تقدم جريدة هسبريس لقرائها الأوفياء، داخل المغرب وخارجه، كتاب "عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر" لمؤلفه الدكتور علي الإدريسي، في حلقات، خلال شهر رمضان الكريم. هذا الكتاب، الذي تنشره هسبريس بترخيص من مؤلفه الدكتور علي الإدريسي منجما على حلقات، لقي ترحابا واسعا من قبل القراء المغاربة ولا يزال، إلى درجة أن الطبعتين الأولى والثانية نفدتا من المكتبات والأكشاك؛ بالنظر إلى شجاعة المؤلف في عرض الأحداث، وجرأته في تحليل الوقائع بنزاهة وموضوعية. الكتاب من أوله إلى آخره اعتمد الوثائق النادرة في التأريخ للزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بأفق وطني يتسع لجميع المواطنين المغاربة، على عكس الطريقة التي "اعتاد عليها أولئك الذين حاولوا احتكار الوطنية وتأميم مستقبل المغرب، والتحكم في مصير أبنائه قرونا أخرى"، يضيف على الإدريسي في تقديم الكتاب. الحلقة 13 لحظات من تاريخنا بين الحصار والنسيان إن الناظر في تاريخ المغرب، قديمه وحديثه، سيتكون لديه انطباع عام، قد يرقى أحيانا إلى درجة اليقين الإيديولوجي؛ يفيد أن تاريخ المغرب لا يبدأ إلاّ مع المرحلة الإسلامية. وكأن المرحلة السابقة عن الحقبة الإسلامية لم يكن لها أي وجود يذكر ، أو حضور ثقافي. ويؤسس تاريخ المغرب في الغالب مع عقبة بن نافع الفهري، وموسى بن نصير، ثم إدريس بن عبد الله الكامل، الذي استقل سياسيا بالمغرب عن الخلافة العباسية سنة 172ه. وحتى إمارة النكور الإسلامية في الريف، التي قامت قبل اذلك بحوالي 100 عام لا يعتد بها، ولا تذكر في المراجع المدرسية. دون ذكر الأسباب الكامنة وراء ذلك. يتم التركيز على إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل، بوصفه المؤسس الأول للدولة المغربية. وقد أقيمت احتفالات كبرى سنة 2008 بمناسبة مرور 12 قرنا على تأسيس مدينة فاس العاصمة الإدريسية، بصفتها مبتدأ الدولة المغربية. ويتم تداول عبارة "الدولة المغربية ذات أل 12 قرنا"؛ على عكس التونسيين الذين يكرس خطابهم الرسمي أطروحة ثلاثة آلاف سنة من تاريخ تونس السياسي والحضارة. ويكرس الخطاب الجزائري وجود دولة الجزائر منذ الحقبة النوميدية، أي منذ 2000سنة. أما في المغرب فقل ما يشار، وباحتشام كبير، إلى المرحلة السابقة عن وصول العرب إليه إلا عرضا. من هنا تبدأ ما يمكن تسميتها بثقافة النسيان. فإذا كان خطاب ما قبل الاستعمار الحديث لا يقيم وزنا لمرحلة ما قبل وصول العرب إلى المغرب، فإن غالبية الكتابات التي ظهرت عقب الاحتلال الفرنسي جنحت إلى اعتبار المارشال ليوطي (المقيم العام الأول لفرنسا في المغرب بعد احتلاله) المؤسس للدولة المغربية الحديثة، أو كما يقول الفرنسيون ومن والاهم «Fondateur du Maroc». أما ما كان قبل ذلك فهو مجرد أمبراطورية شريفية بنظامها الثنائي: المخزن/السيبة، أو إيالة سلطان فاس. والسلطان مولاي يوسف أقر بنفسه في خطابه الباريسي في 14 يوليوز 1926 بأن المغرب مجرد أيالة مظاهر من ثقافة النسيان وهكذا أصبحت المحددات اليوطية للمغرب الحديث بمثابة مشروع سياسي للتحديث، ومقولات حان جوريس بمثابة منهاج للطبقة السياسية العصرية. أما الذين منحوا لأنفسهم صفة "قادة الحركة الوطنية السياسية" فقد اعتبروا أنفسهم الورثة الشرعيين لغنائم حرب لم يخوضوها؛ وكان أقوى سلاحهم في ذلك، العمل على نشر ثقافة النسيان: نسيان دور المغاربة الأحرار في الدفاع عن الوطن ومقدساته وصيانة استقلاله، ونسيان حق كل المغاربة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل مناطق المغرب، ونسيان كثير من مقومات ومكونات الشخصية الثقافية المغربية، ونسيان حق المغاربة السياسي بالمشاركة في القرار السياسي. فهل نجحت إيديولوجية ثقافة النسيان في إقصاء وإبعاد ما لا يلائم توجهات أصحابها؟ وهل أدركنا ما مدى التخريب الذي ألحقته بالذاكرة الجماعية للمغاربة؟ وما الأثر الذي تركته على انسجام المجتمع المغربي في مسيرته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ وهل من مصلحة المغرب والمغاربة أن يتم التنكر لأعمال وطنية ولقيم ثقافية، لا لشيء إلا لأنها لا تتماشى ورغبات الزعامات المهيمنة والفئات المستفيدة وورثة ليوطي؟ نعتقد جازمين بأن المغاربة قادرون على اختيار الانحياز للوطن ولقيم المواطنة التي يسعى المغرب الجديد إلى إشاعتها، والاعتزاز بما حققه أجدادهم لوطنهم من ريادة تحررية في العالم. فالشعوب التواقة إلى التحرر من نير الاستعمار رأت مثلا في حرب التحرير في الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي الشمعة التي أنارت لهم الطريق إلى الحرية، حين كشفت عورة الاستعمار، وأن تلك الحرب برهنت على أسبقية الانطولوجيا الإنسانية على الإيديولوجية الاستعمارية بكل محمولاتها. حاول البعض في المغرب إسدال ستار النسيان على إنجازات عبد الكريم المادية والمعنوية؟ إن الرجل، عند كثير من المؤرخين والدارسين غير المغاربة، يعد «أول إفريقي شمالي نادى بتطبيق مبدأ تقرير المصير على ضحايا الامبريالية.» ويثمن روبيرت فورنو مكانة الخطابي عند الذين عرفوه بقوله: «إنه شخص مبجل في العالم العربي، فأولئك الذين عرفوا عبد الكريم يتحدثون عنه كما لو كانوا يتحدثون عن النبي، كما نتحدث نحن البريطانيين عن شرتشل، وكما يفكر الهنود في غاندي.» وأكد علال الفاسي من جانبه أنه لاحظ أثناء إقامته في القاهرة «أن جميع القادة الوطنيين القادمين من الشرق الأوسط، وبخاصة السوريين والعراقيين، كانوا يعترفون علنا بما يدينون به ثقافيا وسياسيا لعبد الكريم»؛ والرؤية نفسها عبر عنها المفكر السوري قدري قلعجي بطريقته الخاصة في كتابه " ثمانية من أبطال العرب" الذي ذكر فيه، إنه عندما قرر زيارة مصر أوصاه أحد أصحابه بأن لا ينسى زيارة الأهرام فأجابه: «كلا.. إن هناك ما هو أهم وأكبر من الأهرام... هناك عبد الكريم الخطابي»؛ ثم يخرج قلعجي، بعد مقابلات مع الخطابي، بخلاصة عبر عنها بقوله: «إني لقيت رجلا كأحد صحابة الرسول تقيا وورعاً وإخلاصا وطهراً؛ فهما وبعد نظر.» أما جريدة التايمز اللندنية فقد اعتبرت «عبد الكريم بطلا قوميا نجح في طرد الاسبان عسكريا من المناطق التي كانوا قد احتلوها، وصَمد بوسائل بسيطة أمام أكبر جيش شهدته بلاد البربر منذ زمن القرطاجيين.» ويبقى بعض المؤرخين الفرنسيين، وبخاصة أولئك الموالين للنزعة الاستعمارية والممجدين للكبرياء الفرنسي، يصرون على أن عبد الكريم الخطابي مجرد زعيم قبلي، إذ وصفه أحدهم «بآخر اختلاجات النظام القبلي القديم.» أما جاك بيرك فيخفف من النزعة الاستعمارية عند بعض المؤرخين، كما يخفف في آن واحد، من تلك الآثار التي أصابت الكبرياء الفرنسي على يدي عبد الكريم، ويسجل أن ظاهرة الحرب الريفية، بقدر ما كانت تمثل الشرف القبلي والنزعة المعادية للأجانب والحرب المقدسة؛ كانت تمثل ظهور قائد سياسي تخطى كثيرا الزمن الذي ظهر فيه. «فلسنا هذه المرة أمام ولي محلي يقود الجهاد ضد الكفار ويبشر بالجنة للمؤمنين، بل إننا أمام قائد سياسي يطال طموحه الفكرة الوطنية، وحتى اللعبة الدولية. إن الدعم الذي تلقاه من "الكومنتيرن" وكذلك من الحزب الشيوعي الفرنسي، والعلاقات التي نسجها مع العالم الإسلامي في زمن شهد غليان الثورة الثانية في دمشق تجعل منه نموذجا، وأما انسحاقه الأخير أمام قوى تفوقه حجما فلن يزيده إلا بروزا.» والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا، ونحن نورد أمثلة وصورا عن مكانة هذا البطل في العالم، هو: كيف تعامل معه أهل وطنه، وبخاصة زعماء الحركة الوطنية؟ هل اعتبروا الخطابي مرجعا لنضالهم؟ وهل تم الاستئناس بآرائه في منهجية استرجاع المغرب لاستقلاله؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي يجب أن تطرح من قبل المهتمين بتاريخ المغرب المعاصر ومستقبله، ف «قيمة البطل التاريخي لا تكمن في ما فعله فقط بل في ما تركه ليفعل» ، على حد تعبير جاك بيرك. تجب الإشارة في البداية إلى أن أدبيات كتلة العمل الوطني؛ ثم بعد ذلك الحركتين الوطنيتين، تكاد تكون خالية من كل تصريح أو تلميح إلى أهمية ما أنجزته حرب التحرير الوطنية بقيادة عبد الكريم الخطابي ما بين 1921 و1926. وقد أشرنا إلى هذا الموضوع في فصل آخر من هذا الكتاب. لكن من الواجب العلمي والوطني أيضا أن يعاد طرح السؤال الآتي: هل الكفاح المسلح في مغرب الخمسينيات كان من صنع الحركة الوطنية فعلا؟ إن طرح مثل هذا السؤال يحيلنا إلى استفتاء قادة جيش التحرير في الموضوع. فهؤلاء القادة، على الرغم من اختلافاتهم الثقافية والإيديولوجية، اتفقوا على الأقل بأن قادة الحزبين الوطنيين، باستثناء أقوال لعلال الفاسي، كانوا ضد انطلاق الكفاح المسلح، بل اعتبروه عملا إرهابيا ، ويسجل ذلك أيضا بعض الساسة الفرنسيين الذين أشرفوا وقادوا محادثات إيكس ليبان في مذكراتهم. أما إذا عدنا إلى علاقة الحركة الوطنية بعبد الكريم، وتحديدا إلى مستوى التأريخ للحركة الوطنية، فإننا نجد كتاب عبد الكريم غلاب مثلا يؤرخ لمنطلق الحركة الوطنية "من نهاية الحرب الريفية". ويستفاد من إشارات المؤلف إلى أن تلك الحرب لم تكن حربا وطنية بقدر ما كانت مجرد رافدا للحركة الوطنية التي تنطلق بعد ذلك «كبلورة لجميع الأحاسيس والمشاعر الشعبية التي كانت تبرز هنا وهناك كتعبير واضح عن جميع ما كان يتحدث به الشعب إلى نفسه، وهو يبحث عن الطريقة التي ينبغي أن يعبر بها بعد أن عبر عنها بالسلاح في الصحراء والأطلس والريف.» يبدو أن هذا الرأي يحاول أن يوحي بأن الحركة الوطنية، كحالة ذهنية واجتماعية، أسمى من مرحلة الحرب الريفية، التي تبقى وفقا لهذا المنظور، حربا محلية! على الرغم من أن كتاب "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" للزعيم علال الفاسي، الذي كتب قبل كتاب "تاريخ الحركة الوطنية" بثلاثة عقود، كان له رأي آخر في الحرب التي قادها عبد الكريم؛ فهو يؤكد أن عبد الكريم رفض شروط الصلح الإسبانية الفرنسية التي «تضمن لأهل الريف حريتهم التامة في شؤونهم الزراعية والاقتصادية والإدارية ... (لأن) هذه المطالب لم تتفق مع ما يريده الأمير من حرية تامة لسائر مناطق المغرب.» ثم يوضح أن دستور جمهورية الريف لم يعترف بأي معاهدة تمس بحقوق المغرب وبخاصة "معاهدة 1912"، ثم يخلص إلى القول: «...وإذن فالحرب الريفية كانت مع تمسكها بوحدة التراب المغربي في ظل العرش العلوي ترمي إلى أمرين: استقلال البلاد وتمتيعها بالحكم الدستوري.» والواقع أن الذين اختلفوا مع عبد الكريم وجهوا جهودهم غداة الاستقلال إلى تصفية خصومهم والمخالفين لهم في الرأي، فكل من لم يعلن ولاءه للحزب العتيد عد خائنا؛ وكان في مقدمتهم عبد الكريم نفسه الذي أصبح اسمه لا يذكر إلا كما كان يذكر اسم نابليون من قبل الملكيين الفرنسيين؛ أو اسم علي بن أبي طالب من على منابر الأمويين، وحصدت الاختطافات والتصفيات الجسدية كل من يشتم فيه رائحة ما من آراء عبد الكريم. ولا تزال قصص من نوع ردهات جنان بريشة وأحداث 1958 لم ينفض عنها كل الغبار، فالمرحلة التاريخية التي يمثلها عبد الكريم لا تزال معتقلة من قبل أباطرة نشر ثقافة النسيان، كما لا يزال هو نفسه منفيا حيا وميتا، على الرغم من الإشارات القوية التي حملها خطاب محمد الخامس في مدينة الحسيمة سنة 1957 عند زيارته إقليمالحسيمة حيث قال:«... ولما جاءت الدولة العلوية اعتمد المولى إسماعيل، قدس الله روحه، على أبطال الريف وإخوانهم الجبليين في تحرير طنجة والعرائش وأصيلة، فأبلوا البلاء الحسن. ومنذ تلك الساعة وأهل الريف يوالون خدمتهم للبلاد وإخلاصهم للعرش العلوي وتمسكهم بملوكه. وقد كان للشريف سيدي محمد أمزيان فضل القيادة الأولى لمقاومة الاستعمار...، تلك المقاومة التي واصلها من بعده القائد عبد الكريم الخطابي ثم ولده محمد وأخوه، والكثيرون من أبطالكم... وتنويها بما قام به أولئك المجاهدون، وإرجاعا للحق إلى نصابه، فقد قررنا أن نرد على السيد محمد بن عبد الكريم وأخيه وعلى أولئك الذين امتحنوا وقاسوا النفي في سبيل الوطن والملك أملاكهم الثابتة لهم شرعا، والتي حجزها المسؤولون إذ ذاك.» وها قد مر أكثر من ستة عقود من الزمن على عودة محمد الخامس، وعلى تجاوز معاهدة الاحتلال، فإن مروجي ثقافة النسيان ما زالوا يعتقدون أنهم تمكنوا من إحداث ثقب في ذاكرة الوطن، لكي يدحرجوا من خلاله كل ما لا يلائم مصالحهم الفئوية، كعادتهم طوال قرون. لكن ضمير الشعب والأمة بقي حيا يقاوم احتكار التاريخ الوطني، كما قاوم منذ قرون كل أشكال التشويه في حق يوغرطة وتكفريناس وماسينيسا والكاهنه وكسيله، وميسرة المطغري وموسى بن أبي العافية والدلائي وغيرهم. فالمغرب المستقل، الذي لم تلتئم جراحه، وتكتمل وحدة ترابه بعد، وتتحقق نفس الفرص لكل أبنائه، شهد عواصف سياسية، واحتجاجات اجتماعية وانتفاضات شعبية، لأن المغاربة الذين كانوا ينتظرون التغيير الإيجابي لأوضاعهم في دولتهم المستقلة أدركوا أن مشروع التغيير قد أجهض، وأن الذين عملوا تحت الشرعية الاستعمارية والحماية الأجنبية هم الذين استفادوا من الاستقلال دون غيرهم، «وأن المنجل الاستعماري الذي كان مسلطا على رقاب الشعب زمني الاحتلال والتسلط لم يتغير، وكل ما تغير فيه هو لون قبضته الذي أصبح مغربيا» ، على حد تعبير زميلنا زكي مبارك. وتوالت الأحداث متسارعة، وكان أخطرها محاولتي الانقلاب في سنة 1971 و1972، وأحداث 3 مارس 1973 المسلحة في منطقة مولاي بوعزة، إضافة إلى شظايا الحرب الباردة التي اختارت الأقاليم الصحراوية، هذه الأقاليم التي قرر المغرب أخيرا استرجاعها إلى حضن الوطن. وهكذا بدأ المغرب يدفع ثمن أخطائه؛ ثمن تصفية جيش التحرير وقطع الطريق على مشروع الخطابي الرامي إلى التحرير الشامل لكل المغرب، لأن الجميع، أي القصر والوطنيين، حسب تعبير أحد قادة جيش التحرير، «كان منغمسا في نشوة النصر، يتذوق طعم ما تحقق، ويخطط لمستقبل غامض ولمصالح ضيقة.»