مع بداية سنة 1925، أصدر قاض شاب يُدعى علي عبد الرزاق، شيخ أزهري حاصل على درجة "العالمية"، كتابا صغير الحجم بالكاد يتجاوز عدد صفحاته المائة، عنوانه "الإسلام وأصول الحكم". كتاب أحدث ضجة وردود فعل ما تزال مستمرة إلى يومنا هذا؛ ما جعل صاحبه ومؤلفه يصفه بأنه "قول غير معروف وربما استكرهه سمع المسلم"، غير أنه كان عنده أمل "أن يجد الباحثون في هذه الورقات شيئا من جدة الرأي". جدل السياسة والدين في تأليف الكتاب الفكرة المحورية لهذا الكتاب تتلخص في قول الشيخ على عبد الرازق إن الإسلام دين لا دولة، ورسالة روحية لا علاقة لها بالحكومة والسياسة الدنيوية وعمارة الكون وتنظيم المجتمعات، وأن نبي الإسلام لم يؤسس دولة ولم يرأس حكومة ولم يسس مجتمعًا، ولم يدع إلى شيء من ذلك، بل كان رسولا فقط ما عليه إلا البلاغ. وبعد صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" قامت على مؤلفه الدنيا ولم تقعد، فتم فصله من عمله في 17 سبتمبر سنة 1925 تنفيذا للحكم التأديبي الذي أصدرته هيئة كبار العلماء في 12 غشت من السنة نفسها، وبموجبه أخرجت الشيخ من زمرة العلماء ونزعت عنه لقب أو جائزة "العالمية". وجاء صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" في سياق ملابسات وظروف سياسية كانت تمر منها مصر، ألقى فيها الشيخ على عبد الرازق بكتابه القنبلة، الذي أنتج ردود فعل اختلفت وتباينت تجاه الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب الصغير جدا من حيث الحجم؛ حيث إنه في سنة 1925، صدور الكتاب، كان الدستور معطلا وسعد زغلول مبعدًا عن الحكم، وكان الملك فؤاد يحكم مصر حكما استبداديا بواسطة وزارة ائتلافية من حزبي الاتحاد والأحرار الدستوريين، يرأسها أحمد زيور باشا. وقبل صدور هذا الكتاب بعام فقط، كانت الخلافة الإسلامية قد سقطت في 3 مارس سنة 1924 في تركيا تحت أقدام مصطفي كمال أتاتورك الذي طارد في بلاده نظام الخلافة الإسلامية، وهكذا لأول مرة منذ وفاة النبي عليه السلام، تخلو الدنيا من الخلافة الإسلامية، فالتقط الإنجليز الخيط، ودارت في رؤوسهم فكرة إنشاء خلافة إسلامية جديدة تنمو في حمايتهم وتحت نظرهم ورعايتهم، بمعنى تأسيس خلافة إسلامية تابعة للإنجليز، أي "خلافة إسلامية عميلة". وفي السياق التاريخي نفسه، تطلعت جهات وأوساط متعددة في مختلف أنحاء العالم الإسلامى لإحياء وتجديد هذه الخلافة، بعضهم يرى أن الخلافة "واجهة يقف خلفها المسلمون في معركتهم ضد زحف الغرب وأطماع الاستعمار"، ويراها آخرون "أثرا عزيزا من آثار تراث عزيز وغال تستحق العمل لمد أجلها والاحتفاظ بها للإسلام والمسلمين"، ويراها البعض "واجبا دينيا وأصلا من أصول الإسلام يأثم المسلمون جميعا بتركها فريسة للموت والفناء". كما طمعت في ملء هذا المنصب المهيب ملوك وأمراء، وفي مقدمتهم يومئذ نجد فؤاد الأول، ملك مصر. وعن نظام الخلافة الإسلامية، وضرورة تنصيب خليفة للمسلمين، عُقدت سلسلة من المؤتمرات الإسلامية لمناقشة فكرة الخلافة والترويج لها، كل هذا تمهيدا لإعلان تنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين. وفجأة، وبينما الخليفة المرتقب، الملك فؤاد، ينتظر سقوط الثمرة في فمه، والغرب بكامله يتطلع لملء الفراغ واستكمال سيطرته على البلدان الإسلامية من خلال سيطرته على هذا الخليفة، في هذا الوقت بالضبط يصدر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ليقرر فيه الشيخ علي عبد الرازق أنه "ليس بنا حاجة إليها [الخلافة] لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين". وهكذا انطلق الشيخ علي عبد الرازق في استنكاره ورده على فكر العلماء القائل بوجوب "الخلافة والإمامة وجوبا دينيا"، وقال إن هؤلاء العلماء بلسان أغلبيتهم الساحقة ومن خلفهم عامة المسلمين قد تصوروا "الخليفة" حاكما مطلقا يستمد سلطانه وسلطاته من الله سبحانه وتعالى، ويمتلك ولاية عامة وتامة وشاملة على دين الناس ودنياهم كولاية الله سبحانه وولاية الرسول، "بل لقد رفعوه فوق صف البشر ووضعوه غير بعيد من مقام العزة الإلهية، وهو يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته من قوته". واعترض علي عبد الرازق على الرأى القائل بأن الخلافة ضرورية لبقاء الدين، بقوله: "معاذ الله أن يجعل عز هذا الدين وذله منوطين بنوع من الحكومة ولا بصنف من الأمراء، ولا يريد الله جل شأنه لعباده المسلمين أن يكون صلاحهم وفسادهم رهن الخلافة ولا تحت رحمة الخلفاء". ويهدف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" إلى إثبات أن "الإسلام دين روحي لا دخل له بالسياسة"، أو بالأحرى "لا تشريع له في مجال السياسة، فالسياسة أمر دنيوي يعود للناس اختيار وسائله ومبادئه". وهكذا يرى أن "نظام الخلافة الذي نسب للإسلام ليس من الإسلام في شيء، إنما هو من وضع المسلمين". شعر الملك فؤاد بأن عبد الرازق سيقطع عليه الطريق أمام تولي الخلافة، فصدرت في حقه أحكام قاسية بإجماع كبار المشايخ والعلماء في الجامع الأزهر قضت بطرده من زمرة العلماء، وفصله من وظيفته في القضاء، وسحب إجازته العلمية من الأزهر. من هو مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم"؟ لما يقرب من قرن من الزمن على صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ما يزال الجدل دائرا لا ينتهي، أحيانا يخفت قليلا، لكنه في أحيان كثيرة يتجدد ويشتد ويثور. آخر مظاهر هذا الجدل ما فجره الدكتور محمد عمارة في مؤتمر "في الفكر النهضوي الإسلامي" الذي عقد بمصر في السنوات الأخيرة؛ إذ أكد في تعقيبه على الورقة البحثية للباحث عمار علي حسن أن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" كان "شركة بين طه حسين وعلي عبد الرازق". ويرى محمد عمارة في كتابه "الإسلام بين التنوير والتزوير" أن تتبع موقف على عبد الرازق من كتابه منذ صدوره في شتنبر 1925 يأخذ موقف "المتبرئ" من مضمون الكتاب، فمواقفه الفكرية المتوالية تنقض القضية المحورية والخلافية التي قام عليها كتابه: قضية تجريد الإسلام من الشريعة المنظمة لإسلامية الدولة والسلطة، وعلاقته بشؤون العمران، وإصراره حتى في أثناء محاكمته التأديبية في أغسطس من العام نفسه على أن القول بروحانية الإسلام وشريعته، ونفي علاقته بالدولة والعمران، ليس رأيه. بل كان يردد أنه لم يقله لا في هذا الكتاب ولا في غيره. ويقول عمارة في كتابه "الإسلام بين التنوير والتزوير": "لقد بدأت قصة التشكيك في أن علي عبد الرازق هو المؤلف الحقيقي لهذا الكتاب في نفس عام صدوره"؛ إذ شكك الشيخ محمد بخيت المطيعي في ذلك وكان ينقل عن كثيرين ممن يترددون على الشيخ علي عبد الرازق أن الكتاب ليس من تأليفه، وإنما واضعوه من غير المسلمين وليس لعلي عبد الرازق فيه إلا وضع اسمه عليه فقط، أي إن الكتاب من وضع المستشرقين. وأشار محمد عمارة إلى شهادة الشيخ أحمد حسن مسلم، وذكرها في كتابه "الإسلام بين التنوير والتزوير"، المذكور فيه: "إنه فيما بين عامي 1942 و1948 كان الشيخ مسلم، وهو من علماء الأزهر وعضو لجنة الفتوى فيه، يعمل واعظا بصعيد مصر في مركز بنى مزار، حيث بلدة أبو جرج بلدة الشيخ علي عبد الرازق. وفي إحدى المرات قرر الذهاب إلى مضيفة أسرة عبد الرازق، وهناك التقى بالشيخ علي. وبعد صلاة المغرب، لاحظ الشيخ مسلم آيات الخشوع على الشيخ علي، حتى إنه "تنفل" بعد المغرب بست ركعات، والعادة أداء السنة بركعتين فقط، الأمر الذي جعل الشيخ مسلم يسأل الشيخ عبد الرازق، عن حرصه لأداء السنة بهذه الطريقة، وهو مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم". فسكت الشيخ عبد الرازق قليلا، وقال: وهل أنا الذي ألفت هذا الكتاب؟! إنما ألفه الدكتور طه حسين. فسأله، ولماذا نسبه إليك؟! فقال الشيخ علي عبد الرازق: لقد فاجأني بالكتاب وعليه اسمي، ولما سألته عن سبب ذلك، أجاب طه حسين، مازحا: لكي تكون لك شهرة عالمية، وذلك بعد أن تنقل عنك وسائل الإعلام الأجنبية والعالمية، وتتحدث عن هذا الكتاب وما به من فكر. وأضاف عمارة: وإذا كنا لا نملك الأدلة التي تجعلنا نقبل كامل رواية الشيخ أحمد مسلم، فإن لدينا من الأدلة ما يجعلنا نقول بوجود علاقة بين الدكتور طه حسين وبين هذا الكتاب، منها ما قاله طه حسين: "قرأت أصول كتاب الشيخ علي، قبل طبعه، ثلاث مرات، وعدلت فيه كثيرا". وأشار عمارة إلى أننا أمام اعتراف من الدكتور طه حسين بأن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" هو لعلي عبد الرازق، مع الإقرار بأن لطه حسين دورا في "تأليفه" وليس "تصحيحه"، فهو قرأ "أصوله" وليس "تجارب طبعه". وقرأ هذه الأصول ثلاث مرات و"عدل" وليس صحح". وأما الباحث عمار علي حسن الذي قدم ورقة بحثية في الندوة حول هذا الكتاب، فقد شدد على أنه "من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يكون طه حسين هو المؤلف الحقيقي للكتاب" لأسباب منها أن الأسلوب أو بنية الجملة في الكتاب تختلف تماما عن أسلوب حسين الذي كان يحمل "سمات شفاهية ظاهرة نظرا لأنه كان يملى كتبه ولا يخطها. وهذه مسألة لا نعثر عليها إطلاقا في طريقة وأسلوب علي عبد الرازق الذي نألفه في كتبه وأبحاثه الأخرى". وأضاف عمار أن طه حسين الذي كان معروفا بالشجاعة والاعتداد بالرأي لم يكن بحاجة إلى التخفي وراء أحد ليطلق أفكاره، وفي الوقت نفسه كان عبد الرازق "مكتمل القيمة والقامة الفكرية معتدا برأيه، ولم يكن يقبل أن يكتب له أحد أو ينتحل ما أنتجه غيره من معرفة وأفكار"، مستشهدا بطبعة جديدة صدرت في الآونة الأخيرة عن دار الهلال بالقاهرة بمقدمة لابنه السفير ممدوح عبد الرازق. وأوضح عمار أن "البعض يسعى دوما إلى تشويه الأفكار التي يختلف معها بالطعن في أصالتها والتقليل من قدرات صاحبها، وحدث الأمر نفسه مع قاسم أمين حين قال البعض إن كتابه "تحرير المرأة" هو من تأليف الإمام محمد عبده، كما حدث مع طه حسين أيضا حين قدح أعداؤه في كتابه "في الشعر الجاهلي" وقالوا إنه من وضع أستاذه المستشرق البريطاني ديفيد صمويل مرجليوث". وما يزال كتاب "الإسلام وأصول الحكم" مثيرا ... يثير النقاش ويدعو إلى الحوار!