الجزائر و"الريف المغربي" .. عمل استفزازي إضافي أم تكتيك دفاعي؟    حقوقيون مغاربيون يحملون الجزائر مسؤولية الانتهاكات في مخيمات تندوف        لفتيت يستعرض التدابير الاستباقية لمواجهة الآثار السلبية لموجات البرد    الاتحاد الأوروبي يمنح المغرب 190 مليون أورو لإعادة بناء المناطق المتضررة من زلزال الحوز    تعزيز وتقوية التعاون الأمني يجمع الحموشي بالمديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية    الرجاء والجيش يلتقيان تحت الضغط    في سابقة له.. طواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية يعبر صحراء الربع الخالي    الوالي التازي يترأس لجنة تتبع إنجاز مشروع مدينة محمد السادس "طنجة تيك"    السكوري يلتقي الفرق البرلمانية بخصوص تعديلات مشروع قانون الإضراب    الإنترنت.. معدل انتشار قياسي بلغ 112,7 في المائة عند متم شتنبر    المدعو ولد الشنوية يعجز عن إيجاد محامي يترافع عنه.. تفاصيل مثيرة عن أولى جلسات المحاكمة    ارتفاع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    لاعبتان من الجيش في تشكيل العصبة    تكريم منظمة مغربية في مؤتمر دولي    ليبيا: مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي يجدد التأكيد على أهمية مسلسلي الصخيرات وبوزنيقة    "البيجيدي": الشرعي تجاوز الخطوط الحمراء بمقاله المتماهي مع الصهاينة وينبغي متابعته قانونيا    غرق مركب سياحي في مصر يحمل 45 شخصاً مع استمرار البحث عن المفقودين    حموشي يستقبل المديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية بالرباط    المغرب يفقد 12 مركزاً في مؤشر السياحة.. هل يحتاج إلى خارطة طريق جديدة؟    ريال مدريد يعلن غياب فينسيوس بسبب الإصابة    «الأيام الرمادية» يفوز بالجائزة الكبرى للمسابقة الوطنية بالدورة 13 لمهرجان طنجة للفيلم    في لقاء عرف تفاعلا كبيرا .. «المجتمع» محور لقاء استضافت خلاله ثانوية بدر التأهيلية بأكادير الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي    تكريم الكاتب والاعلامي عبد الرحيم عاشر بالمهرجان الدولي للفيلم القصير بطنجة    بعد رفض المحامين الدفاع عنه.. تأجيل محاكمة "ولد الشينوية"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    استئنافية فاس تؤجل محاكمة حامي الدين إلى يناير المقبل    نقابة تنبه إلى تفشي العنف الاقتصادي ضد النساء العاملات وتطالب بسياسات عمومية تضمن الحماية لهن    العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي        إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    أسعار الذهب تقترب من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع    تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون        استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    تقرير : على دول إفريقيا أن تعزز أمنها السيبراني لصد التحكم الخارجي    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    6 قتلى في هجوم مسلح على حانة في المكسيك    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام    تحالف دول الساحل يقرر توحيد جواز السفر والهوية..    تصريحات حول حكيم زياش تضع محللة هولندية في مرمى الانتقادات والتهديدات    الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التاريخ المحاصر 21 .. مشاريع سياسية لبناء الدولة المستقلة
نشر في هسبريس يوم 06 - 06 - 2018

تقدم جريدة هسبريس لقرائها الأوفياء، داخل المغرب وخارجه، كتاب "عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر" لمؤلفه الدكتور علي الإدريسي، في حلقات، خلال شهر رمضان الكريم.
هذا الكتاب، الذي تنشره هسبريس بترخيص من مؤلفه الدكتور علي الإدريسي منجما على حلقات، لقي ترحابا واسعا من قبل القراء المغاربة ولا يزال، إلى درجة أن الطبعتين الأولى والثانية نفدتا من المكتبات والأكشاك؛ بالنظر إلى شجاعة المؤلف في عرض الأحداث، وجرأته في تحليل الوقائع بنزاهة وموضوعية.
الكتاب من أوله إلى آخره اعتمد الوثائق النادرة في التأريخ للزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بأفق وطني يتسع لجميع المواطنين المغاربة، على عكس الطريقة التي "اعتاد عليها أولئك الذين حاولوا احتكار الوطنية وتأميم مستقبل المغرب، والتحكم في مصير أبنائه قرونا أخرى"، يضيف على الإدريسي في تقديم الكتاب.
الحاقة 21
اختلاف المشاريع السياسية لبناء الدولة المستقلة
توقفنا في الحلقة السابقة عند دعوة العروي إلى استحضار آراء الحكيمين عبد الكريم وعلال الفاسي. لكننا نعتقد أن ما اعتبره العروي كلاما متقطعا للخطابي قد لا يبدو كذلك لمن يمعن فيه النظر من موقع آخر. فالخلاف المركزي بين القادة السياسيين والخطابي كان قبل كل شيء حول منظورهما إلى الاستقلال الوطني؛ فأولئك الذين شدوا الرحال إلى إكس ليبان مهرولين للحصول على حصتهم في المغرب المقطّع الأوصال، لم يكن لهم أي برنامج سياسي واضح المعالم والأهداف، كما أكد السيد الغالي العراقي في مذكراته، حين ذكر أن مجموعة تطوان، التي كانت تهيء لانطلاق جيش التحرير، استقبلت السيد المهدي بن بركة، قبل أن يتوجه إلى مفاوضات إكس ليبان، ولم تجد لديه أي مشروع سياسي يمكن طرحه على الجانب الفرنسي، بل اكتفى بالقول: «إن مطلب جماعة المفاوضين ينحصر في حماية أظهرهم، حتى يطمئنوا لمساندتكم ودعمكم.»
ومن جهة أخرى تؤكد شهادة المفاوض الفرنسي الرئيس، في مفاوضات إكس ليبان، ما ذهب إليه الغالي العراقي، من كون المفاوضين المغاربة لم يكن لديهم أي مشروع سياسي متكامل الأركان والأبعاد، أثناء استقبالهم من قبل الفرنسيين المفاوضين لهم؛ إذ يبدو أنهم ذهبوا إلى هناك لا للتفاوض حول الاستقلال، وإنما للحصول على اعتراف فرنسا برغبتهم في الاستقلال، ليس إلاّ. فقد نقل السيد إدغار فور(Edgard Faure) عن تقرير للوزير Pierre July، الوزير الكلف بالشؤون المغربية والتونسية قوله: «يبدو أن الوطنيين أكثر انشغالا بأن تعترف فرنسا رسميا برغبة المغاربة في الاستقلال، أكثر من اهتمامهم بأن تمنحهم إياه فورا». ويؤيد إدغار فور ما جاء في تقرير بيير جولي بما أبلغه إياه السيد عبد الرحيم بوعبيد، العضو البارز في وفد حزب الاستقلال إلى إكس ليبان، ومفاده «أن قادة جيش التحرير مصرون على القيام بتمرد عسكري منسق، يشمل مجموع البلاد المغربية الجزائرية، وأن الوطنيين المؤيدِين لفرنسا والأوفياء لمحمد الخامس وحدهم من يستطيع إيقاف تلك الدسائس الآن. وإذا تأخر الأمر بضعة أشهر دون تحرك سيكون الوقت قد فات. وسيشتعل المغرب العربي حربا.» ثم أضاف: «يمكننا أن نؤخر لبضع سنين استقلال المغرب بناء على اتفاق معقول بيننا (فرنسا) وبين السلطان الشرعي؛ غير أنه إذا تأخرنا في ذلك سيكون الوقت قد فات حتى لو قدمنا كل شيء لمحمد الخامس»، إلى أن قال: «إن عبد الرحيم بوعبيد لم يخف عني وجود تيارات متعددة بين المجموعات الوطنية ليس لها توجه عسكري، فإذا تحركنا بسرعة ستلتف تلك التيارات حول محمد الخامس، فيصبح ساعتها تحييد وعزل المحاربين الثوريين أمرا ممكنا.»
في واقع الأمر شارك هؤلاء "الوطنيون" بقوة في عزل الثوريين وقطع الطريق على جيش التحرير وعلى عبد الكريم الخطابي. وقد حاول الفقيه البصري استعادة مجريات الأحداث، بعد انقضاء نصف قرن من الزمن عن تلك المرحلة الخطيرة من التاريخ السياسي للمغرب، فأوضح أن اتفاقا عقد بين الأحزاب والملك محمد الخامس في باريس، بعد رجوع هذا الأخير من منفاه بمدغشقر، وكان هدفه «محاصرة المقاومة وجيش التحرير، وقطع الطريق على عبد الكريم الخطابي.»
لكن لماذا اتخذت العلاقة بين الخطابي وبين قادة حزب الاستقلال هذا المنحنى الذي أثر سلبا على المغرب، وهو يستعيد استقلاله ودوره في التاريخ، ويتلمس طريقه لبناء مستقبله السياسي؟ هل تعلق الأمر بصراع الأجيال السياسية كما قال المؤرخ زنيبر؟ أم أن التباعد حدث منذ أن قرر القادة " الوطنيون"، المنتمون إلى برجوازية المدن التقليدية، أن يبنوا "وطنيتهم" على أرضية مخالفة تمام الاختلاف لأرضية حركة الخطابي الوطنية، ذات الأصول البدوية، كما أشار إلى ذلك عبد الله العروي؟ أو أن المسالة لم تكن إلا ترجمة لنوايا وأهداف الزعيمين علال الفاسي والحبيب بورقيبة اللذين صرحا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، بأنهما كانا بحاجة إلى شهرة الخطابي في العالم وليس إلى خططه، لكون أن عملهما السياسي عمل شرعي ودستوري مخالف تماما لما قام ويقوم به الخطابي؟ أم أن تعميق الخلاف إلى درجة القطيعة والعداء كان استجابة لما سماه عبد الرحيم بوعبيد، كما ورد على لسان إدغار فور، حين نبهه إلى أمرين في غاية الخطورة على الوجود الاستعماري، أولهما، نصيحته لإدغار فور بقوله: «انتبهوا إلى البادية التي تعتقدون أنها منضبطة بالكامل، سيكون من الصعب ضبط الغرائز هناك، إن رد فعل الفلاجا ، الذي خبرتموه في تونس، سيكون أهون مما سيقوم به رجال البادية، أولئك الفرسان المهرة البدائيين»!!! وثانيهما، حثه على التعاون مع «الوطنيين المؤيدين لفرنسا والأوفياء لمحمد الخامس، (لأنهم) هم وحدهم من يستطيع إيقاف تلك الدسائس»، أي الأعمال الفدائية في المدن وتهيئة انطلاق جيش التحرير في جبال الريف.
والظاهر أن دلالة عبارتي " الوطنيين" و" الوطنية "، كما جاءت على لسان السيد بوعبيد، لم تكن زلة لسان، أو وليدة تحايل سياسي ظرفي؛ فالسيد بوعبيد الذي نُشرت هذه المذكرات في حياته، لم ينف مضمونها أو سياقها، ولم يعلق عليها. ثم بعد مرور خمسين سنة على الأحداث يأتي مؤرخ الجناح الأقوى في الحركة الوطنية السياسية، السيد عبد الكريم غلاب، ليرد متطوعا على منتقدي موقف قادة حزب الاستقلال من الأمير الخطابي، بعد أن افترق جمع لجنة تحرير المغرب العربي؛ وتهميش الرجل من مسلسل التسوية والاستقلال عن فرنسا وإسبانيا؛ وجاء الرد في جريدة " الأحداث المغربية "، عدد 23 يناير 2004، محشوا بكثير من التساؤلات عن إنجازات الخطابي في حركته المسلحة في العشرينيات من القرن الماضي، مستغربا استسلامه في الوقت الذي لم تكن هنالك دواعي كافية لذلك، حسب قوله، ثم راح يحكي بعض الحكايات عن نزوله ولجوئه إلى أرض مصر، والتي يبدو أنه أراد من خلالها تبرئة ذمة قادة حزبه مما وقع فيه المغرب المستقل من «أزمات شبه مزمنة ترتبط في أصولها ومسبباتها بمرحلة الكفاح التحريري الوطني»، على حد تعبير المؤرخ زكي مبارك. ومما جاء في تلك الحكايات أن الخطابي أصبح شيخا مضطرب السلوك لا يؤمن بالعمل الوطني؛ وقد عبر عن ذلك غلاب بقوله: «بعد ذلك، أصبحت مواقفه مطبوعة بالشدة والاضطراب، ولم يكن يؤمن بالحركة الوطنية، ولا بالعمل الوطني، ويؤمن بالقتال؛ وعندما نتحدث إليه عن العمل السياسي يرفض ذلك، ويشير بيده، وكأنه يحمل مسدسا»، إلى أن يقول: «ظل عبد الكريم الخطابي يؤمن بالعمل العسكري، ولما قام العمل العسكري في بلدان المغرب العربي، سواء جيش التحرير، أو ثورة الجزائر، أو الفلاكَة في تونس، إلا أنه لم يقتنع بذلك.»
نسي السيد عبد الكريم غلاب، الذي سماه والده باسم عبد الكريم، تبرّكا باسم عبد الكريم الخطابي وأملا في أن يسير على طريقه، أن الأحزاب السياسية التي لم تكن تؤمن بقتال المستعمر هي التي جعلت استقلال المغرب ناقصا، ووحدته الترابية مبتورة إلى اليوم، وأرغمت أجيال الاستقلال على دفع ضريبة كان يمكن أن تستغني عنها لفائدة التنمية الوطنية، لو استمع أولئك "الوطنيون المؤيدون لفرنسا والأوفياء لمحمد الخامس" إلى نداء عبد الكريم الخطابي المنتقد، برؤيته الاستراتيجية، لأخطار صفقة الاستقلال التي طُبخت في إيكس ليبان وقدمت إلى مائدة سال سان كلو ( La Celle Saint-Cloud) لتمريرها؛ ذلك النداء الذي جاء فيه: «إن المغرب لا يمكن أن يعتبر مستقلا إلا إذا انسحب عنه الجيش الفرنسي، ولم يبق بالإدارة المغربية أجنبي، وأن تعرب كلها. إن الاستقلال الذي يتوهم المغاربة معه أنهم مستقلون ليس إلا مخدرا ناولته فرنسا المغرب، لتتفرغ لمحاربة الشعب الجزائري المكافح. إن فرنسا لا تزال تسيطر بقوتها على الصحراء المتممة للمغرب، والتي لا يمكن للمغرب أن يحيى بدونها... فمن صالح المغرب أن يكافح في سبيل استقلاله الحقيقي، ما دام الشعب الجزائري يقلق فرنسا ويرغمها على أن تعيش في فقر وقلق؛ وليس للجزائر من مساعد ولا معين إلا الله سبحانه.
إن الثورة المغربية جاشت في صدور الأمة، حتى إذا أتت أولويات ثمراتها تزعمها متخرجو المدارس الفرنسية؛ فأول ما قاموا به أنهم حموا فرنسا، وأخذوا يشيدون بمجدها وعظمتها، ويصرحون في حق الإسلام والعروبة ما يستفضع الإنسان أن يفوه به. ستعلم يوما الأحزاب السياسية المغربية أنها كانت خاطئة في الانحناء أمام الاستعمار بالمغرب، مع أنها تعلم أن الشعب المغربي لا يزال يحمل من روح الثورة ما يكفيه لمواجهة رواسب وبقايا الاستعمار في بلاده.»
والواقع أن ما ذهب إليه السيد غلاب، في حق الأمير الخطابي، ليس جديدا على قادة حزب الاستقلال القديم، فقد كانوا ينشرونه في مجالسهم الخاصة والعامة، بل حتى في مهرجاناتهم. أما الذين كانوا يرددون أقوال الخطابي ونداءاته فكان مصيرهم ينتظرهم في معتقلات الحزب في طول المغرب وعرضه؛ حيث كان المختطف إليها مفقودا، والخارج منها مولودا. وقد تم إحصاء أكثر من 76 مركزا للاعتقال السري. وغاب عن أولئك المروجين للترهات الحزبية الحكمة التي تقول: إنك تستطيع أن تكذب على بعض الناس بعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تكذب على كل الناس كل الوقت؛ خاصة عندما يتعلق الأمر بشعوب تمتلك ذاكرة، لها القدرة على مقاومة ثقافة النسيان كالشعب المغربي.
شهادات على أسباب الإخفاق السياسي لأحزاب الحركة الوطنية
فلنترك، إذن، الأجيال لتعرف من كان وراء إجهاض مشروع المغرب المستقل، الذي كان يسعى إلى استرجاع كامل سيادته على كل ترابه الوطني، ومن كان وراء اضطراب أحوال المغرب المستقل، ومن كان وراء تخلفه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي طيلة ستين سنة من عمر الاستقلال.
لكن، ولكي تكتمل صورة الأحداث التي نجمت عنها سنوات الرصاص نستفتي بعض من عاصر تلك الأحداث رأيهم في وقائعها؛ ونقرأ في ما كتبوا ودونوا:
أولا: كتب السيد فتحي الديب، الضابط المصري المكلف بالتنسيق مع الأحزاب السياسية واصفا حال هذه الأحزاب، بعد اجتماعات ماراطونية معهم، بهدف تفعيل الكفاح ضد الاستعمار، فقال: «...لا أريد أن استفيض في شرح الصورة السلبية التي وصل إليها ممثلو الأحزاب في كلماتهم ومناقشاتهم، التي أقل ما يمكنني التعبير عنه هو أنني شعرت وكأنني أعيش وسط جماعة وجدوا أنفسهم، فجأة، على أبواب كنز فبدأوا يتصارعون على بابه، ليقضي كل واحد منهم على زميله لينفرد بالاستحواذ على الغنيمة.»
ثانيا: لخص السيد الغالي العراقي، وهو من قادة مجموعة تطوان لجيش التحرير، الذين صاغوا مشروعا لتحرير المغرب، الذي لم يكن مضمونه يختلف كثيرا عن رؤية الخطابي، وكان يتألف من:
« إرجاع الشرعية.....
إعلان استقلال المغرب داخليا وخارجيا
توحيد التراب المغربي بكل أجزائه المبعثرة بين عدة مناطق
الانسحاب الشامل لكل الجيوش الأجنبية من التراب الوطني
تكوين حكومة وطنية مؤقتة تسهر على بناء أسس الدولة الملكية الدستورية».
ومن جهة أخرى لخص السيد العراقي ما آلت إليه الأوضاع غداة الاستقلال الناجم عن مفاوضات، أو لقاءات، إيكس ليبان، وتصريح سال سان كلو، فقال: «لقد شارك الجميع، وتضامن الجميع مع أصحاب الحال في إجهاض حركة المقاومة وجيش التحرير الذي تشرد الكثيرون من أجله، واستشهد آخرون لتحقيقه وترسيخه... » ثم يقترب كثيرا من توصيف فتحي الديب السابق، حين أدرك بدوره «أن الجميع كان منغمسا في نشوة النصر يتذوق طعم ما تحقق، ويخطط لمستقبل غامض، ولمصالح ضيقة»؛ محملا مسؤولية ذلك للمؤسسة الملكية والحركة الوطنية والمقاومة المسلحة، على حد سواء.
ثالثا: انخرط الجميع، إذن، في تذوق طعم ما استولى عليه من كنوز" علي بابا"، أو ما أسماه فرانتز فانون بحلم المستعمَر «أن يأخذ مكان المستعمِر» ؛ ولكي يتم لهم ذلك يجب إيجاد المسوغ لإسكات كل صوت معارض. وكان ذلك المسوغ هو عبد الكريم الخطابي، فبدل أن يتم الالتفات إلى آرائه التي كانت تدعو إلى تحرير الوطن، كل الوطن، وبناء الدولة المغربية، لصالح كل المغاربة، راحوا يتهمونه بكل الأعمال السيئة، إلى درجة أنهم ربطوا بينه وبين الاستعمار ربطا سحريا، وهم مختصون في ممارسة السحر السياسي؛ أليس هم من "برهنوا" بسحرهم أنهم رأوا محمد الخامس في القمر؟!!. وها هو الفقيه البصري، الذي شارك في الأحداث قبل أن يكون شاهدا عليها، يروي لنا في مذكراته كيف كان يُقحم اسم الخطابي في التخلص من المعارضين لخلفاء الاستعمار فقال: «وكثر الإيحاء آنذاك بأن من يطرح موضوع إعادة بناء الدولة ومسألة الدستور، إنما يحركه عبد الكريم الخطابي "الجمهوري"، أو يخدم مصالح الاستعمار، أو يحاول التآمر على الملك.»
ليس الغرض من تقديم هذه الشهادات إبراء ذمة الأمير الخطابي مما ألصق به من تهم، ومن حرمانه من وطنه، حيا وميتا، فمثله لا يحتاج إلى شهادة إبراء ذمة، لأن مبادئه ومواقفه في تاريخ التحرر العالمي أشهر من نار على علم، وهي محفورة كذلك في ذاكرة المغاربة، جيلا بعد جيل، لا تستطيع ثقافة النسيان النيل منها؛ ثم أن وطنه ليس محصورا في قطعة أرضية، مهما تكن عزيزة وغالية، بل هو في كل مكان يكون فيه الثوار في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. لكن الذين يقدرون رموزهم الوطنية والتاريخية، إنما يصنعون لأنفسهم تاج العزة الوطنية ويضعونه على رؤوسهم بافتخار نبراسا يضيء لهم طريق الحرية والتقدم.
أما ما يتعلق بالتحايل على التاريخ، فمن المؤكد، بداهة وتجربة، أن لا أحد يستطيع تأميم التاريخ وتطويعه لرغباته؛ ولذلك يبقى القصد الأساس من تناول العلاقة بين الخطابي الوطني المحارب وبين الوطنيين السياسيين هو الحث على القيام بعملية نقد ذاتي لمسيرتنا، منذ أن وطأت أقدام الاستعمار ثرى بلادنا، وتعريف الأجيال بلحظات تضحيات آبائهم وأجدادهم ومكمن عثراتهم ، من أجل تجاوزها وعدم تكرارها؛ لأن الأجواء اليوم في المغرب لها كثير من القابلية لهذه العملية؛ نتيجة دروس المعاناة التي ذاق مرارتها المغاربة في العقود الماضية من عمر دولتهم الوطنية، خاصة وأن المؤسسة الملكية، التي كان يختبئ وراءها مؤممو التاريخ، أبانت منذ أن تولى محمد السادس سدة الملك عن قناعتها وإرادتها في ضرورة قيام المؤرخين بعملهم، بحيث لا يكون رائدهم في ذلك إلا سلطة العلم والضمير؛ وقد كان الخطاب الملكي بتاريخ 6 يناير 2006 الفيصل النهائي في الموضوع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.