لا شك أن أول ما ينتاب المرء وهو يهم بكتابة موضوع حول ثقافة شعبية تطفو على السطح كثقافة المقاطعة، وإن كان سيحتكم في الغالب الأعم إلى الابتعاد عن الإيديولوجية والقناعات الشخصية والخضوع للاحتكام الأكاديمي قدر المستطاع، هو أنه سيكون متابعا بشكل رسمي باعتباره: مأجورا وعميلا لأجندة معينة. يسعى إلى التموقع والتملق لأناس بعينهم. أنه ضد الإرادة الشعبية والوعي الجمعي. أكاديميا ويحاول قراءة الوضع بالتشخيص العلمي. لهذا عنونت المقال بالمقاطعة.. لله ثم للتاريخ حتى لا نخضع لمزايدة دعائية خارجة عن النقاش البناء والهادف، وحتى نبتعد عن المنطق الفرعوني (لا أريكم إلا ما أرى، ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد). إن المقاطعة جزء من التعبير عن رفض سياسة معينة يشرف عليها صناع القرار، خاصة الحكومات. فهي ظاهرة اجتماعية توحد الرأي بين مختلف الأطياف الاجتماعية، وشرطها الأساس السرعة في تدفق المعلومة، وتتبع مسارها من خلال استغلال سبل انتشارها، وهو الشرط الذي وجد قوته في مواقع التواصل الاجتماعي، والمقاطعة في تركيبتها الفلسفية تتحدد معالم نجاحها المقرون بالوعي الشعبي بثلاثة شروط، هي: أن تكون مقاطعة عامة دون تحديد لعلامة بعينها مع باقي المنتوجات، لأن فكرتها قائمة على توصيل الاحتجاج من خلال ممارستها. أن تكون المقاطعة محددة بمدة زمنية، لتراعي تبعات نتائجها وفلسفتها، المتمثلة بالأساس في تبليغ أثرها الاقتصادي والثقافي. أن تكون المقاطعة مسطرة لمطالب يرتجى تحقيقها، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية. غير أن ما يتداول في ممارسة المقاطعة من خلال تشخيص واقعها في مواقع التواصل الاجتماعي وقوفا على واقعنا، لم تخضع لأي من الشروط الثلاثة، ويذهب البعض في تقديرهم واجتهاداتهم إلى أن استهداف منتوج دون غيره سيكون رسالة لباقي المنتوجات الأخرى كي تأخذ زمام المبادرة في الاستجابة لمطالب لم تحدد من المقاطعين إلا تقديرا، علما أن غياب تحديد الشرط الزمني برهن أن المستفيد الأكبر هو العلامات التجارية الأخرى، التي لم تضع أي مبادرة في الاستجابة لحسن نوايا ممارسي فعل المقاطعة، بل بالعكس ازدياد الإقبال عليها جعلها تحصد أرباحا مضاعفة دون تحقيق شيء يذكر، وبقي الحال على ما هو عليه. وبغياب وضوح الرؤية أصبحت لغة المقاطعة لا تخرج عن كونها: -من قاطع غيرة وانسجاما مع مبدئه وأخلاقه. -من قاطع إمعة دون فهم وتبعا لغيره. - من قاطع ولكن لم يفهم لغة وثقافة المقاطعة. - من قاطع سفها واستهجانا وروج لجهله. وهو ما يعكس غياب إطار فعال يحمل الحكومة المسؤولية أو يبرئ ذمتها. كما أن المقاطعة في غياب شروطها فتحت باب الاستهجان السياسي من خلال بروز تيارين: تيار استعار مطالب المقاطعين واستثمرها في حواراته مع المنابر الإعلامية كبعض البرلمانين الذين يحسنون الركوب على الوعي الشعبي من خلال إعادة ما يروج أو الذهاب إلى إعلان التضامن، علما أن وظيفته ليست الشهادة بأن الشعب على حق، وإنما وظيفته كمنتخب نال ثقة الشعب أن يبحث عن الحلول، وأن يجد رابطا لوضع مطالب إن غفل عنها الشعب تكون بلسانه في مصلحة الشعب. وتيار آخر يقف على منصة البرلمان ليجيد لغة الصراخ بوجوب الالتفات إلى الشعب بعد مرور مدة ليست باليسيرة ليستفيق فجأة ويعلن أن الشعب على حق، علما أن وظيفته كبرلماني أن يقترح حلولا تناسب وقوع الحدث من خلال طرح مشاريع تسعى إلى استيعاب ما يطمح إليه المقاطعون الذين هم الشعب. المقاطعة والممارسة السياسية لقد كان لفعل المقاطعة أثر كبير في كشف الممارسات السياسية من قبل بعض السياسيين، الذين استغلوا محطتها لتصفية حسابات سياسية واضحة لا تعني المقاطعين في شيء، حيث نهلت تصريحاتهم ب (فلان انتهى سياسيا، والحزب الفلاني أصابته نكسة سياسية....)، وهذا كله خارج عن أدبيات المقاطعة وفلسفتها، بل انجر البعض دون دراية منه إلى ترويج الخطاب نفسه وهو لا علاقة له بالسياسة أو الممارسة السياسية، وما يغيب عن محترفي هذا الركوب على الإرادة الشعبية أن هذا الشعب أصبح واعيا متفطنا لممارسي النفاق السياسي، حيث تجاوز اللعب على مشاعره وينتظر حساب من استغل إرادته. ومن أبشع مظاهر الاستغلال السياسي أن كل التصريحات التي غلفت نفسها بأنها مع المقاطعة لم تعط أي حلول سياسية تحت قبة البرلمان ببرامج عملية تشخص الخروج من الأزمة بتطبيقات عملية وليس كلامية ترويجية تعيد لغة الشعب بنبرة حماسية لا غير. على السياسيين أن يتفاعلوا مع هذا التعبير الشعبي بما هو عملي وإجرائي وليس بغير ذلك. المقاطعة وهيبة الدولة ليس كل من تبنى فعل المقاطعة يمكن أن نجزم بارتقاء وعيه، وهو طبيعة الهدف من فعل المقاطعة، فهناك من يمارس المقاطعة واعيا بفلسفتها، وهناك من تختلط عليه المفاهيم فيمارس شططا في استعمال المقاطعة، تخرج في غالبيتها إلى الفوضى والتسيب، ومن التحضر إلى التخلف، ومن نقل وترويج الحقائق إلى الكذب وتلفيق الأحاجي على الغير( تحت ذريعة حب النكتة)، وهذه الفوضى تضع الدولة في تحمل مسؤوليتها بالتدخل في جعل الإطار القانوني والأخلاقي هو الذي يحكم تعبير الشعب عن إرادته، فبعض الناس بلغ بهم وعيهم تحميل الدولة تفاصيل جزئية يكون الشخص المعني هو المسؤول عنها أخلاقيا وقانونيا، علما أن الإطار العام ينبغي أن يحفظ هيبة الدولة بأن تكون صارمة في الحفاظ على السير السليم لأي عمل شعبي. كما طغى على لغة البعض شيطنة الدولة في كل شيء، وبالعودة إليه تجده فاشلا في كل شيء حتى في إدارة نفسه، فكيف يكون له الحق في التعبير عن خطأ الدولة أو لا. الدولة هي الوطن، والوطن فوق الجميع، والدولة هي الشعب، والشعب هو صمام أمانها، والدولة هي السيادة، والسيادة هي التي تترجم هيبتها. فلا يزايد عليها من خاب في عمله أو دراسته أو مشروعه أو طموحه. دروس من المقاطعة إن أهم الدروس التي ينبغي أن تستخلص من هذا الحدث الاجتماعي المترجم عمليا برفضه غلاء المعيشة أو سوء تسيير المرافق العامة أو غير ذلك أنه حقق مجموعة من المكتسبات العملية، سواء بالنسبة إلى الشعب أو الحكومة. فبالنسبة إلى الشعب أنه أصبح في شقه الأكبر يوحد رؤيته حول مطالبه من خلال رفضه لما يمس قدراته وخدماته المعيشية التي تهم حاجياته ومتطلباته، وأنه يستغل الوسائل التواصلية المعاصرة في التعبير عن إرادته متطلباته، وأنه أصبح ينسج خيوطا مشتركة للوعي الجمعي حول توحيد الهدف. أما بالنسبة إلى الحكومة، فأول استفادة من درس المقاطعة، علمها بمطالب الشعب المباشرة، والوقوف على حاجياته دون وسائط مراكز الدراسات والخبراء، وأن تعمد كذلك على تبني إجراءات عملية وبرامج تتوافق ومصلحة الجميع دون طرف على آخر. كما أنها تحدد معالم سلطتها وصلاحيتها التي تحفظ للاستقرار الاجتماعي وظيفته وللدولة هيبتها. وكذلك التركيز على برامج توعوية من خلال تحسين جودة التعليم ورفع منسوب الوعي الاجتماعي العام لتكون لكل محطة تدافعية بينها وبين الشعب آليات للحوار والمعالجة. المقاطعة والإعلام إذا كانت وسائط التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها "الفايسبوك"، منابر إعلامية ساهمت بصفة مباشرة في نشر مطالب المقاطعة، وبشكل سريع أكثر مما يتوقعه أي خبير، فإن هذا يعني وجود منبر إعلامي ذي خدمات مجانية يرفع الرتابة البليدة عن باقي المنابر الإعلامية الرسمية، فكان فعل المقاطعة في لغة الإعلام تطغى عليه العفوية الشعبية والغياب التام للمعالجة الرسمية. أما بالنسبة إلى العفوية الشعبية فكانت غالبيتها محددة في "الفايسبوك" وبعض برامج "السوشل ميديا"، وكذلك المنابر الإلكترونية، مع تقارير يتيمة ناقلة للواقع يغيب عنها حس المعالجة في نشرة إخبارية يتيمة، وقد أخذت هذه الممارسات بعدين، الأول: يكمن في النقل الخلاق لواقع المقاطعة بأسلوب يرقى إلى أدبيات الاحتجاج وإن غابت عنه شروطه. والثاني: بروز لغة التشفي وتصفية الحسابات بتوفير ترجمة الأجندة الخاصة لمالكيها أو مموليها. وبخصوص للمعالجة الرسمية، فالإعلام المغربي من خلال ممارساته لم يرق ولو بجزئية بسيطة ترافق التحول الكبير الذي عرفه المغرب والتطور القوي في الكثير من المجالات، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية، فهو في غياب تام عن موازنة متطلبات الدولة عموما، فكيف بهموم الشعب، علما أن أولى مبادراته، التي كانت ستساهم بشكل كبير في امتصاص مطالب المقاطعة، هي فتح نقاشات مع المثقفين والمقاطعين وصناع القرار تخرج الواقع من أزمته وتعطي حلولا إجرائية تعيد السير العام إلى طبيعته. لو كان الإعلام الرسمي (رغم عدم وجود منابر حرة للخواص، خاصة التلفزيون) قام بوظيفته لتوقفت المبادرات الغوغائية والعشوائية في استثمار المقاطعة. كما أن هذا البعد ساهم في تبني قنوات خارجية معالجة الموضوع بما يختلف تماما عن الموضوعية وتصعيد خطاب الحماس في بعض برامجها، وهي بعيدة كل البعد عن معرفة البنية الثقافية والاجتماعية بالمغرب، ومحاولة تغطية مدة زمنية لنشراتها الإخبارية بلغة وصفية، قد يكون تقرير الهواة في العالم الأزرق أفضل منه. المقاطعة والمثقف في الدراسات المرتبطة بالحضارة أن المثقفين هم صمام أمان التغيير من خلال التأطير والتوجيه، وفي فعل المقاطعة تبين أن المثقف مارس توجهه في النقاط التالية: مثقف واع بفعل المقاطعة اقتصر على النقاشات الجانبية مع إبداء التحفظ مخافة أن يتهم بالخيانة الشعبية. مثقف واع بفعل المقاطعة، لكنه استحلى متابعة التطورات المرتبطة بالمقاطعة فأصبغ عليها صبغة التهريج والمتعة. مثقف صامت يناقش نفسه ويحاسب غيره، في حين أن وظيفة المثقفين أن ينصهروا في هموم المجتمع ويعمدوا بمواطنة صادقة إلى إيجاد فضاءات للنقاش والمعالجة. من يتحمل المسؤولية قد تكون جرأة زائدة في تبني جواب عن هذا السؤال، ولكن هناك محددات تختلف حسب تصور ممارسي المقاطعة، فمثلا الزيادة في المحروقات جاء نتيجة قرار رئيس الحكومة السابق الأستاذ عبدالإله بنكيران، والمبرر الذي صرح به في العديد من المنابر الإعلامية بأن هذه الزيادات جاءت لمصلحة الشعب والوطن، وهو بذلك حمل مؤسسة رئاسة الحكومة هذا القرار، وتحرير قطاع المحروقات يفتح المجال للشركات المنافسة في السوق والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الفوائد جاءت نتيجتها لصالح الشركات الكبرى وعلى رأسها الشركات الأجنبية، وهذا انعكس على جميع القطاعات وكبد العناء للحكومة الحالية في إيجاد مخارج قانونية لصالح المقاطعين، فالمسؤولية على الحكومة في تفعيل حلول للصالح العام. وممن يتحمل المسؤولية الأحزاب السياسية، التي من الواجب عليها أن تكون ترجمة حقيقية لما يشغل الشعب والحكومة معا، وأن تكون طرفا مؤسساتيا محايدا يضع مشاريع وحلولا تتوافق مع الجميع وتعبر عن لسان الشعب. أما بالنسبة إلى الشعب فيتحمل مسؤولية مراقبة مكتسباته من الغوغائية، وأن يؤطر وعيه بالمنطق والعقل بالابتعاد عن لغة الانتقام وشحن العواطف.