. وأي خدش؟ إنه البشير بقرب اندحار الليل الاستعماري الطويل، وانبلاج صبح الشعوب.
وهكذا، وبعد ربع قرن من الزمن على حرب الريف، أمسى قبر الاستعمار عميقا وضيقا ومظلما، كما توقع توفيق المدني، أو كما كان يقول عبد الكريم، في منفاه الثاني بالقاهرة لزعماء الحركات الوطنية: «لو عرفنا حقيقة الاستعمار لقلنا إنه انتهى فعلا، ولا نحتاج إلا لدفنه.» وكثرت بل انتشرت مدافن الاستعمار من جاكارطا إلى طنجة.
فما هي الوسائل التي أعدها، بعد أن تخلص من نفيه الأول واستقراره في القاهرة، ليتمم خطته في دفن الاستعمار في شمال إفريقيا، بصفة خاصة، وماذا كانت استراتيجيته في ذلك؟
من أجل التعرف على هذه الوسائل وهذه الإستراتيجية نستقصي آراء شاهدين رافقا الأمير منذ أن استقر بالقاهرة سنة 1947، وهما ضابطان من الضباط الذين كونهم الأمير الخطابي في المدارس العسكرية العربية إعدادا لهما للمساهمة وقيادة العمل التحريري، وهما القائد العقيد الهاشمي الطود، والقائد محمد العزيز، المعروف بحمادي الريفي، وكانا من المقربين إليه مع ثلة من إخوانهم الذين استشهدوا في ميدان الشرف؛ وقد أشرنا إلى أسماء بعضهم في ثنايا هذا الكتاب. وهذا ما نطلع عليه في الحلقتين المقبلتين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.