كل صباح تأتي الأربعينية سالمة علي حاملة بعض الجبن المصنع منزليا وبيض الدجاج، فتفترش الأرض أمام سوق الخضار القديم وسط عمان لتأمين لقمة عيش عائلتها في عاصمة تعد أغلى المدن العربية من حيث كلفة المعيشة. وتفترش السيدة الرصيف قرب سوق الخضار القديم وسط عمان مرتدية عباءة سوداء وقد غطت معظم وجهها بشال أسود، عارضة الجبن والبيض في علب معدنية كبيرة وسط الغبار وضجيج محركات السيارات والحرارة المرتفعة. وتقول سالمة لوكالة فرانس برس: "الوضع صعب جدا. الحياة أصبحت صعبة جدا جدا"؛ فيما تنشغل بترتيب ما تعرضه من بيض وجبن أمام المارة. وتستغرق رحلة سالمة يوميا ساعتين في المواصلات العامة من مسكنها في مادبا (35 كلم جنوبعمان) إلى العاصمة التي تشهد منذ أيام تظاهرات واحتجاجات ليلية على ارتفاع الأسعار ومشروع قانون معدل لضريبة الدخل، دفعت رئيس الوزراء هاني الملقي إلى تقديم استقالته الاثنين. وتقول سالمة إنها تصحو قبل الفجر لتحلب أغنامها وتصنع الجبن واللبن ثم تجمع البيض وتحمل بضاعتها وتنطلق، وتضيف: "تكاليف العيش مرتفعة، وكل عام يأتي أصعب من الذي قبله، كل شيء إلى الأسوأ". وتسعى سالمة مع زوجها إلى تأمين لقمة العيش لخمسة أولاد؛ أما جارتها على الرصيف نفسه، أم قصي، فلديها تسعة أطفال، وهي تربي الأغنام وتبيع الجبن واللبن والبيض البلدي أيضا، وتقول: "كل شيء غالي الثمن.. بالكاد يكفي ما نبيعه لإطعام أولادنا وشراء علف للأغنام". وتضيف السيدة الأربعينية التي غطت وجهها بوشاح بني داكن اللون: "هذا العام أصعب عام مر علينا. ارتفاع الأسعار والضرائب دمر حياة الناس". ووفقا للأرقام الرسمية، ارتفع معدل الفقر مطلع العام إلى 20%؛ فيما ارتفعت نسبة البطالة إلى 18.5% في بلد يبلغ معدل الأجور الشهرية فيه نحو 600 دولار، والحد الأدنى للأجور 300 دولار. واحتلت عمان المركز الأول عربيا في غلاء المعيشة والثامن والعشرين عالميا، وفقا لدراسة نشرتها مؤخرا مجلة "ذي ايكونومست". ويقول محمد ابو عريضة (48 عاما) الذي يبيع الفاكهة التي عرضها على صندوق خشبي على حافة الرصيف: "ما يحدث حرام..هذا ظلم"، ويضيف لفرانس برس: "المواطن بالكاد يأكل ويشرب..ملابس العيد لم نعد نشتريها لأطفالنا". ويردد الرجل متوجها إلى المارة قربه: "كيلو المشمش بليرة"، وهو يدل على بضاعته من المشمش والدراق، ثم يقول لفرانس برس: "ذبحنا الغلاء.. لم يبق لدينا شيء. بقي أن نخلع ملابسنا ونعطيها للحكومة"، ويتابع: "لدي خمسة أولاد، أدفع إيجار المنزل 200 دينار (280 دولارا) وماء وكهرباء أيضا 200 دينار. ودخل معظمنا هنا يتراوح بين 350 دينارا (490 دولارا) و400 دينار (560 دولارا)". واتخذت عمان إجراءات في السنوات الثلاث الماضية استجابة لتوجيهات صندوق النقد الدولي الذي طالب المملكة بإصلاحات اقتصادية تمكنها من الحصول على قروض جديدة في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة وتجاوز الدين العام 35 مليار دولار. وزادت الحكومة مطلع العام الحالي أسعار الخبز بنسبة تصل إلى 100 % وفرضت ضرائب جديدة على العديد من السلع والمواد بهدف خفض الدين العام. - احتجاجات - ويشهد الأردن منذ خمسة أيام احتجاجات وتظاهرات ليلية واسعة ضد سياسة الحكومة الاقتصادية بعد إقرارها مشروع قانون لضريبة الدخل، ثم رفعها أسعار المحروقات والكهرباء الخميس قبل التراجع بأمر من الملك. وردد المتظاهرون باستمرار: "الشعب يريد إسقاط الحكومة"، ورفعوا لافتات كتب عليها "ارحل" و"تسقط حكومة الملقي". واستدعى العاهل الأردني الاثنين رئيس الوزراء هاني الملقي، فقدم الأخير استقالته على خلفية تلك الاحتجاجات. وتخضع معظم السلع والبضائع بشكل عام في الأردن لضريبة مبيعات قيمتها 16%، إضافة إلى رسوم جمركية وضرائب أخرى تفوق أحيانا ثلاثة أضعاف قيمة الأسعار الأصلية للسلع. وفي منطقة وسط البلد في عمان، التي تعد ملجأ محدودي الدخل والفقراء للتبضع بأسعار أقل من المراكز التجارية، يفترش العشرات الرصيف عارضين بضائع متنوعة. ولا تتوفر على الرصيف أماكن مجهزة لعرض البضائع، فيعمد باعة الرصيف إلى عرض بضائعهم بأقفاص معدنية أو عرضها على عربات متنقلة أو صناديق خشبية. ويقول أبو محمد (65 عاما) الذي كسا شعره الشيب وهو يتنقل بين صناديق الخضار والفاكهة المعروضة لشراء ما يحتاج: "الوضع لم يعد يحتمل أبدا"، ويضيف: "لم يبق شيء لم يرتفع سعره، في حين أن دخل الأردني على حاله (...) انظر إلى السوق، إنه شبه متوقف". ويضحك الرجل قائلا: "نحن أغلى مدن المنطقة وسكانها الأقل دخلا. ولا تزال حكومتنا تريد المزيد من رفع الأسعار"، ويوافقه عماد جودت (60 عاما) قائلا: "دخل المواطن الأردني تآكل، والرواتب لا تكفي، فأقل بيت إيجاره 200 دينار (280 دولارا) والماء والكهرباء لأقل أسرة 100 دينار (140 دولارا).. أقل سعر لكيلو اللحم 5 دنانير (7 دولارات)"، ويضيف: "كيف يستطيع رب الأسرة تدبر أمره بدخل محدود؟". وتراجع معدل الاستهلاك بداية شهر رمضان الحالي بنسبة 20% مقارنة بالفترة نفسها من رمضان الماضي، فيما غابت الخيام الرمضانية عن المشهد هذا العام. * أ.ف.ب