صدق أو لا تصدق، ساكنة السجون في المغرب أكبر من ساكنة السجون في الجزائر ومصر والسودان وتونس والمكسيك ودول إفريقية عديدة، بعضها يعرف حروبا أهلية، وانتشار الجريمة المنظمة، واتساع رقعة اللااستقرار، ومع ذلك، لا يصل في هذه الدول عدد المسجونين إلى الأرقام التي وصلنا إليها في المغرب، وقبل أن نعرف السبب، إليكم الأرقام بمصادرها الرسمية وغير الرسمية، وهي متطابقة إلى حد بعيد، والأرقام لا تكذب: المعدل العالمي المقبول لعدد السجناء هو 155 سجينا لكل 100 ألف نسمة. هذا ما يقوله وحد من أرفع المعاهد الجنائية في العالم «Institute for Criminal»، أما في المغرب فلدينا 220 سجينا لكل 100 ألف نسمة، أي بزيادة 65 سجينا على ما هو موجود في دول نامية أو متخلفة، كما تريدون تسميتها (لا تتعدى نسبة السجناء في الجزائر 162 لكل 100 ألف نسمة، و76 سجينا لكل 100 ألف نسمة في مصر، و31 في نيجيريا، و50 في السودان)، لا نريد المقارنة بين المغرب ودول أوروبية متطورة من حيث التشريعات الجنائية ومن حيث العقوبات البديلة. سنويا يدخل إلى سجون المملكة ما بين 100 ألف معتقل إلى 110 آلاف، وهو رقم كبير جدا بالنظر إلى أشياء كثيرة، ومنها أن المغرب مصنف من قبل مكتب الأممالمتحدة لمكافحة الجرائم في خانة البلدان الأكثر انخفاضا في معدلات الجرائم الخطيرة، فلا يمكن مقارنته بالمكسيك، مثلا، أو ببلدان أخرى في إفريقيا، علاوة على أن المملكة الشريفة بلد يعرف استقرارا سياسيا، وفيه حكومة مركزية، وقوانينه متشددة، ولا تسمح بانتشار السلاح في يد المواطنين، كما في بلدان أخرى… فلماذا تعج سجوننا بكل هذه الأعداد من السجناء والتي تفوق المعدل العالمي، كما يقول مؤشر المعهد الجنائي البريطاني؟ الجواب هو الاعتقال الاحتياطي، هذا هو «المجرم الحقيقي» الذي يرمي بالمغاربة في السجون قبل صدور أحكام نهائية، ويرفع من معدلات ساكنة الزنازين، في خرق فاضح لحقوق الإنسان، وأوله الحق في الحرية… ستسمعون من وزارة العدل ومن النيابة العامة تبريرا لهذه الوضعية يقول: ‘‘إن السياسة الجنائية في البلد قائمة على «الضبط والربط»، وإنه من الأفضل أن يقع الخطأ في الاعتقال على أن يقع الخطأ في إطلاق السراح، وإن المجتمع المغربي لا يتفهم إطلاق سراح الماثلين أمام النيابة العامة، خاصة في جرائم وجنح تمس بالسلامة العامة للأفراد والجماعات''، وهذا التبرير، رغم عيوبه الفلسفية والحقوقية والقانونية والإنسانية، فإنه لا يصمد أمام الأرقام مرة أخرى. في تقريره الصادر سنة 2012 حول وضعية السجون، أخبر المجلس الوطني لحقوق الإنسان أن أزيد من نصف المعتقلين «احتياطيا» تصدر في حقهم أحكام بالبراءة، أو بعدم المتابعة، أو بالعقوبة الحبسية أو السجنية الموقوفة التنفيذ، وهو ما يعني أن آلاف المواطنين يزج بهم في السجن سنوياً، في حين كان ينبغي أن يكونوا خارجه. إن النيابة العامة والمحكمة، التي رفضت طلبات السراح لكل هؤلاء، هما المسؤولتان عن قضائهم أشهرا عديدة في السجن ظلما وعدوانا. هذا يقع رغم وجود فصول في القانون المغربي لا تسمح بالتوسع في الاعتقال الاحتياطي إلا لضرورات حصرية، ولمقتضيات دقيقة، مثل المادة 398 من المسطرة الجنائية، التي تمنع تنفيذ عقوبة الحبس أو السجن النافذ الصادر ضد المتهم، داخل أجل استئناف هذا الحكم، وأثناء سريان مسطرة استئنافه، كما أن المادة 532 من المسطرة نفسها تمنع تنفيذ العقوبة الجنائية داخل أجل الطعن بالنقض وأثناء الطعن بالنقض… أين المشكلة؟ جواب هذا السؤال موجود في هذه القصة: قبل ثلاث سنوات، كنت في الدانمارك في مهمة صحافية، فطلبت حوارا مع وزيرة العدل الدانماركية، وكان شاغلي هو معرفة قصة نجاح العقوبات البديلة في هذه الدولة المتقدمة، فسألت الوزيرة: «من هي الجهة التي عارضت في بلدكم تطبيق العقوبات البديلة على المجرمين؟». ألقيت هذا السؤال وفِي ذهني أنها ستقول: «ضحايا المجرمين الذين يصادفونهم في اليوم الموالي لارتكاب الجريمة في الشارع أو في السوق»، وهذا مفهوم… لكن المفاجأة أن جوابها كان: «الجهة التي عارضت العقوبات البديلة عن السجن للمجرمين، هم القضاة الذين رأوا في هذه العقوبات تنقيصا من سلطتهم على المجرمين، ومسا بوظيفتهم التقليدية وسط المجتمع»، «وماذا فعلتم معهم يا سيدتي؟»، سألت مرة أخرى؟ فأجابت: «ببساطة أخضعناهم لإعادة التكوين، وشرحنا لهم فلسفة العقوبات البديلة… تصور مثلا أن شخصا سرق 1000 دولار، أو ضرب زميله في العمل وذهب إلى السجن لمدة ستة أشهر. في هذه المدة سيفقد عمله، وسيتوقف عن أداء أقساط دين منزله، وسيتخلف عن رعاية أسرته، وسيعاشر أثناء مدة الاعتقال مجرمين أخطر منه، وعندما يخرج من السجن لن يجد عملا بسهولة، ولن يجد أسرته، ولن يجد الاحترام الذي كان يحظى به في حيه، لذلك، فإن احتمال عودته إلى السجن يكون كبيرا، وهذا ما أظهرته الدراسات التي قمنا بها على سجناء خضعوا لعقوبات بديلة، مثل وضع سوار في الرجل، وملازمة مكان العمل والمنزل فقط، أو تنظيف الشارع، أو القيام بأعمال تطوعية، أو الخضوع لدورات علاجية وتأهيلية، أو الحرمان من حق التصويت، أو أداء مبلغ من المال للضحايا، أو غيرها من العقوبات. اتضح أن معدل ‘‘العود''، أي الرجوع إلى الجريمة، أقل بكثير من معدل عودة السجين، الذي قضى عقوبته وراء القضبان، إلى جرائم جديدة، وبعضها أخطر من الأولى التي سجن من أجلها». لا يمكن للمغاربة أن يتعايشوا مع هذا الظلم، ولا يمكن أن يعولوا فقط على رحمة القضاة وعلى تفهمهم لضرورات احترام حرية المتهمين، الذين يظلون أبرياء حتى إدانتهم نهائيا. لا بديل عن تغيير الممارسات أولا، والقوانين ثانيا، وإحداث منصب قاضي الحريات في المحاكم، ينظر فقط في طلبات السراح المؤقت، ثالثا، أما تغيير فلسفة القانون الجنائي المغربي، القائمة على القهر والتحكم والسيطرة، فهذه معركة خسرناها مع حكومة بنكيران ووزارة الرميد، ولا أظن أننا سنربحها مع حكومة العثماني ووزارة أوجار.