هذا المقال عبارة عن ترجمة لفصل من كتاب: "في الجرائم والعقوبات" للفيلسوف والسياسي ورجل القانون الإيطالي سيزاري بيكاريا المشهور بأطروحته حول الجرائم والعقوبات (1764) التي أدانت التعذيب وعقوبة الإعدام وكانت عملاً مؤسساً في مجال معاملة المجرمين. الفصل المذكور يحمل عنوان "في العقوبة الحَبسية" وهو تحليل لِمدى مشروعية هذه العقوبة، أيْ عقوبة الزَّج في السجن قبل النطق بالحكم القضائي. أرجو أن تساهم هذه الترجمة في تبديد الغموض فيما يخص النقاش الحالي حول المُطالبة بالمتابعة في حالة سراح لبعض المحبوسين على ذمة التحقيق في ملفات حارقة معروضة حاليا أمام المحاكم المغربية. إليكم الترجمة: نَمنح، عموماً، للقضاة المكلفين بتطبيق القوانين حقاً يعاكس المصلحة العامة وهو حق التصرف في السلامة الشخصية، وأعني بذلك الحق في حبس المواطنين كيفما يحلوا لهم، في حرمان أعدائهم من الحرية بذرائع تافهة و، بالنتيجة، ترك أولئك الذين يتمتعون بحمايتهم أحرارا رغم كل المؤشرات التي تدينهم بالجريمة. كيف أصبح هذا الخطأ الفادح شائعا جدا؟ فَعلى الرغم من أن العقوبة الحبسية تختلف عن غيرها من العقوبات بكونها تسبق ضرورةً النطق بالحكم على الفعل الجرمي إلا انها تخلو، كما هو الشأن لجميع أنواع العقوبات، من ميزة أساسية ألا وهي أنَّ لِلقانون وحده الحق في تحديد الحالات التي يجب تطبيقها فيها. لهذا يجب على القانون أن يحدد بدقة المؤشرات التي سيتم اعتمادها لحبس مُتهم ما وإخضاعه للتحقيق. الغضب الشعبي، إمكانية الفرار، اعتراف شريك للمتهم في الجريمة، التهديدات التي أطلقها المتهم، كراهيته الراسخة للمُعتدَى عليه، ناهيك عن لائحة الجرائم المعروفة، وجميع القرائن الأخرى المماثلة، كل هذا يكفي للسماح بحبس مواطن. لكن تحديد هذه المؤشرات بصفة ثابتة هو من اختصاص القانون وليس من اختصاص القاضي الذي تصبح أحكامه مساسا بالحرية السياسية بمجرد ألا تكون تطبيقا على حالة خاصة لقاعدة عامة منصوص عليها في مدونة القوانين. عندما تكون العقوبات أكثر رِفقا، عندما لا تبقى السجون مرادفا لقضاءِ مدة رهيبة من اليأس والجوع، عندما تدلف الرأفة والإنسانية إلى داخل الزنازين، وعندما، في الأخير، يفتح الجلادون القساة المكلفين بتنفيذ أحكام العدالة قلوبهم للرحمة، آنذاك يمكن للقوانين أن تكتفي بمؤشرات خفيفة لكي تأمر بالحبس. ثُم لا يجب أن يترك الحبس أي علامة خِزي على المتهم الذي تمَّت تبرئته قانونا. يَامَا رأينا، عند الرومان، من مواطنين تم اتهامهم بارتكاب جرائم مُروعة ولكن اتضح فيما بعد أنهم أبرياء، فتلقوا التبجيل من الشعب وأُعيد لهم الاعتبار على مستوى عالِ. لماذا، في أيامنا هذه، مصير بريء محبوس مختلف جدا؟ ذلك لأن المنظومة الحالية للاجتهاد الجنائي تغرس في أذهاننا فكرة القوة والسلطة قبل فكرة العدالة، لأننا نرمي بالبريء المتهم والمجرم الحقيقي في زنزانة واحدة، لأن الحبس، بالنسبة لنا، هو وسيلة للتعذيب قبل أن يكون وسيلة للتأكد من الأفعال الإجرامية ولأن عقيدة القوات المدافعة عن العرش وعن حقوق الأمة أمام الخارج تنفصل عن عقيدة القوات التي تسهر على تطبيق القوانين في الداخل، في حين ينبغي أن تكون العقيدتين متحدتين فيما بينهما بشكل وثيق. يرى الرأي العام أن السجون العسكرية تُلحق خِزيا أقل بكثير من ذلك الذي تلحقه السجون المدنية. إذا تكلفت مختلف فيالق الجيش، تحت سلطة القوانين العامة ودون أي تدخل مباشر للقضاة، بحراسة السجون، فإن وصمة الخزي ستختفي أمام أبَّهة وشهامة الهيئة العسكرية، لأن حجم العار، مثله مثل كل ما يتعلق بالرأي العام، يتأثر بالشكل أكثر من الجوهر. ولكن بما أن قوانين وأعراف الشعب متخلِّفة بقرون عديدة عن عهد الأنوار الذي نعيشه حاليا، فإننا سوف نبقى نحتفظ بالهمجية والأفكار المتوحشة لِصيَّادي الشمال، أجدادنا المتوحشين. ستبقى أخلاقنا وقوانيننا متخلفة كثيرا عن الأنوار وستُهيمِن علينا الأحكام الهمجية المسبقة التي ورثناها عن أجدادنا، صيادي الشمال المتوحشين.