يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة؛ لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد، وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/17 لجنة الدراسات البربرية يمكن القول إن طبيعة وخصوصية سكان شمال إفريقيا كانت من الناحية المعرفية الإجمالية في الأوساط المثقفة الغربية من المعلومات المتداولة منذ العصر الروماني على الأقل، ثم تأكدت بعد ذلك من خلال الرحلات والأنشطة التجارية على مر العصور حتى الفتح الإسلامي، عندها أميط اللثام نهائيا عن الهوية الأمازيغية لسكان هذه المنطقة؛ وذلك من خلال الدراسات المتميزة التي قام بها الجغرافيون والمؤرخون العرب، وعلى رأسهم عبد الرحمان ابن خلدون. وفي التاريخ الحديث ركز معظم الباحثين الأوروبيين على أن أغلبية ساكنة إفريقيا الشمالية من الأمازيغ، وأطلق بعضهم على هذه المنطقة من العالم اسم «بربريا» بمعنى «بلاد البربر». ومن بين هؤلاء، الباحث الفرنسي مارسي الذي أشار في مقدمة دراسة له بعنوان «تاريخ إفريقيا الشمالية» إلى وجود برابرة مستعربين، إلى جانب برابرة وعرب خالصين. ونظرا لقيام الدولة المغربية منذ العصر الوسيط على أسس الحضارة العربية الإسلامية وما تلا ذلك من نشر لنفوذها في الأندلس لعدة قرون، إضافة إلى اعتمادها اللغة العربية في مراسلاتها الرسمية مع الدول العجمية، فقد كان الاعتقاد سائدا في أوروبا بأن أكثرية سكان منطقة الشمال الإفريقي هم من العرب، وأن الأمازيغ أقلية قليلة، وهذا طرح لم يسبق للمصادر العربية أن أكدته على الإطلاق. وعلى إثر احتلال فرنسا للمنطقة، اتضح أن العكس هو الصحيح، وأن الاعتقاد السائد قبل ذلك كان خاطئا. ووجدها المستعمر فرصة سانحة لتبني استراتيجية «فرق تسد» واستثمار نتائجها لفائدة تحقيق مشروعه الكولونيالي الشامل. وهكذا نظمت الرحلات الاستكشافية التجسسية، وتوالت الأبحاث الميدانية والتاريخية لإلقاء المزيد من الأضواء على الموضوع نفسه، لكن هذه المرة بخلفية استعمارية صريحة. والسؤال الذي ظل مطروحا هو: كيف يمكن للسلطات الكولونيالية الاستفادة من هذه المعلومات؟ وكانت الإجابات كثيرة ومتعددة، لكنها صبت كلها في خانة واحدة تهدف إلى ضرورة تحقيق الاختراق الكلي للمجتمع الشمال الإفريقي. وفي مقدمة استهل بها أول مجلد من سلسلة «الوثائق البربرية» التي كانت تشرف على إصدارها لجنة الدراسات البربرية بالرباط منذ سنة 1915، قال الكولونيل سيمون، بصفته عضوا في هذه اللجنة ومديرا لقسم الاستعلامات التابع للإقامة العامة، ما يلي: "إن الخلاصات التي نتوصل إليها من خلال هذه الأبحاث والدراسات هي خلاصات نظرية صرفة. ولكن ما يجب معرفته من طرف السلطة التي أصبحت وصية على الأهالي في مستعمرة كالجزائر وفي محمية كتونس أو المغرب، ليس هو الأصل الحقيقي لتلك الأهالي بقدر ما هي المجموعة الإثنية التي تربطهم بها عاداتهم وتقاليدهم، حيث إن مراعاة هذه التقاليد تعد اليوم بمثابة حجر الزاوية بالنسبة لسياستنا الاستعمارية". وعليه، فإن الجانب النظري لهذه الدراسات هو مجرد منطلق معرفي يجب أن يتم تسخيره لفائدة برغماتية الفعل الاستعماري، وهذا بالضبط ما جندت من أجله لجنة الدراسات البربرية. قرار إحداث اللجنة وتشكيلة أعضائها لم تكن هذه اللجنة عبارة عن بنية بيروقراطية فرضتها هيكلة الحاجيات الأولية لنظام الحماية الإداري، بل كانت قبل كل شيء تجسيدا للرؤية الاستعمارية المتعمقة وحلقة من حلقات البرنامج الكولونيالي العام الذي بدأت عناصره، على امتداد عشرين سنة قبل إحداث اللجنة، في تكامل واندماج متزايدين. لقد آن الأوان بالنسبة للدخيل قصد تفعيل تلك الرؤية على أرض المغرب بهدف الاستغلال وجني الثمار، لا سيما وأن التجربة الجزائرية عززت هذا المنحى وبينت عجزا معرفيا بخصوصيات المجتمع الأمازيغي لدى سلطات القرار الاستعماري، وهذا ما كان يجب استدراكه في بداية احتلال المغرب حتى لا تتكرر الأخطاء الاستراتيجية نفسها الناجمة عن القصور المعرفي المشار إليه. لذلك كان من الطبيعي أن يوجه الفرنسيون سياستهم البربرية في محميتهم الجديدة طبقا لمخطط دقيق يعتمد على معرفة لا تقل دقة عن النظرة الشمولية لهذه المسألة بالذات. وهكذا قبل استصدار ظهير 11 شتنبر 1914 الذي تطرقنا له في المقال السابق، أعطى الجنرال ليوطي تعليماته بتاريخ 30 يونيو 1913 قصد القيام بتحريات واستقصاء حول الوضع العرفي والمؤسسات التأطيرية للقبائل البربرية المغربية، التي من شأنها في رأيه أن "تساعد أكثر على تحديد الخطة السياسية الواجب اعتمادها تجاه البربر". وقد كان زحف الجيش الكولونيالي آنذاك في إطار «التهدئة» يغذي ليوطي كل يوم تقريبا بتقارير تدفعه إلى المزيد من التخطيط لقطع المراحل الضرورية لإنجاز هذه السياسة البربرية التي أصبح أشد وثوقا من ملاءمتها للوضع الاستعماري القائم. وهكذا، بناء على قرار من المفوض المقيم العام للجمهورية الفرنسية بالمغرب، بتاريخ 9 يناير 1915، تم إحداث لجنة الدراسات البربرية. وأشارت مقدمة القرار بصيغة مقتضبة إلى الغاية المتوخاة من تأسيس هذه اللجنة، وهي كالتالي: "لقد أحدثت بالرباط لجنة للدراسات البربرية، الهدف منها هو تجميع المعلومات التوثيقية التي توفرت لدى مختلف المراكز الجهوية حول القبائل البربرية المغربية؛ وذلك قصد بلورتها إلى نتائج عملية تهم تنظيم وإدارة تلك القبائل". وتألفت اللجنة في تركيبتها الأولى من عدة أعضاء تم اختيارهم بعناية تامة بناء على كفاءتهم ووفقا لآفاق السياسة البربرية. واللائحة كما تم نشرها رسميا هي: الكاتب العام للحكومة الشريفة، رئيسا للجنة رئيس قسم إدارة التعليم، النائب الأول للرئيس رئيس قسم الأوقاف، النائب الثاني للرئيس مدير قسم الاستعلامات، عضوا رئيس الديوان السياسي بالإقامة العامة، عضوا مدير وأساتذة المدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية، أعضاء وأشار القرار إلى أنه بإمكان اللجنة أن تضم إليها أعضاء مستشارين وأعضاء مراسلين. وكان عليها أن تباشر مهامها فور تشكيلها، كما أن اجتماعاتها يجب أن تنعقد كلما دعا إليها رئيسها. وفعلا، قامت اللجنة بمباشرة المهام التي أنيطت بها منذ الإعلان عن إحداثها، ولهذا الغرض تم دعمها باللوجستيك الضروري وتطعيمها بالكفاءات المتخصصة لتساهم أكثر في توضيح رؤية السياسة البربرية بناء على منهجية تطبيقية تستحضر هفوات الماضي وتتطلع إلى نجاحات المستقبل. وهكذا، شدد أحد أعضائها المؤسسين، وهو الكولونيل سيمون، على أهمية الأبحاث التي أجراها كل من هانوطو ولوترنو في الجزائر كقاعدة دراسية متينة يتحتم الاسترشاد بمناهجها ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق الموجودة بين المغرب والجزائر، وأضاف إلى ذلك هذه الإيضاحات: "إننا اليوم في المغرب أمام مجموعات هائلة من البربر الذين ظلوا على مر الأزمان تقريبا أقحاحا. وبينما سكان الجزائر من هذا الصنف كانوا مستقرين في مناطق جد محدودة كمنطقة القبائل العليا والسفلى، والأوراس، والمزاب، فإنه على العكس من ذلك تشكل الساكنة البربرية في المغرب كتلة ضخمة تشمل الريف، وجبالة، والأطلس المتوسط، والأطلس الكبير، وجزء من السهول الصحراوية الواقعة إلى الجنوب من هذه الجبال. وحتى في بعض الأماكن الأخرى نلاحظ تواجد العنصر البربري، سواء تعلق الأمر بغرب المغرب أو شرقه، إنه لمن الأهمية بمكان دراستهم دراسة معمقة". موضوعات الوثائق البربرية طبقا للأهداف التي أسست من أجلها، قامت لجنة الدراسات البربرية بتجميع عدد كبير من المعلومات والوثائق التي تتفاوت أهميتها وتتباين مصداقيتها، ولكنها بصفة إجمالية بقيت وفية للمبادئ التي رسمها الجنرال ليوطي لسياسة الحماية البربرية، وبالتالي كانت مرآة عاكسة لجزء من المجهودات المبذولة في هذا الإطار. وما هي إلا شهورا معدودة حتى تجمع لدى اللجنة كم وافر من المادة التوثيقية من مونوغرافيات وأبحاث متعلقة بالبيئة والثقافة البربرية، مما دفع اللجنة إلى تدوين ونشر ما تسمح به الظروف التطبيقية للسياسة المعتمدة، علما بأن مصادر استقاء المعلومات كانت ترتكز أساسا على تقارير ضباط الشؤون الأهلية، ومراسلات السلطات الإدارية والعسكرية في المناطق التي طالتها عمليات «التهدئة»، إضافة إلى تقارير أعدتها المصالح المركزية التابعة للإقامة العامة، ودراسات أخرى متنوعة ذات طابع استخباراتي. وبطبيعة الحال كانت كل الدراسات التي تكتسي طابعا استخباراتيا متميزا، بحيث تمس جانبا معينا وحساسا في سياسة الحماية، كأن يشكل نشرها مثلا انعكاسات سلبية على سير عمليات «التهدئة» أو يعرقل استراتيجية التغلغل والاختراق، كانت توجه إلى المصالح المختصة وتبقى محتفظة بسريتها داخل دوائر سلطة القرار الكولونيالي. وهكذا، أخذت اللجنة على عاتقها بموجب القرار المؤسس لها نشر عدد من الدراسات المتضمنة للبيانات والمختصرات المتعلقة بميدان تخصصها المنصوص عليه. وكانت تستهدف من وراء التعميم المحدود لهذه الأبحاث والدراسات تزويد موظفي إدارة الحماية بمعلومات عامة ودقيقة في آن واحد، كانت تعتبرها ضرورية من أجل تسهيل علاقات السلطة «الحامية» بالأهالي «المحميين». وقد جاءت حصيلة الأنشطة التوثيقية المسموح بنشرها في أربع كراسات برسم إصدارات عامي 1915 و1916، وكانت موضوعاتها كما يلي: الكراسة الأولى تناولت المواضيع الآتية: الدراسات البربرية في المغرب - تطبيقاتها السياسية والإدارية، استمارة بهدف معرفة المجتمع البربري، استمارة للحصول على معلومات تجارية، تعليقات حول الغناء الشعبي الريفي، الزواج عند برابرة المغرب، العرف عند قبائل القصور البربرية بمنطقة كير العليا (يتبع)، مقتطفات بربرية، عرض ببليوغرافي، معلومات حول امتحانات المدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية بالرباط. الكراسة الثانية اشتملت على ما يلي: العرف عند قبائل القصور البربرية بمنطقة كير العليا (يتبع)، مقتطفات بربرية. الكراسة الثالثة ضمت: العرف عند قبائل القصور البربرية بمنطقة كير العليا (نهاية)، نبذة عن القانون العرفي عند البرابرة المغاربة، أساطير وخرافات جبل زرهون، التحصينات الدفاعية في شمال إفريقيا، قبائل البرانس (يتبع). الكراسة الرابعة وفيها نقرأ المواضيع التالية: دراسة حالة عودة إلى العرف عند قبيلة مستعربة، نبذة عن الاحتفال بعاشوراء في الرباط، لاتينيون وبرابرة، المآثر العمرانية المنسوبة إلى البرتغال بدكالة، قبائل البرانس (نهاية). ويتضح جليا من محتوى الدراسات وطريقة تناولها للموضوعات المكانة التي كانت توليها اللجنة إلى كل ما يتعلق بالتقاليد والأعراف الأمازيغية. والواقع أن إحداث هذه اللجنة في وقت لم تمض فيه سوى بضعة شهور على استصدار ظهير 11 شتنبر 1914 كان دلالة قوية على جعل العرف نقطة ارتكاز في سياسة الحماية البربرية. سلسلة «مدن وقبائل المغرب» بالموازاة مع إصدارات «وثائق بربرية» تحت إشراف لجنة الدراسات البربرية، واصلت البعثة العلمية الفرنسية بالمغرب نشاطها بإمكانات جديدة ووتيرة أعلى، وبدأت تنشر سلسلة من الدراسات تحت عنوان «مدن وقبائل المغرب»، صدرت في عدة مجلدات انطلاقا من سنة 1915. وقد عرفت هذه البعثة توسيع أنشطتها في ظل نظام الحماية بناء على قرار للمقيم العام بتاريخ 18 أكتوبر 1913 الذي كلفها بمهمة «الإعداد لسلسلة وثائقية برعاية من الإقامة العامة». وحددت المادة الأولى من هذا القرار مواضيع السلسلة من خلال لائحة الوثائق التي كانت البعثة تتوصل بها بصفة رسمية عن طريق القسم السياسي التابع للإقامة العامة، وهي التقارير التي تم إعدادها في مختلف الجهات حول المسائل الإثنية، والتاريخية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإدارية التي تتعلق بمدن وقبائل المغرب، إضافة إلى تقارير أخرى تم إنجازها من طرف عناصر قسم الاستعلامات وكانت تهم السياسة والسوسيولوجيا الأهلية. أما فكرة إحداث سلسلة «مدن وقبائل المغرب» فتعود في الأصل إلى لوشاتليي الذي اقترحها على الجنرال ليوطي فوافق عليها. وكانت السلسلة ترمي بالأساس إلى إعداد مجموعة مفصلة من البيانات ذات الطابع المحلي على شكل مصنفات يتم وضعها رهن إشارة الأطر الإدارية والعسكرية المهتمة بالشؤون الأهلية. وأول مصنف تم إعداده من هذه السلسلة كان حول مدينة الدارالبيضاء ومنطقة الشاوية. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة